صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ويجوز بيع ما سوى ذلك من الأعيان المنتفع بها من المأكول والمشروب والملبوس والمشموم وما ينتفع به من الحيوان بالركوب والأكل والدر والنسل والصيد والصوف ، وما يقتنيه الناس من العبيد والجواري والأراضي والعقار . لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على بيعها من غير إنكار ، ولا فرق فيها بين ما كان في الحرم من الدور وغيره ، لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " أمر نافع بن عبد الحارث أن يشتري دارا بمكة للسجن من صفوان بن أمية فاشتراها بأربعة آلاف درهم " ولأنه أرض حية لم يرد عليها صدقة مؤبدة فجاز بيعها كغير الحرم ) .


( الشرح ) هذا الأثر عن عمر مشهور ، رواه البيهقي وغيره ، ونافع هذا صحابي ، وهكذا قاله الجمهور ، وأنكر الواقدي صحبته والصواب المشهور صحبته ، وهو خزاعي أسلم يوم فتح مكة وأقام بمكة وكان من فضلاء الصحابة ، واستعمله عمر بن الخطاب على مكة والطائف ، وفيهما سادات قريش وثقيف ، والله تعالى أعلم . وصفوان بن أمية صحابي مشهور ، وهو أبو وهب ، وقيل : أبو أمية صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن خزامة بن جمح القرشي الجمحي [ ص: 297 ] المكي أسلم بعد شهوده حنينا كافرا ، وكان من المؤلفة ، وشهد اليرموك توفي بمكة سنة اثنتين وأربعين ، وقيل : توفي في خلافة عمر وقيل : عام الجمل سنة ست وثلاثين ( وقوله ) لأنه أرض حية ، هكذا هو في النسخ . والضمير عائد إلى البيع ( وقوله ) أرض حية احتراز من الموات ( وقوله ) لم يرد عليها صدقة مؤبدة احتراز من العين الموقوفة .

( أما الأحكام ) ففيها مسألتان : ( إحداهما ) أن الأعيان الطاهرة المنتفع بها التي ليست حرا ولا موقوفا ولا أم ولد ولا مكاتبة ولا مرهونا ولا غائبا ولا مستأجرة يجوز بيعها بالإجماع ، لما ذكره المصنف سواء المأكول والمشروب والملبوس والمشموم والحيوان المنتفع به ، بركوبه أو صوته أو صوفه أو دره أو نسله كالعندليب والببغاء أو بحراسته كالقرد ، أو بركوبه كالفيل أو بامتصاصه الدم وهو العلق ، وفي معناه دود القز وغير ذلك ، مما سبق بيانه ، فكل هذا يصح بيعه .

( والثانية ) يجوز بيع دور مكة وغيرها من أرض الحرم ويجوز إجارتها وهي مملوكة لأصحابها يتوارثونها ويصح تصرفهم فيها بالبيع وغيره من التصرفات المفتقرة إلى الملك ، والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في بيع دور مكة وغيرها من أرض الحرم وإجارتها ورهنها ، مذهبنا جوازه ، وبه قال عمر بن الخطاب وجماعات من الصحابة ومن بعدهم ، وهو مذهب أبي يوسف وقال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة : لا يجوز شيء من ذلك ، والخلاف في المسألة مبني على أن مكة فتحت صلحا أم عنوة ؟ فمذهبنا أنها فتحت صلحا ، فتبقى على ملك أصحابها فتورث وتباع وتكرى وترهن ، ومذهبهم أنها فتحت عنوة فلا يجوز شيء من ذلك . [ ص: 298 ] واحتج هؤلاء بقوله تعالى : { والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد } وقوله : والمراد بالمسجد جميع الحرم لقوله سبحانه وتعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام } أي من بيت خديجة ، وبقوله تعالى : { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها } قالوا : والمحرم لا يجوز بيعه ، وبحديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مكة مباح لا تباع رباعها ولا تؤجر بيوتها } رواه البيهقي . وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت { قلت يا رسول الله ألا نبني لك بيتا أو بناء يظلك من الشمس ؟ قال : لا إنما هو مباح لمن سبق إليه } رواه أبو داود . وعن أبي حنيفة عن عبد الله بن أبي زياد عن أبي نجيح عن عبد الله بن عمر قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مكة حرام ، وحرام بيع رباعها وحرام أجر بيوتها } وعن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة الكناني قال : { كانت بيوت مكة تدعى السوائب لم تبع رباعها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن } رواه البيهقي وبالحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { منى مباح لمن سبق } وهو حديث صحيح سبق بيانه في كتاب الجنائز في باب الدفن ، قالوا : ولأنها بقعة من الحرم فلا يجوز بيعها وإجارتها كنفس المسجد الحرام .

واحتج الشافعي والأصحاب لمذهبنا بقوله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين [ ص: 299 ] أخرجوا من ديارهم } والإضافة تقتضي الملك ( فإن قيل ) قد تكون الإضافة لليد والسكنى لقوله تعالى : { وقرن في بيوتكن } ؟ ( فالجواب ) أن حقيقة الإضافة تقتضي الملك ، ولهذا لو قال : هذه الدار لزيد حكم بملكها لزيد ، ولو قال : أردت به السكنى واليد لم يقبل . واحتجوا أيضا بحديث أسامة بن زيد أنه قال { : أين تنزل من دارك في مكة ؟ فقال : هل ترك لنا عقيل من دار ؟ وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ، ولم يرثه جعفر ولا علي لأنهما كانا مسلمين ، وكان عقيل وطالب كافرين } رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما قال أصحابنا : فهذا يدل على إرث دورها والتصرف فيها . وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة فتح مكة قال : ( { فجاء أبو سفيان فقال : يا رسول الله أبيدت خضراء قريش ، لا قريش بعد اليوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن } رواه مسلم وبالأثر المشهور في سنن البيهقي وغيره أن نافع بن عبد الحارث اشترى من صفوان بن أمية دار السجن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بأربعمائة ، وفي رواية بأربعة آلاف ) وروى الزبير بن بكار وغيره أن حكيم بن حزام باع دار الندوة بمكة من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف ، فقال له عبد الله بن الزبير : يا أبا خالد بعت مأثرة قريش وكريمتها ؟ فقال هيهات ذهبت المكارم ، فلا مكرمة اليوم إلا الإسلام ، فقال : اشهدوا أنها في سبيل الله تعالى يعني الدراهم ) ومن القياس أنها أرض حية ليست موقوفة فجاز بيعها كغيرها .

وروى البيهقي بإسناده عن إبراهيم بن محمد الكوفي قال : " رأيت الشافعي بمكة يفتي الناس ، ورأيت إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل [ ص: 300 ] حاضرين فقال أحمد لإسحاق : تعال حتى أريك رجلا لم تر عيناك مثله ، فقال إسحاق : لم تر عيناي مثله ؟ فقال نعم : فجاء به فوقفه على الشافعي فذكر القصة إلى أن قال ثم تقدم إسحاق إلى مجلس الشافعي فسأله عن كراء بيوت مكة ، فقال الشافعي : هو عندنا جائز ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { وهل ترك لنا عقيل من دار ؟ } فقال إسحاق : حدثنا يزيد بن هارون عن هشام عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك وعطاء وطاووس لم يكونا يريان ذلك . فقال الشافعي لبعض من عرفه : من هذا ؟ قال : هذا إسحاق بن راهويه الحنظلي الخراساني ، فقال له الشافعي : أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم ؟ قال إسحاق : هكذا يزعمون قال الشافعي : ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك فكنت آمر بفراك أذنيه ، أنا أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول قال طاوس والحسن وإبراهيم ، هؤلاء لا يرون ذلك ؟ وهل لأحد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة ؟ وذكر كلاما طويلا . ثم قال الشافعي : قال الله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم } أفتنسب الديار إلى مالكين أو غير مالكين ؟ فقال إسحاق : إلى مالكين قال الشافعي : قول الله أصدق الأقاويل ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من دخل دار أبي سفيان فهو آمن } ، وقد اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دار الحجامين وذكر الشافعي له جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إسحاق : { سواء العاكف فيه والباد } ، فقال الشافعي : قال الله تعالى { والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد } والمراد المسجد خاصة ، وهو الذي حول الكعبة ، ولو كان كما تزعم لكان لا يجوز لأحد أن ينشد في دور مكة وفجاجها ضالة ، ولا ينحر فيها البدن ، ولا يلقي [ ص: 301 ] فيها الأرواث ، ولكن هذا في المسجد خاصة فسكت إسحاق ولم يتكلم ، فسكت عنه الشافعي .

( وأما ) الجواب عن أدلتهم فالجواب عن قوله تعالى : " { سواء العاكف فيه والباد } سبق الآن في كلام الشافعي ( وأما ) قوله تعالى { هذه البلدة الذي حرمها } " فمعناه حرم صيدها ، وشجرها ، وخلاها ، والقتال فيها ، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة ، ولم يذكر شيء منها مع كثرتها في النهي عن بيع دورها ( وأما ) حديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه فضعيف باتفاق المحدثين ، واتفقوا على تضعيف إسماعيل وأبيه إبراهيم ( وأما ) حديث عائشة رضي الله عنها فإن صح كان محمولا على الموات من الحرم ، وهو ظاهر الحديث ( وأما ) حديث أبي حنيفة فضعيف من وجهين ( أحدهما ) ضعف إسناده فإن ابن أبي زياد هذا ضعيف ( والثاني ) أن الصواب فيه عند الحفاظ أنه موقوف على عبد الله بن عمرو ، وقالوا : رفعه وهم ، هكذا قاله الدارقطني وأبو عبد الرحمن السلمي والبيهقي ( وأما ) حديث عثمان بن أبي سليمان فجوابه من وجهين : ( أحدهما ) جواب البيهقي أنه منقطع ( والثاني ) جواب البيهقي أيضا والأصحاب أنه إخبار عن عادتهم في إسكانهم ما استغنوا عنه من بيوتهم بالإعارة تبرعا وجودا ، وقد أخبر من كان أعلم بشأن مكة منه بأنه جرى الإرث والبيع فيها ( وأما ) حديث ( منى مباح لمن سبق ) فمحمول على مواتها ومواضع نزول الحجيج منها ( وأما ) الجواب عن قياسهم على نفس المسجد فمردود لأن المساجد محرمة محررة ، لا تلحق بها المنازل المسكونة في تحريم بيعها ، ولهذا في سائر البلاد يجوز بيع الدور دون المساجد والله سبحانه أعلم .

[ ص: 302 ] فرع ) قال الروياني في البحر في باب بيع الكلاب : لا يكره بيع شيء من الملك الطلق إلا أرض مكة ، فإنه يكره بيعها وإجارتها للخلاف وهذا الذي ادعاه من الكراهة غريب في كتب أصحابنا ، والأحسن أن يقال : هو خلاف الأولى ، لأن المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود ، ولم يثبت في هذا نهي .

( فرع ) قال الروياني والأصحاب : هذا الذي ذكرناه من اختلاف العلماء في بيع دور مكة وغيرها من الحرم هو في بيع نفس الأرض ( فأما ) البناء فهو مملوك يجوز بيعه بلا خلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية