صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( وأما النجس بملاقاة النجاسة فهو الأعيان الطاهرة إذا أصابتها نجاسة ، فينظر فيها ، فإن كان جامدا كالثوب وغيره جاز بيعه لأن البيع يتناول الثوب وهو طاهر ، وإنما جاورته النجاسة ، وإن كان مائعا نظرت فإن كان مما لا يطهر كالخل والدبس - لم يجز بيعه لأنه نجس لا يمكن تطهيره من النجاسة ، فلم يجز بيعه كالأعيان النجسة ، وإن كان ماء ، ففيه وجهان ( أحدهما ) [ ص: 281 ] لا يجوز بيعه لأنه نجس لا يطهر بالغسل ، فلم يجز بيعه كالخمر ( والثاني ) يجوز بيعه لأنه يطهر بالماء فأشبه الثوب . فإن كان دهنا فهل يطهر بالغسل ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا يطهر ، لأنه لا يمكن عصره من النجاسة فلم يطهر كالخل ( والثاني ) يطهر ، لأنه يمكن غسله بالماء فهو كالثوب ( فإن قلنا ) لا يطهر لم يجز بيعه كالخل ( وإن قلنا ) : يطهر ففي بيعه وجهان كالماء النجس ، ويجوز استعماله في السراج والأولى أن لا يفعل لما فيه من مباشرة النجاسة )


( الشرح ) قوله : لأنه لا يمكن عصره من النجاسة فلم يطهر كالخل ، هذا تعليل فاسد لأنه يقتضي أن المنع من طهارة الخل ونحوه والدهن إنما هو لتعذر العصر ، وقد علم أن الصحيح أنه لا يشترط العصر في طهارة المغسول من النجاسة ، بل التعليل الصحيح أنه لا يدخل الماء جميع أجزائه بخلاف الثوب ونحوه .

( أما الأحكام ) ففيها مسائل : ( إحداها ) إذا كانت العين متنجسة بعارض وهي جامدة كالثوب والبساط والسلاح والجلود والأواني والأرض وغير ذلك ، جاز بيعها بلا خلاف ; لما ذكره المصنف ونقلوا فيه إجماع المسلمين قال أصحابنا : فإن تستر شيء من ذلك بالنجاسة الواردة ففيه القولان في بيع الغائب .

( الثانية ) إذا كانت العين الطاهرة المتنجسة بملاقاة النجاسة مائعة فينظر إن كانت لا يمكن تطهيرها كالخل واللبن والدبس والعسل والمرق ونحو ذلك لم يجز بيعها بلا خلاف ، لما ذكره المصنف ونقلوا فيه إجماع المسلمين ، وأما الصبغ النجس فالمشهور الذي قطع به الجمهور أنه لا يجوز بيعه كالخل ونحوه وشذ المتولي فحكم فيه طريقين ( أحدهما ) هذا ( والثاني ) أن في جواز بيعه طريقتين كالزيت النجس ( أصحهما ) لا يجوز لأنه لا يمكن تطهيره بخلاف الزيت على الوجه القائل بجواز بيعه وإنما يصبغ الناس به ثم يغسلون الثوب ، وممن حكى الوجه الشاذ [ ص: 282 ] في جواز بيع الصبغ النجس القاضي حسين والروياني وطرده القاضي حسين في الخل المتنجس قال لأنه يصبغ به .

( الثالثة ) هل يجوز بيع الماء النجس فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) لا يجوز ، وبه قطع الغزالي في البسيط ، قال الروياني : وفيه طريق آخر وهو الجزم ببطلان بيعه لأنه لا يطهر بل يستحيل ببلوغه قلتين من صفة النجاسة إلى الطهارة كالخمر يتخلل .

( الرابعة ) الدهن النجس ضربان ضرب نجس العين كودك الميتة فلا يجوز بيعه بلا خلاف ، ولا يطهر بالغسل ( والضرب الثاني ) متنجس بالمجاورة كالزيت والشيرج والسمن ودهن الحيوان وغيره . فهذا كله هل يطهر بالغسل ؟ فيه وجهان مشهوران ( أحدهما ) يطهر كله ( والثاني ) لا يطهر ، ودليلهما في الكتاب ، وفي المسألة وجه ثالث أنه يطهر الزيت ونحوه ، ولا يطهر السمن ، وممن ذكر هذا الوجه القاضي أبو الطيب والروياني وهو شاذ ، والصحيح عند الأصحاب أنه لا يطهر شيء من الأدهان بالغسل وهو ظاهر نص الشافعي ، وبه قال أبو علي الطبري ، قال صاحب الحاوي وهو مذهب الشافعي وجمهور أصحابه ( والوجه الثاني ) يطهر الجميع بالغسل ، وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي واختاره الروياني .

قال أصحابنا : ( فإن قلنا : ) لا يطهر بالغسل لم يجز بيعه وجها واحدا . وإن قلنا : يطهر بالغسل ففي صحة بيعه وجهان . ( أصحهما ) باتفاق الأصحاب لا يجوز بيعه ، وبه قال أبو إسحاق المروزي وممن صححه القاضي أبو الطيب في تعليقه والماوردي والمتولي ، وقطع به البغوي ، وهو المنصوص في مختصر المزني في أول الباب الثالث من كتاب الأطعمة .

( والوجه الثاني ) يجوز بيعه وهذا الوجه خرجه ابن سريج من بيع الثوب النجس .

[ ص: 283 ] قال القاضي أبو الطيب في تعليقه : هذا تخريج باطل ومخالف لنص الشافعي وإمام الحرمين في النهاية إن قلنا : يطهر الدهن الغسل - جاز بيعه قبل الغسل وجها واحدا كالثوب ( وإن قلنا ) لا يطهر فوجهان وهذا الترتيب غلط عند الأصحاب ومخالف للدليل ولنص الشافعي ، ولما اتفق عليه الأصحاب ، وإمام الحرمين والغزالي منفردان به ، فلا يعتد به ، ولا يغترن بقولهما ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) إذا قلنا بالضعيف : إن الدهن يطهر بالغسل ، وقد قال الماوردي : طريقه أن يراق الدهن في قلتين من الماء ويحرك أشد تحريك حتى يصل الماء إلى جميع أجزائه ، ولم يتعرض الجمهور لاشتراط القلتين ( والصواب ) أنه إن أورد الدهن على الماء اشترط كون الماء قلتين ، وإن أورد الماء لم يشترط كونه قلتين ، بل يشترط فيه الغلبة للدهن كما في غسل سائر النجاسات .

( فرع ) مما استدلوا به للمذهب من أن الدهن المتنجس لا يطهر بالغسل الحديث في الفأرة تقع في السمن ، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل مع نهيه عن إضاعة المال .

( فرع ) نص الشافعي - رحمه الله تعالى - في مختصر المزني في أول الباب الثالث من كتاب الأطعمة على جواز الاستصباح بالزيت النجس ، وبهذا قطع المصنف وسائر العراقيين وكثير من الخراسانيين وهو المذهب وذكر أكثر الخراسانيين في جوازه قولين ( أصحهما ) جوازه ( والثاني ) تحريمه ، لأنه يؤدي إلى ملابسته وملابسة دخانه ، ودخانه نجس على الأصح والخلاف في جواز الاستصباح جار في الزيت النجس والسمن والشيرج وسائر الأدهان المتنجسة بعارض ، وفي ودك الميتة أيضا ( والصحيح ) في الجميع جواز الاستصباح ، وقد سبقت المسألة واضحة في آخر باب ما يجوز لبسه .

قال إمام الحرمين أطلق الأئمة الخلاف في [ ص: 284 ] جواز الاستصباح ، وفيه تفصيل عندي فإن كان السراج الذي فيه الدهن النجس بعيدا بحيث لا يلقي دخانه المتنجس به فلست أرى لتحريم هذا وجها ، فإن الانتفاع بالنجاسات لا يمنع ، وكيف يمنع مع تجويز تزبيل الأرض وتدميلها بالعذرة .

( قال ) ولعل الخلاف في جواز الاستصباح ناشئ من لحوق الدخان وفيه تفصيل نذكره ( أما ) رماد الأعيان النجسة فنجس على المذهب ، وفيه وجه ضعيف ( وأما ) دخان الأعيان النجسة إذا أحرقت وقلنا : رمادها نجس ففي دخانها وجهان ( أصحهما ) نجس ، وبه كان يقطع شيخي ( وأما ) الدهن النجس في عينه كودك الميتة ففي دخانه الخلاف الذي ذكرناه ( وأما ) الدهن المتنجس بعارض فدخانه أجزاء الدهن ، وما وقع فيه ونجسه لا يختلط بالدخان فيظهر في هذا الدخان الحكم بالطهارة ، فإن الذي خالط الدهن يتخلف قطعا والدخان محض أجزاء الدهن ، قال : ولا يمنع على بعد أن يطرد الخلاف في جواز الاستصباح ، وإن بعد السراج ، لأن هذا ممارس نجاسة مع الاستغناء عنها ، بخلاف التزبيل فإنه لا يسد مسده شيء ، فكان في حكم الضرورة . هذا آخر كلام الإمام .

( فرع ) في مذاهب العلماء في بيع الزيت النجس والسمن النجس . ذكرنا أن المشهور من مذهبنا أنه لا يمكن غسله ، ولا يصح بيعه ، وبه قال مالك وأحمد وجماهير العلماء . وقال أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد : يمكن غسله ، ويجوز بيعه قبل غسله كالثوب النجس ، وكما يجوز الاستصباح به والوصية به ، والصدقة والهبة ، وقال داود : يجوز بيع الزيت دون السمن ، وسبقت المسألة في آخر كتاب الأطعمة ، واحتج أصحابنا بحديث ابن عباس السابق قريبا في مسألة بيع الكلب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه } وهو حديث [ ص: 285 ] صحيح كما سبق ، وبحديث الفأرة تقع في السمن ، وقد سبق بيانه وإيضاح طرقه في آخر باب الأطعمة ، وبالقياس على اللبن والخل ونحوهما إذا وقعت فيها نجاسة ( والجواب ) عن قياسهم على الثوب أنه يمكن غسله بالإجماع بخلاف الدهن ، ولأن المنفعة المقصودة بالثوب هي اللبس ، وهو حاصل مع أنه نجس ، والمنفعة المقصودة بالزيت الأكل ، وهو حرام .

( وأما ) جواز الاستصباح به فلا يلزم منه جواز البيع ، كما أنه يجوز إطعام الميتة للجوارح ولا يجوز بيعها ( وأما ) الوصية به فمبناها على الرفق والمساهلة ، ولهذا احتملت أنواعا من الغرر ( وأما ) الصدقة فكالوصية ، وكذلك الهبة إن صححناها . وفيها خلاف سنوضحه قريبا متصلا بهذا إن شاء الله تعالى .

( فرع ) قال الروياني : قال أصحابنا : لا يجوز هبة الزيت النجس ولا التصدق به ، قال : وأرادوا بذلك على سبيل التمليك ( فأما ) على سبيل نقل اليد فيجوز كما قلنا في الكلب . هذا كلام الروياني ( وأما ) قوله : بجواز نقل اليد فهو كما قال ، ولا يجيء فيه خلاف وأما تملكه بالهبة والصدقة فينبغي أن يكون على الوجهين في الكلب ، وأولى بالجواز .

التالي السابق


الخدمات العلمية