صفحة جزء
[ ص: 343 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ولا يجوز بيع ما لا يقدر على تسليمه ، كالطير في الهواء ، أو السمك في الماء ، والجمل الشارد ، والفرس العائر ، والعبد الآبق ، والمال المغصوب في يد الغاصب ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الغرر } وهذا غرر ، ولهذا قال ابن مسعود : " لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر " ولأن القصد بالبيع تمليك التصرف ، وذلك لا يمكن فيما لا يقدر على تسليمه ، فإن باع طيرا في برج مغلق الباب أو السمك في بركة لا تتصل بنهر - نظرت فإن قدر على تناوله إذا أراد من غير تعب - جاز بيعه ، وإن كان في برج عظيم أو بركة عظيمة لا يقدر على أخذه إلا بتعب ، لم يجز بيعه ، لأنه غير مقدور عليه في الحال ، وإن باع العبد الآبق ممن يقدر عليه ، أو المغصوب من الغاصب ، أو ممن يقدر على أخذه منه جاز ، لأنه لا غرر في بيعه منه )


( الشرح ) حديث أبي هريرة صحيح سبق بيانه .

والأثر المذكور عن ابن مسعود صحيح رواه البيهقي مرفوعا منقطعا ، ثم قال : الصحيح أنه موقوف ( وقوله ) في بركة - بكسر الباء - والنهر - بفتح الهاء - ويجوز إسكانها .

( أما الأحكام ) فقد سبق أن أحد شروط المبيع القدرة على تسليمه ، قال أصحابنا : وفوات القدرة قد يكون حسيا ، وقد يكون شرعيا ، فمن الشرعي بيع المرهون والوقف وأم الولد وكذا الجاني في قول ، وغير ذلك ( وأما ) الحسي ففيه مسائل : ( إحداها ) لا يجوز بيع الطير في الهواء ولا السمك في الماء المملوكين له لما ذكره المصنف ، فلو باع السمك المملوك له وهو في بركة لا يمكنه الخروج منها أو طيرا في برج مغلق فإن أمكن أخذه بلا تعب كبركة صغيرة وبرج صغير جاز بيعه بلا خلاف ، وإن لم يمكن أخذه إلا بتعب فوجهان مشهوران في كتب الخراسانيين ( أصحهما ) وبه قطع المصنف [ ص: 344 ] وآخرون ، وهو ظاهر النص في المختصر ، ونقله صاحب البيان عن النص لا يصح ( والثاني ) يصح كما يصح بيع ما يحتاج في نقله إلى مؤنة كبيرة ، وهذا الوجه لابن سريج ، قال الشيخ أبو حامد : هذا لا وجه له .

( أما ) إذا كان باب البرج مفتوحا فلا يصح على الصحيح ، وبه قطع صاحب البيان ، لأنه لا يقدر على تسليمه لتمكنه من الطيران ، قال أصحابنا : وحيث صححناه فشرطه أن لا يمنع الماء رؤيته ، فإن منعها ، ففيه قولا بيع الغائب إن عرف المتعاقدان قدره وصفته صح ، وإلا فلا يصح بلا خلاف ولو باع الطير في حال ذهابها إلى الرعي أو غيره اعتمادا على عادة عودها في الليل فوجهان مشهوران للخراسانيين ( أصحهما ) عند جمهورهم لا يصح ، وهو ظاهر كلام المصنف وغيره ( وأصحهما ) عند إمام الحرمين الصحة كالعبد المبعوث في شغل ، والمذهب : الأول ، لأنه لا وثوق بعودها لعدم عقلها بخلاف العبد .

( الثانية ) لا يجوز بيع العبد الآبق ، والجمل الشارد ، والفرس العائر ، والمال الضال ، ونحوها لما ذكره المصنف ، وسواء عرف موضع الآبق والضال ونحوه أم لا ، لأنه غير مقدور على تسليمه في الحال ، وهكذا قاله الأصحاب ، وكذا قال الرافعي : إنه المذهب المعروف . قال الأصحاب : لا يشترط في الحكم بالبطلان اليأس من التسليم ، بل يكفي ظهور التعذر ، قال : وأحسن بعض الأصحاب فقال : إذا عرف موضعه وعلم أنه يصله إذا رام وصوله فليس له حكم الآبق ( قلت : ) والمذهب ما سبق ( وأما ) المغصوب فإذا باعه مالكه - نظر إن قدر البائع على استرداده وتسليمه - صح البيع بلا خلاف كما يصح بيع الوديعة والعارية ، وإن عجز - نظر إن باعه لمن لا يقدر على انتزاعه من الغاصب - لم يصح قطعا وإن باعه من قادر على انتزاعه فوجهان مشهوران في كتب الخراسانيين ( أصحهما ) وبه قطع المصنف وغيره يصح ، لما ذكره المصنف [ ص: 345 ] والثاني ) لا ، لأن البيع لا يقتضي تكليف المشتري تعب الانتزاع ، وإن صححناه وعلم المشتري الحال فلا خيار له ، ولكن لو عجز عن انتزاعه لضعف عرض له أو قوة عرضت للغاصب فله الخيار على المذهب ، وبه قطع الأكثرون ، وفيه وجه أنه لا خيار ، حكاه الرافعي ، وإن كان جاهلا حال العقد كونه مغصوبا فله الخيار بلا خلاف ، ولو باع الآبق ممن يسهل عليه رده ، ففيه الوجهان كالمغصوب ( الصحيح ) الصحة .

( فرع ) قال أصحابنا : يجوز تزويج الآبقة والمغصوبة وإعتاقهما بلا خلاف ، قال في البيان : ولا يجوز كتابة المغصوب لأنها تقتضي التمكين من التصرف .

( الثالثة ) لو باع ملحا أو جمدا وزنا ، وكان بحيث ينماع إلى أن يوزن ففي صحة بيعه وجهان ( الأصح ) لا يصح لإمكان بيعه جزافا .

( فرع ) قال الشافعي والأصحاب : لا يجوز أن يستأجر البركة لأخذ السمك منها ، لأن الأعيان لا تملك بالإجارة ، فلو استأجر البركة ليحبس فيها الماء ليجتمع فيها السمك ويصطاده فوجهان ( أحدهما ) لا يجوز ، قاله الشيخ أبو حامد ( وأصحهما ) عند الأصحاب جوازه ، وبه قطع صاحب الشامل وآخرون ، لأن البركة يمكن الاصطياد بها فجازت إجارتها كالشبكة ، قالوا : وقول الشافعي : لا تجوز إجارة البركة للحيتان أراد به إذا حصل فيها سمك وأجرها لأخذ ما حصل فيها ، وهذه الإجارة باطلة ، لأنها إجارة لأخذ الغير ، فأما البركة الفارغة فإنه يجوز إجارتها والله أعلم .

( فرع ) قد ذكرنا أن بيع الآبق باطل ، فلو عاد الآبق بعد البيع لم ينقلب البيع صحيحا عندنا ، وقال أبو حنيفة : ينقلب صحيحا واستدل [ ص: 346 ] أصحابنا بما لو باع طائرا في الهواء ثم وقع في يده ، فإنه لا ينقلب العقد صحيحا ، وحكى صاحب البيان عن ابن عمر أنه باع آبقا .

( فرع ) قال الروياني : لو باع سفينة في لجة البحر لا يقدر على تسليمها حال العقد لم يصح ، سواء كان فيها أم لا ، فإن قدر جاز .

التالي السابق


الخدمات العلمية