صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه ، كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإجارة والصداق ، وما أشبهها من المعاوضات قبل القبض لما روي أن حكيم بن حزام قال : { يا رسول الله إني أبيع بيوعا كثيرة فما يحل لي منها مما يحرم ؟ قال : لا تبع ما لم تقبضه } ولأن ملكه عليه غير مستقر ; لأنه ربما هلك فانفسخ العقد ، وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز ، وهل يجوز عتقه ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) أنه لا يجوز لما ذكرناه ( والثاني ) يجوز ، لأن العتق له سراية تصح لقوته ( فأما ) ما ملكه بغير معاوضة كالميراث والوصية أو عاد إليه بفسخ عقد ، فإنه يجوز بيعه وعتقه قبل القبض ، لأن ملكه عليه مستقر فجاز التصرف فيه كالمبيع بعد القبض ) .


( الشرح ) حديث حكيم رواه البيهقي بلفظه هذا ، وقال : إسناده حسن متصل ، وفي الصحيحين أحاديث بمعناه سنذكرها إن شاء الله تعالى في فرع مذاهب العلماء . [ ص: 319 ] أما الأحكام ) فمذهبنا أنه لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه عقارا كان أو منقولا ، لا بإذن البائع ولا بغير إذنه ، لا قبل أداء الثمن ولا بعده ، وفي إعتاقه ثلاثة أوجه ( أصحها ) وهو قول جمهور أصحابنا المتقدمين يصح ويصير قبضا ، سواء كان للبائع حق الحبس أم لا ( والثاني ) لا يصح ، وهو قول أبي علي بن خيران ، ودليلهما في الكتاب ( والثالث ) قاله ابن سريج ، حكاه عنه القاضي أبو الطيب في تعليقه إن لم يكن للبائع حق الحبس بأن كان الثمن مؤجلا أو حالا أداه المشتري صح ، وإلا فلا ، وفي الكتابة وجهان ( أصحهما ) وبه قطع صاحب البيان وغيره لا يصح ، لأنها تقتضي تخليته للتصرف ، ولأنه ليس لها قوة الصرف وسرايته ، والاستيلاد كالإعتاق .

ولو وقف المبيع قبل قبضه قال المتولي ( إن قلنا : ) الوقف يفتقر إلى القبول فهو كالبيع وإلا فكالإعتاق ، وهذا هو الأصح ، وبه قطع الماوردي وغيره ، قال الماوردي : ويصير قابضا حتى ولو لم يرفع البائع يده عنه صار مضمونا عليه بالقيمة ، قال : وهكذا لو كان طعاما اشتراه جزافا وأباحه للمساكين ( وأما ) الرهن والهبة ففيهما وجهان ، وقيل قولان ( أصحهما ) عند جمهور الأصحاب ، وبه قطع كثيرون : لا يصحان ، وإذا صححناهما فنفس العقد ليس قبضا ، بل يقبضه المشتري من البائع ، ثم يسلمه إلى المرتهن والمتهب ، فلو أذن المشتري لهما في قبضه ، قال البغوي : يكفي ويتم به البيع والرهن والهبة بعده ، وقال الماوردي لا يكفي ذلك المبيع وما بعده ولكن ينظر إن قصد قبضه للمشتري صح قبض المبيع ، ولا بد من استئناف قبض للهبة ولا يجوز أن يأذن له في قبضه من نفسه لنفسه ، وإن قصد لنفسه لم يحصل القبض للبيع ولا للهبة لأن قبضها يجب أن يتأخر عن تمام البيع ، والإقراض والتصدق كالهبة والرهن ففيهما الخلاف . [ ص: 320 ] وأما ) الإجارة ففيها وجهان مشهوران ( أصحهما ) عند الأكثرين لا يصح لأنها بيع وحكى المتولي طريقا آخر وصححه ، وهو القطع بالبطلان ( وأما ) تزويج المبيعة قبل قبضها ففيه ثلاثة أوجه ( أصحها ) صحته . وبه قطع صاحب البيان ، لأنه يقتضي ضمانا بخلاف البيع قال المتولي وغيره : ولهذا يصح تزويج المغصوبة والآبقة ( والثاني ) البطلان ( والثالث ) إن لم يكن للبائع حق الحبس صح ، وإلا فلا ، وحكي هذا الوجه في الإجارة أيضا وإذا صححنا التزويج فوطء الزوج لم يكن قبضا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : كما لا يجوز بيع المبيع قبل القبض ، لا يجوز جعله أجرة ولا عوضا في صلح ، ولا إسلامه في شيء ، ولا التولية فيه ، ولا الاشتراك ، وفي التولية والاشتراك وجه ضعيف .

( فرع ) قال أصحابنا : المال المستحق للإنسان عند غيره قسمان دين وعين ( أما ) الدين فقد ذكره المصنف في هذا الفصل بعد هذا . وسنوضحه إن شاء الله تعالى ( وأما ) العين فضربان أمانة ومضمون ( الضرب الأول ) الأمانة فيجوز للمالك بيع جميع الأمانات قبل قبضها ، لأن الملك فيها تام وهي كالوديعة في يد المودع ومال الشركة والقراض في يد الشريك والعامل ، فالمال في يد الوكيل في البيع بعد فكاك الرهن ، وفي يد المستأجر بعد فراغ المدة ، والمال في يد الولي بعد بلوغ الصبي ورشده ، ورشد السفيه ، وإفاقة المجنون ، وما كسبه العبد باصطياد واحتطاب واحتشاش ونحوها ، أو قبله بالوصية قبل أن يأخذه السيد من يده ، وما أشبه ، هذا كله يجوز بيعه قبل قبضه . ولو ورث مالا فله بيعه قبل قبضه إلا إذا كان المورث لا يملك بيعه أيضا ، بأن اشتراه ولم يقبضه ، ولو اشترى من مورثه شيئا ومات المورث قبل التسليم فله بيعه قبل قبضه ، سواء كان على المورث دين أم لا ، فإن [ ص: 321 ] كان عليه دين تعلق الغريم بالثمن ، فإن كان له وارث آخر لم ينفذ بيعه في قدر نصيب الآخر ، حتى يقبضه ، ولو أوصى له إنسان بمال فقبل الوصية بعد موت الموصي فله بيعه قبل قبضه ، وإن باعه بعد الموت وقبل القبول جاز ( إن قلنا ) تملك الوصية بالموت ( وإن قلنا ) بالقبول أو موقوف فلا .

( والضرب الثاني ) المضمونات وهي نوعان ، الأول المضمون بالقيمة ، ويسمى ضمان اليد فيصح بيعه قبل قبضه لتمام الملك فيه ويدخل فيه ما صار مضمونا بالقيمة بعقد مفسوخ وغيره ، حتى لو باع عبدا وجد المشتري به عيبا وفسخ البيع كان للبائع بيع العبد قبل أن يسترده ويقبضه ، قال المتولي إلا إذا لم يؤد الثمن ، فإن للمشتري حبسه إلى استرجاع الثمن فلا يصح بيعه قبله قال : وقد نص الشافعي على هذا . ولو فسخ السلم لانقطاع المسلم فيه كان للمسلم بيع رأس المال قبل استرداده ، ولو باع سلعة فأفلس المشتري بالثمن وفسخ به البائع فله بيعها قبل قبضها ، ويجوز بيع المال في يد المستعير والمستأجر ، وفي يد المشتري شراء فاسدا ، والمتهب هبة فاسدة ، ويجوز بيع المغصوب للغاصب .

( النوع الثاني ) المضمون بعوض في عقد معاوضة ، لا يصح بيعه قبل قبضه ، وذلك كالمبيع والأجرة والعوض المصالح عليه عن المال ، والعوضين في الهبة بشرط ثواب ، حيث صححناها ، ودليله الحديث ، وعللوه بعلتين ( إحداهما ) ضعف الملك لتعرضه للانفساخ بتلفه ( والثاني ) توالي الضمان ، ومعناه أن يكون مضمونا في حالة واحدة لا اثنين ، وهذا مستحيل ، فإنه لو صححنا بيعه كان مضمونا للمشتري الأول على البائع الأول ، والثاني على الثاني ، وسواء باعه المشتري للبائع أو لغيره لا يصح ، هكذا قطع به العراقيون وكثيرون أو الأكثرون من الخراسانيين ، وحكى جماعة من الخراسانيين وجها شاذا ضعيفا أنه يجوز بيعه للبائع ، وتفريعا [ ص: 322 ] على العلة الثانية ، وهي توالي الضمان ، فإنه لا يتوالى إذا كان المشتري هو البائع ، لأنه يصير في الحال مقبوضا له أو بعد لحظة ، بخلاف الأجنبي ، والمذهب بطلانه كالأجنبي ، قال المتولي : والوجهان فيما إذا باعه بغير جنس الثمن أو بزيادة أو نقص أو تفاوت صفة ، وإلا فهو إقالة بصيغة البيع . ولو رهنه عند البائع أو وهبه له فطريقان ( أحدهما ) القطع بالبطلان ( وأصحهما ) أنه على الخلاف كغيره ، فإن جوزناه فأذن له في القبض فقبض ملك في صورة الهبة وتم الرهن ، ولا يزول ضمان البيع في صورة الرهن ، بل إن تلف انفسخ البيع . هذا إذا رهنه عنده بغير الثمن ، فإن رهنه به صح إن كان بعد قبضه ، فإن كان قبله فلا إن كان الثمن حالا ، لأن الحبس ثابت له ، وإن كان مؤجلا فهو كرهنه بدين آخر قبل القبض والله سبحانه أعلم .

( وأما ) بيع الصداق قبل القبض من يد الزوج ففيه قولان حكاهما الخراسانيون بناء على القولين المشهورين في أنه مضمون على الزوج ضمان العقد كالمبيع ؟ أم ضمان اليد كالعارية ؟ والأصح ضمان العقد ( فإن قلنا ) ضمان اليد ، جاز كالعارية ( وإن قلنا ) ضمان العقد فهو كالمبيع ، فلا يجوز بيعه قبل قبضه لأجنبي ، وفي بيعه للزوج الخلاف . والمذهب أنه لا يجوز ، وقطع المصنف وأكثر العراقيين بأنه لا يجوز بيع الصداق قبل قبضه ، قال الخراسانيون : ويجري القولان في بيع الزوج بدل الخلع قبل أن يقبضه ، وفي بيع العافي عن القصاص المال المعفو عليه قبل القبض لمثل هذا المأخذ والله سبحانه أعلم .

( فرع ) قال الرافعي - رحمه الله - : ووراء ما ذكرناه صور ، إذا تأملتها عرفت من أي ضرب هي ( فمنها ) ما حكى صاحب التلخيص عن نص الشافعي - رحمه الله - أن الأرزاق التي يخرجها السلطان للناس يجوز بيعها [ ص: 323 ] قبل القبض ، فمن الأصحاب من قال : هذا إذا أفرزه السلطان ، فتكون يد السلطان في الحفظ يد المقر له ، ويكفي ذلك لصحة البيع ، ومن الأصحاب من لم يكتف بذلك وحمل النص ما إذا وكل وكيلا في قبضه فقبضه الوكيل ثم باعه الموكل ، وإلا فهو بيع شيء غير مملوك ، وبهذا قطع القفال ( قلت : ) الأول أصح وأقرب إلى النص ، وقول الرافعي وبه قطع القفال يعني بعدم الاكتفاء لا بالتأويل المذكور ، فإني رأيت في شرح التلخيص للقفال المنع المذكور ، وقال : ومراد الشافعي بالرزق الغنيمة ، ولم يذكر غيره ، ودليل ما قاله الأول وهو الأصح أن هذا القدر من المخالفة للقاعدة احتمل للمصلحة ، والرفق بالجند لمسيس الحاجة ، وممن قطع بصحة بيع الأرزاق التي أخرجها السلطان قبل قبضها المتولي وآخرون وروى البيهقي فيه آثار الصحابة مصرحة بالجواز .

قال المتولي : وهكذا غلة الوقف إذا حصلت لأقوام ، وعرف كل قوم قدر حقه فباعه قبل قبضه صح بيعه ، كرزق الأجناد قال الرافعي ( ومنها ) بيع أحد الغانمين نصيبه من الغنيمة على الإشاعة قبل القبض ، وهو صحيح إذا كان معلوما وحكمنا بثبوت الملك في الغنيمة ، وفيما يملكها به خلاف مذكور في بابه ، قال ( ومنها ) لو رجع فيما وهب لولده ، فله بيعه قبل قبضه على الصحيح من الوجهين ( ومنها ) الشفيع إذا تملك الشقص ، قال البغوي : له بيعه قبل القبض ، وقال المتولي : ليس له ذلك ، لأن الأخذ بها معاوضة ، وهذا أصح وأقوى ، كذا قال الرافعي هنا ثم قال في كتاب الشفعة في نفوذ تصرف الشفيع قبل القبض ، إذا كان قد سلم الثمن وجهان ( أصحهما ) المنع كالمشتري ( والثاني ) الجواز لأنه قهري كالإرث قال : ولو ملك بالإشهاد أو بقضاء القاضي لم ينفذ تصرفه قطعا ، وكذا لو ملك برضاء المشتري بكون الثمن يبقى في ذمة الشفيع ، وفي جواز أخذ الشفيع الشقص من يد البائع قبل قبض المشتري وجهان ، ذكرهما المصنف في كتاب الشفعة وسنوضحهما هناك إن شاء الله تعالى .

[ ص: 324 ] ومنها ) للموقوف عليه بيع الثمرة الخارجة من الشجرة الموقوفة قبل أن يأخذها ( ومنها ) إذا استأجر صباغا ليصبغ ثوبا وسلمه إليه ، فليس للمالك بيعه قبل صبغه ، لأن له حبسه بعمل ما يستحق به الأجرة وإذا صبغه فله بيعه قبل استرداده إن دفع الأجرة ، وإلا فلا ، لأنه يستحق حبسه إلى استيفاء الأجرة ، وإذا استأجر قصارا لقصر ثوب وسلمه إليه لم يجز بيعه قبل قصره ، فإذا قصره بنى على أن القصارة هل هي عين ؟ فتكون كمسألة الصبغ ؟ أم أثر فله البيع ؟ إذ ليس للقصار الحبس على هذا ( والأصح ) أنها عين قال المتولي وغيره : وعلى هذا قياس صوغ الذهب ، ورياضة الدابة ، ونسج الغزل ، قال المتولي ، ولو استأجره ليرعى غنمه شهرا وليحفظ متاعه المعين ثم أراد المستأجر التصرف في ذلك المال قبل انقضاء الشهر ، صح تصرفه وبيعه ، لأن حق الأجير لم يتعلق بعين ذلك المال ، فإن للمستأجر أن يستعمله في مثل ذلك العمل .

( ومنها ) إذا قاسم شريكه فبيع ما صار له قبل قبضه ، يبني على أن القسمة بيع أو إفراز . قال المتولي ( فإن قلنا : ) القسمة إفراز ، جاز بيعه قبل قبضه من يد شريكه ( وإن قلنا ) بيع فنصف نصيبه حصل له بالبيع ، ونصفه حصل بملكه القديم ، لأن حقيقة القسمة على هذا القول بيع كل واحد نصف ما صار لصاحبه بنصف ما صار له ، فله التصرف في نصف ما صار له دون نصفه ، قال : فإن كان فيها رد فحكمها في القدر المملوك بالعوض حكم البيع ( ومنها ) إذا أثبت صيدا بالرمي أو وقع في شبكته ، فله بيعه ، وإن لم يأخذه ، ذكره صاحب التلخيص هنا ، وقال القفال : ليس هو مما نحن فيه لأنه بإثباته قبضه حكما ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فرع ) تصرف المشتري في زوائد المبيع قبل القبض ، كالولد والثمرة وكسب العبد وغيره ، يبنى على أنها تعود إلى البائع لو عرض انفساخ ؟ أم لا تعود ؟ فإن أعدناها لم يتصرف فيها قبل قبضها ، كالأصل ، [ ص: 325 ] وإلا فيصح تصرفه ، ولو كانت الجارية حاملا عند البيع وولدت قبل القبض ( إن قلنا : ) الحمل يقابله قسط من الثمن لم يتصرف فيه ، وإلا فهو كالولد الحادث بعد البيع والله تعالى أعلم .

( فرع ) إذا باع متاعا بدراهم أو بدنانير معينة فله حكم المبيع ، فلا يجوز تصرف البائع فيها قبل قبضها ، لأنها تتعين بالتعيين عندنا ولا يجوز للمشتري إبدالها بمثلها ، ولو تلف قبل القبض انفسخ البيع ، ولو وجد البائع بها عيبا لم يستبدل بها إن رضيها ، وإلا فسخ العقد ، فلو أبدلها بمثلها أو بغير جنسها برضاء البائع كبيع المبيع للبائع ، والأصح بطلانه كما سبق ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : لو اشترى شيئا بثمن في الذمة ، وقبض المبيع ، ولم يدفع الثمن ، فله بيع المبيع بلا خلاف ، سواء باعه للبائع أو لغيره .

( فرع ) لو باع سلعة وتقابضا ثم تقايلا ، وأراد البائع بيعها قبل قبضها من المشتري ، فالمذهب صحته ، قال صاحب البيان : قال أصحابنا البغداديون : يصح بيعه قطعا ، لأنه ملكها بغير عقد ، وقال صاحب الإبانة : هل يصح بيعها ؟ فيه قولان بناء على أن الإقالة بيع أو فسخ ، وفيها قولان ( الصحيح ) الجديد إنها بيع ( والقديم ) إنها فسخ ( فإن قلنا ) فسخ جاز ، وإلا فلا ، وكذا قال المتولي ( وإن قلنا ) الإقالة بيع لم يجز ، وإلا فكالمفسوخ بعيب وغيره ، فنفرق بين أن يكون قبض الثمن أم لا ، كما ذكرناه عنه في أول الضرب الثاني .

( فرع ) نقله الأصحاب عن ابن سريج إذا باع عبدا بعبد ثم قبض أحد العاقدين ما اشتراه قبضا شرعيا ثم باعه قبل أن يقبض صاحبه ما اشتراه [ ص: 326 ] منه صح بيعه ، لأنه قبضه ، فإن تلف عبده الذي باعه صاحبه قبل قبضه بطل البيع الأول لتلف المبيع قبل القبض ولا يبطل الثاني لتعلق حق المشتري الثاني به ، ولكن يجب على البائع الثاني قيمة الذي باعه ثانيا ، لأنه تعذر رده فوجبت قيمته ، هكذا قطع الأصحاب بهذا كله في الطريقتين إلا المتولي فقال : في بطلان العقد الثاني وجهان ( أصحهما ) لا يبطل كما قطع به الجمهور ، قال : وهما مبنيان على أن الفسخ هل يرفع العقد من أصله ؟ أو من حينه ؟ ( إن قلنا ) من أصله بطل ، وإلا فلا قال أصحابنا : فإن اشترى من رجل شقصا من دار بعبد وقبض المشتري الشقص فأخذه الشفيع بالشفعة ، ثم تلف العبد في يد المشتري ، قبل أن يقبضه بائع الشقص ، انفسخ البيع في العبد ولم يبطل الأخذ بالشفعة فلا يؤخذ الشقص من يد الشفيع ، بل يلزم المشتري قيمة الشقص لبائعه ، ويجب على الشفيع للمشتري قيمة العبد لأن العقد وقع به والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : للمشتري الاستقلال بقبض المبيع بغير إذن البائع إن كان دفع الثمن إليه أو كان مؤجلا ، كما للمرأة قبض صداقها بغير إذن الزوج إذا سلمت نفسها ، فإن كان حالا ولم يدفعه إلى البائع لم يجز له قبضه بغير إذنه فإن قبضه لزمه رده ; لأن البائع يستحق حبسه لاستيفاء الثمن ، فإن تصرف المشتري فيه لم ينفذ تصرفه . ولكن يكون في ضمانه بلا خلاف . قال المتولي وغيره حتى لو تلف في يده استقر عليه الثمن . ولو تعيب لم يكن له رده بالعيب ولو رده على البائع بعد ذلك وتلف في يد البائع لم يسقط الثمن عن المشتري .

( فرع ) في مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض . قد ذكرنا أن مذهبنا بطلانه مطلقا ، سواء كان طعاما أو غيره ، وبه قال ابن عباس ثبت ذلك عنه ومحمد بن الحسن . قال ابن المنذر : أجمع العلماء على أن من اشترى طعاما فليس له بيعه حتى يقبضه ، قال : واختلفوا في غير الطعام [ ص: 327 ] على أربعة مذاهب ( أحدها ) لا يجوز بيع شيء قبل قبضه سواء جميع المبيعات كما في الطعام قاله الشافعي ومحمد بن الحسن ( والثاني ) يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المكيل والموزون قاله عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق ( والثالث ) لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا الدور والأرض ، قاله أبو حنيفة وأبو يوسف ( والرابع ) يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المأكول والمشروب . قاله مالك وأبو ثور ، قال ابن المنذر وهو أصح المذاهب لحديث النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى . واحتج لمالك وموافقيه بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه } رواه البخاري ومسلم .

وعنه قال : { لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون جزافا يعني الطعام فضربوا أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم } رواه البخاري ومسلم .

وعن ابن عباس قال : أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم { فهو الطعام أن يباع حتى يقبض قال ابن عباس وأحسب كل شيء مثله } رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم عن ابن عباس قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم الله { من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه قال ابن عباس : وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام } وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكيله } رواه مسلم .

وفي رواية قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى } وعن جابر قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه } رواه مسلم قالوا : فالتنصيص في هذه الأحاديث يدل على أن غيره بخلافه ، قالوا : وقياسا على ما ملكه بإرث أو وصية وعلى إعتاقه وإجارته قبل قبضه وعلى بيع الثمر قبل قبضه [ ص: 328 ] واحتج أصحابنا بحديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تبع ما لم تقبضه } وهو حديث حسن كما سبق بيانه في أول هذا الفصل ، وبحديث زيد بن ثابت { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم } رواه أبو داود بإسناد صحيح إلا أنه من رواية محمد بن إسحاق بن يسار عن أبي الزناد ، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به وهو مدلس ، وقد قال : عن أبي الزناد ، والمدلس إذا قال " عن " لا يحتج به ، لكن لم يضعف أبو داود هذا الحديث ، وقد سبق أن ما لم يضعفه فهو حجة عنده ، فلعله اعتضد عنده أو ثبت عنده بسماع ابن إسحاق له من أبي الزناد ، وبالقياس على الطعام .

( والجواب ) عن احتجاجهم بأحاديث النهي عن بيع الطعام من وجهين ( أحدهما ) أن هذا استدلال بداخل الخطاب ، والتنبيه مقدم عليه ، فإنه إذا نهى عن بيع الطعام مع كثرة الحاجة إليه فغيره بأولى ( والثاني ) أن النطق الخاص مقدم عليه وهو حديث حكيم وحديث زيد ( وأما ) قياسهم على العتق ففيه خلاف سبق فإن سلمناه فالفرق أن العتق له قوة وسراية ولأن العتق إتلاف للمالية والإتلاف قبض ( والجواب ) عن قياسهم على الثمن أن فيه قولين فإن سلمناه فالفرق أنه في الذمة مستقر لا يتصور تلفه ونظير المبيع إنما هو الثمن المعين ، ولا يجوز بيعه قبل القبض وأما بيع الميراث والموصى به فجوابه أن الملك فيهما مستقر بخلاف المبيع ، والله أعلم .

واحتج لأبي حنيفة بإطلاق النصوص ، ولأنه لا يتصور تلف العقار بخلاف غيره ، واحتج أصحابنا بما سبق في الاحتجاج على مالك وأجابوا عن النصوص بأنها مخصوصة بما ذكرناه ( وأما ) قولهم : لا يتصور تلفه ، فينتقض بالجديد الكثير . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية