صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ولا يجوز بيع العين الغائبة إذا جهل جنسها أو نوعها لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الغرر } وفي بيع ما لا يعرف جنسه أو نوعه غرر كبير ، فإن علم الجنس والنوع بأن قال : بعتك الثوب المروي الذي في كمي ، أو العبد الزنجي الذي في داري ، أو الفرس الأدهم الذي في إصطبلي ففيه قولان قال في القديم والصرف : يصح ويثبت له الخيار إذا رآه ، لما روى ابن أبي مليكة " أن عثمان رضي الله عنه ابتاع من طلحة أرضا بالمدينة ناقله بأرض له بالكوفة فقال عثمان : بعتك ما لم أره ، فقال طلحة : إنما النظر لي لأني ابتعت مغيبا وأنت قد رأيت ما ابتعت فتحاكما إلى جبير بن مطعم فقضى على عثمان أن البيع جائز ، وأن النظر لطلحة لأنه ابتاع مغيبا . ولأنه عقد على عين فجاز مع الجهل بصفته كالنكاح ( وقال ) في الجديد : لا يصح لحديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الغرر } وفي هذا البيع غرر ولأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم ( فإذا قلنا ) بقوله القديم فهل تفتقر صحة البيع إلى ذكر الصفات أم لا ؟ فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) أنه لا يصح حتى تذكر جميع الصفات كالمسلم فيه ( والثاني ) لا يصح ، حتى تذكر [ ص: 349 ] الصفات المقصودة ( والثالث ) أنه لا يفتقر إلى ذكر شيء من الصفات ، وهو المنصوص في الصرف لأن الاعتماد على الرؤية ، ويثبت له الخيار إذا رآه فلا يحتاج إلى ذكر الصفات فإن وصفه ثم وجده على خلاف ما وصف ثبت له الخيار ، وإن وجده على ما وصف أو أعلا ، ففيه وجهان ( أحدهما ) لا خيار له لأنه وجده على ما وصف فلم يكن له خيار كالمسلم فيه ( والثاني ) أن له الخيار ، لأنه يعرف ببيع خيار الرؤية فلا يجوز أن يخلو من الخيار .

وهل يكون الخيار على الفور أم لا ؟ فيه وجهان ( قال ) ابن أبي هريرة : هو على الفور لأنه خيار تعلق بالرؤية ، فكان على الفور وخيار الرد بالعيب ( وقال ) أبو إسحاق : يتقدر الخيار بالمجلس لأن العقد إنما يتم بالرؤية فيصير كأنه عقد عند الرؤية ، فيثبت له خيار كخيار المجلس ( وأما ) إذا رأى المبيع قبل العقد ثم غاب عنه ثم اشتراه ، فإن كان مما لا يتغير كالعقار وغيره جاز بيعه ، وقال أبو القاسم الأنماطي : لا يجوز في قوله الجديد ، لأن الرؤية شرط في العقد ، فاعتبر وجودها في حال العقد كالشهادة في النكاح ، والمذهب : الأول ، لأن الرؤية تراد للعلم بالمبيع وقد حصل العلم بالرؤية المتقدمة ، فعلى هذا إذا اشتراه ثم وجده على الصفة الأولى أخذه ، وإن وجده ناقصا فله الرد ; لأنه ما التزم العقد فيه إلا على تلك الصفة ، وإن اختلفا فقال البائع لم يتغير ، وقال المشتري : تغير . فالقول قول المشتري ، لأنه يؤخذ منه الثمن فلا يجوز من غير رضاه وإن كان مما يجوز أن يتغير ويجوز أن لا يتغير أو يجوز أن يبقى ويجوز أن لا يبقى ، ففيه وجهان ( أحدهما ) أنه لا يصح ، لأنه مشكوك في بقائه على صفته ( والثاني ) يصح ، وهو المذهب ، لأن الأصل بقاؤه على صفته فصح بيعه قياسا على ما لا يتغير ) .


( الشرح ) حديث أبي هريرة صحيح سبق بيانه أول الباب .

والأثر المذكور عن عثمان وطلحة رواه البيهقي بإسناد حسن ، لكن فيه رجل مجهول مختلف في الاحتجاج به ، وقد روى مسلم له في صحيحه .

( قوله ) : " الثوب المروي " بإسكان الراء بلا خلاف ولا يجوز فتحها : منسوب إلى مرو المدينة المشهورة بخراسان ، والزنجي - بفتح الزاي وكسرها - [ ص: 350 ] والإصطبل بهمزة قطع ( قوله ) : قال في القديم والصرف أي في بيان الصرف من الكتب الجديدة ، وهو أحد كتب الأم وابن أبي مليكة اسمه عبد الله بن عبد الله بن أبي مليكة اسم أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان - بضم الجيم وإسكان الدال المهملة - ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمي المكي ، كنيته أبو بكر ، كان قاضي مكة لعبد الله بن الزبير ومؤذنا له ، توفي سنة سبع عشرة ( وقوله ) " ناقله بأرض له بالكوفة " هو - بالنون والقاف - أي بادله بها ، ونقل كل واحد ملكه إلى موضع الآخر ( وقوله ) ابتعت مغيبا هو - بضم الميم وفتح الغين المعجمة وفتح الياء المشددة - ( وقوله : ) عقد على عين هو احتراز من السلم ( وقوله ) نوع بيع ، احتراز من الوصية والنكاح ( وقوله : ) خيار تعلق بالرؤية احتراز من اختيار الفسخ كالإعسار بالنفقة . ( أما الأحكام ) فقد سبق أنه يشترط العلم بقدر المبيع وعينه وصفته وهذا الفصل مع الفصول التي بعده متعلقة بصفة المبيع ، وفي الفصل مسائل : ( إحداها ) في بيع الأعيان الحاضرة التي لم تر قولان مشهوران ( قال ) في القديم والإملاء والصرف من الجديد : يصح ( وقال ) في الأم والبويطي وعامة الكتب الجديدة : لا يصح . قال الماوردي في الحاوي : نص الشافعي في ستة كتب على صحته في القديم والإملاء والصلح والصداق والصرف والمزارعة ، ونص في ستة كتب أنه لا يصح في الرسالة والسير والإجارة والغصب والاستبراء والتصرف في العروض . واختلف الأصحاب في الأصح من القولين فصحح البغوي والروياني صحته ، وصحح الأكثرون بطلانه ، ممن صححه المزني والبويطي والربيع ، وحكاه عنهم الماوردي ، وصححه أيضا الماوردي والمصنف في التنبيه والرافعي في المحرر ، وهو الأصح ، وعليه فتوى الجمهور من الأصحاب ، [ ص: 351 ] وعليه يفرعون فيما عدا هذا الموضع ، ويتعين هذا القول لأنه الآخر من نص الشافعي فهو ناسخ لما قبله . قال البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار في أول كتاب البيوع : جوز الشافعي بيع الغائب في القديم وكتاب الصلح والصرف وغيرهما ، ثم رجع فقال : لا يجوز لما فيه من الغرر ، والله أعلم .

وفي محل القولين ثلاث طرق ( أصحها ) طردهما فيما لم يره المتعاقدان أو أحدهما ، ولا فرق بينهما ( والثاني ) أنهما فيما رآه البائع دون المشتري ، فإن لم يره البائع فباطل قطعا ، لأنه يقتضي الخيار ، والخيار في جانب البائع تعبد ( والثالث ) إن رآه المشتري صح قطعا ، سواء رآه البائع أم لا فإن لم يره ففيه القولان ، لأن المشتري محصل ، والبائع معرض ، والاحتياط للمحصل أولى ، وهذا الطريق هو اختيار العراقيين ، قال أصحابنا ويجري القولان في بيع الغائب وشرائه في إجارته وكونه رأس مال سلم إذا سلمه في المجلس ، وفي المصالحة عليه ، وفي وقفه ( وأما ) إذا أصدقها عينا غائبة ، أو خالعها عليها أو عفى عن القصاص ، صح النكاح ، وحصلت البينونة في الخلع ، وسقط القصاص ، ولا خلاف في هذه الثلاثة . وفي صحة المسمى فيها القولان ، فإن لم نصحح وجب مهر المثل لها في مسألة الصداق وله في مسألة الخلع . ووجبت الدية على المعفو عنه وفي رهن الغائب وهبته القولان ، وقيل : هما أولى بالصحة لعدم الغرر ، ولهذا إذا صححناهما فلا خيار عند الرؤية ( الثانية ) إذا لم نجوز بيع الغائب وشراءه فعليه فروع ( أحدها ) استقصاء الأوصاف على الحد المعتبر في السلم ، هل يقوم مقام الرؤية ؟ وكذا سماع وصفه بطريق التواتر ، فيه وجهان ( أصحهما ) لا يقوم ، وبه قطع العراقيون ( الثاني ) إذا كان الشيء مما لا يستدل برؤية بعضه على الباقي فإن كان المرئي صوانا له - بكسر الصاد وضمها - كقشر الرمان والبيض والقشر الأسفل [ ص: 352 ] من الجوز واللوز وقشر البندق ونحوه كالخشكنان كفى رؤيته ، وصح البيع بلا خلاف ، ولا يصح بيع لب الجوز واللوز ونحوهما بانفراده ما دام في قشره بلا خلاف ، لأن تسليمه لا يمكن إلا بتغيير عين المبيع .

( أما ) إذا رأى المبيع من وراء قارورة هو فيها ، لم يكف بل هو بيع غائب ، لأن المعرفة التامة لا تحصل به ، وليس فيه صلاح له ، بخلاف السمك يراه في الماء الصافي مع سهولة أخذه ، فإنه يصح بيعه كما سبق ، وكذا الأرض يعلوها ماء صاف ، لأن الماء من صلاحها ( وأما ) إذا لم يكن كذلك فلا يكفي رؤية البعض على قولنا ببطلان بيع الغائب ( وأما ) التفريع على القول الآخر فسيأتي إن شاء الله تعالى ( الثالث ) قال أصحابنا : الرؤية في كل شيء بحسب ما يليق به ، ففي شراء الدار يشترط رؤية البيوت والسقوف والسطوح والجدران داخلا وخارجا ، والمستحم والبالوعة ، وفي البستان يشترط رؤية الجدران والأشجار والأرض ومسايل الماء ، ولا يشترط رؤية أساس البنيان والبستان والدار ، ولا عروق الأشجار ونحو ذلك . وفي اشتراط رؤية طريق الدار والماء الذي يدور به الرحى وجهان ( أصحهما ) الاشتراط لاختلاف الغرض به ، قال أصحابنا : ويشترط في العبد رؤية الوجه والأطراف ولا تجوز رؤية العورة ، وفي باقي البدن وجهان ( أصحهما ) الاشتراط ، وبه قطع البغوي وأبو الحسن العبادي في كتاب الرقم وفي الجارية أوجه ( أصحها ) كالعبد ( والثاني ) يشترط رؤية ما يبدو عند الخدمة والتصرف ( والثالث ) يكفي رؤية الوجه والكفين وفي الأسنان واللسان وجهان ( الأصح ) لا يشترط ، وفي رؤية الشعر وجهان ( أصحهما ) الاشتراط . ويشترط في الدواب رؤية مقدمها ومؤخرها وقوائمها ورفع السرج أو الإكاف والجل ، وهل يشترط أن تجري الفرس بين يديه ليعرف سيرها ؟ فيه وجهان حكاهما الروياني [ ص: 353 ] والرافعي ( الأصح ) لا يشترط ويشترط في الثوب المطوي نشره ، هكذا أطلقه الأصحاب وقطعوا به .

( قال ) إمام الحرمين : يحتمل عندي أن لا يشترط النشر في بيع الثوب التي لا تنشر أصلا عند العقد ، لما في نشرها من النقص والضرر . ثم إذا نشرت الثياب فما كان منها صفيقا كالديباج المنقوش اشترط رؤية وجهيه ، وكذا رؤية وجهي البسط والزلالي . وأما ما كان رفيعا كالكرباس فيكفي رؤية أحد وجهيه على أصح الوجهين ( قال ) أصحابنا : ولا يصح بيع الثياب التوزية في المنسوج على هذا القول ، وهي التوزية - بتاء مثناة فوق مفتوحة ثم واو مفتوحة مشددة ثم زاي - ويشترط في شراء المصحف وكتب الحديث والفقه وغيرها تقليب الأوراق ، ورؤية جميعها ، وفي الورق البياض يشترط رؤية جميع الطاقات ، وممن صرح به القاضي والرافعي والبغوي وغيرهم .

( فرع ) أما القفاع فقال أبو الحسن العبادي : يفتح رأسه فينظر فيه بقدر الإمكان ليصح بيعه . وأطلق الغزالي في الإحياء أنه يصح بيعه من غير اشتراط رؤية ، وهذا هو الأصح لأن بقاءه في الكوز من مصالحه ، ولأنه تشق رؤيته ، ولأنه قدر يسير يتسامح به في العادة ، وليس فيه غرر يفوت به مقصود معتبر .

( المسألة الثالثة ) إذا جوزنا بيع الغائب فعليه فروع ( أحدها ) إذا لم تشترط الرؤية اشترط ذكر الجنس والنوع ، فيقول : بعتك عبدي التركي ، وفرسي العربي ، أو الأدهم أو ثوبي المروي ، أو الحنطة الجبلية ، أو السهلية ونحو ذلك ، فلو أخل بالجنس والنوع فقال : بعتك ما في كفي [ ص: 354 ] أو كمي أوخزانتي أو ميراثي من فلان ، ولم يكن المشتري والبائع يعرف ذلك لم يصح البيع ، هذا هو المذهب ، وبه قطع المصنف والجمهور . وفيه وجه أنهما لا يشترطان ، فيصح بيع ما في الكم ونحوه ، ووجه ثالث أنه يشترط ذكر الجنس دون النوع ، فيقول : عبدي ، وهذان الوجهان حكاهما الخراسانيون وهما شاذان ضعيفان . وإذا ذكر الجنس والنوع ففي افتقاره مع ذلك إلى ذكر الصفات ثلاثة أوجه مشهورة ، ذكرها المصنف بأدلتها ( أصحها ) عند الأصحاب : لا يفتقر ، وهو المنصوص في القديم والإملاء والصرف ( والثاني ) : يفتقر إلى ذكر معظم الصفات ، وضبط الأصحاب ذلك بما يصف به المدعي عند القاضي ( والثالث ) : يفتقر إلى ذكر صفات السلم ، وهذان الوجهان ضعيفان ، والثالث أضعف من الثاني والثاني قول القاضي أبي حامد المروزي والثالث قول أبي علي الطبري فعلى المنصوص لو كان له عبدان من نوع فباع أحدهما اشترط تمييزه بسن أو غيره - قال الماوردي : واتفق أصحابنا على أنه لا يشترط ذكر جميع الصفات ، فإن وصفها بجميعها فوجهان ( أحدهما ) وهو قول أصحابنا البغداديين : يصح لأنه أبلغ في نفي الغرر ( والثاني ) وهو قول البصريين : لا يصح لأنه يصير في السلم ، والسلم في الأعيان لا يجوز ، وهذا شاذ ضعيف .

( فرع ) قال الماوردي : إن كان المبيع مما لا ينقل كالدار والأرض اشترط ذكر البلد الذي هو فيه ، فيقول بعتك دارا ببغداد ، وفي اشتراط ذكر البقعة من البلد وجهان ، وإن كان مما ينقل كالعبد والثوب اشترط ذكر البلد الذي هو فيه ، لأن القبض يتعجل إن كان قريبا أو يؤجل إن كان بعيدا أو لا يشترط ذكر البقعة من البلد ، وإذا ذكر البلد الذي فيه المبيع لزمه تسليمه فيه لا في غيره فإن شرط المشتري على البائع أن يسلمه في بلد البيع وكان المبيع في غيره فالبيع باطل بخلاف السلم ، لأنه في الذمة هذا كلام الماوردي ، وحكاه الرافعي عن بعض الأصحاب وسكت عليه . [ ص: 355 ] الثاني ) إذا شرطنا الوصف فوصفه ، فإن وجده دون ما وصف ، فللمشتري الخيار بلا خلاف ، وإن وجده كما وصف فطريقان ( أحدهما ) القطع بثبوت الخيار وبه قطع المصنف في التنبيه وجماعة وهو المنصوص ( وأشهرهما ) أنه على وجهين ذكرهما المصنف بدليلهما هنا ( أصحهما ) ثبوته ( أما ) إذا قلنا : لا يشترط فللمشتري الخيار عند الرؤية ، سواء كان شرط الخيار أم لا ، هذا هو المذهب ، وفيه وجه أنه لا يثبت إلا أن يكون شرطه والصحيح : الأول ، وهل له الخيار قبل الرؤية حتى ينفذ فسخه وإجازته ؟ فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) ينفذان ( والثاني ) لا ينفذ واحد منهما ( والثالث ) وهو الصحيح ينفذ فسخه قبل الرؤية دون إجازته .

هذا كله في المشتري ( وأما ) البائع ففيه ثلاثة أوجه ( أصحهما ) لا خيار له سواء كان رأى المبيع أم لا ، لأن الخيار في جانبه تعبد ( والثاني ) له الخيار في الحالين كالمشتري ( والثالث ) له الخيار إن لم يكن رآه وبه قطع الشيخ أبو حامد ومتابعوه ، وحيث قلنا : يثبت خيار الرؤية هل يكون على الفور ؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) يمتد ما دام مجلس الرؤية ، وهو قول أبي إسحاق المروزي ( والثاني ) أنه على الفور ، وبه قال أبو علي بن أبي هريرة قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه السلسلة : هذان الوجهان مبنيان على وجهين في ثبوت خيار المجلس في بيع الغائب ( أحدهما ) يثبت كما يثبت في بيع العين الحاضرة ( والثاني ) لا يثبت للاستغناء عنه بخيار الرؤية ، فعلى الأول خيار الرؤية على الفور ، لئلا يثبت خيار مجلسين في وقت واحد ، وعلى الثاني يمتد إلى انقضاء المجلس ، قال : والفرع مبني على أصل آخر ، وهو أنه إذا مات أحد العاقدين في المجلس وقلنا بالمذهب والمنصوص أنه ينتقل الخيار إلى الوارث فإلى متى يمتد ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) على الفور ( والثاني ) ما دام الوارث في مجلس خبر الموت ، وقد سبقت المسألة واضحة . [ ص: 356 ] الثالث ) هل يجوز أن يوكل في الرؤية من يفعل ما يستصوبه من فسخ أو إجازة ؟ فيه وجهان مشهوران للخراسانيين ( أصحهما ) يجوز كما يجوز التوكيل في خيار الخلف والرد بالعيب ( والثاني ) لا ، لأنه خيار شهوة ، ولا يتوقف على نقص ولا غرض ، فلا يجوز التوكيل فيه ، كمن أسلم على أكثر من أربع نسوة فإنه لا يصح توكيله في الاختيار .

( الرابع ) إذا لم نشترط الرؤية فاختلفا فقال البائع للمشتري : أنت رأيت المبيع فلا خيار لك ، فأنكر المشتري ، فوجهان ( أصحهما ) يصدق المشتري بيمينه ( والثاني ) البائع ، فإن شرطنا الرؤية فاختلفا فقال الغزالي في الفتاوى القول قول البائع ، لأن إقدام المشتري على العقد اعتراف بصحته ، قال الرافعي : فلا ينفك هذا عن خلاف ، قلت : هذه المسألة هي مسألة اختلاف المتبايعين في شرط يفسد العقد ، وفيها القولان المشهوران ، الأصح قول مدعي الصحة ( والثاني ) قول مدعي الفساد ، فيتعين جريان القولين في مسألتنا ولعل الغزالي فرعها على الأصح .

( فرع ) لو رأى ثوبين فسرق أحدهما فاشترى الثاني ولا يعلم أيهما المسروق قال الغزالي في الوسيط : إن تساوت قيمتهما وصفتهما وقدرهما كنصفي كرباس واحد صح البيع بلا خلاف ، وإن اختلفا في شيء من ذلك ففيه القولان في بيع الغائب ، وهذا الذي قاله حسن ، ولا يقال : هذا بيع ثوب من ثوبين ، لأن المبيع هنا واحد بعينه ، ولكن ليس مرئيا حالة العقد ، وقد سبقت رؤيته فاكتفي بها . واعلم أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح - رحمه الله تعالى - اعترض على الغزالي في هذا الفرع فقال : جزم بالصحة فيما إذا تساوت صفتهما وقدرهما وقيمتهما مع إجرائه الخلاف في الصورة الثانية قال : والتحقيق يوجب إجراء الخلاف السابق في استقصاء الأوصاف في صورة التساوي كما أجراه في مسألة الأنموذج التي سنذكرها إن شاء الله تعالى لأنه اعتمد مساواة غير المبيع للمبيع في [ ص: 357 ] الصفة المعلق به بالمشاهدة فهو كالأنموذج الذي ليس بمبيع ، المساوي في الصفة للمبيع ولا فرق ، فإن ذكره التساوي في القيمة اعتبار للقيمة مع الوصف ولا وجود لمثاله في هذا الباب هذا كلام أبي عمرو ، وهذان الاعتراضان اللذان ذكرهما فاسدان ( أما الأول ) فليس هذا كمسألة الأنموذج ، لأن المبيع غير الأنموذج ليس مرئيا ولا سبقت رؤيته ، وهنا سبقت رؤية الثوبين ( وأما ) قوله : يجب إجراء الخلاف المذكور في الثانية في الأولى فالفرق أن الثوبين في الثانية مختلفان ، فيحصل الغرر بخلاف الأولى ( وأما ) الاعتراض الثاني فجوابه أنه قد تختلف القيمة مع اتحاد القدر والصفة في نحو العبيد والجواري فيحصل الغرر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فرع ) هل يشترط الذوق في الخل ونحوه على قولنا باشتراط الرؤية ؟ وكذلك الشم في المسك ونحوه واللبس في الثياب ونحوها ؟ فيه طريقان ( أصحهما ) وبه قطع الأكثرون واقتضاه كلام الجمهور أنه لا يشترط ، قال الرافعي : هو الصحيح المعروف ( والثاني ) حكاه المتولي فيه وجهان ( أصحهما ) هذا ، لأن معظم المقصود يتعلق بالرؤية فلا يشترط غيرها ( والثاني ) يشترط لأنه يقع في هذا النوع اختلاف .

( فرع ) لو تلف المبيع في يد المشتري قبل الرؤية على قولنا بجواز بيع الغائب ففي انفساخ البيع وجهان كنظيره في خيار الشرط وقد سبقت المسألة بفروعها في مسائل خيار الشرط . ولو باعه قبل الرؤية لم يصح بلا خلاف ، بخلاف ما لو باعه في زمن خيار الشرط فإنه يصح على أصح الوجهين كما سبق في موضعه ، لأنه يصير مجيزا للعقد ، وهنا لا تصح ، الإجازة قبل الرؤية على الصحيح كما سبق ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فرع ) لو رأى بعض الثوب ، وبعضه الآخر في صندوق ، فطريقان ( المذهب ) وبه قطع الجمهور أنه على القولين في بيع الغائب ( والثاني ) [ ص: 358 ] باطل قطعا ، لأن ما رآه لا خيار فيه ، وما لم يره فيه الخيار ، والجمع بين الخيار وعدمه في عين واحدة ممتنع ، والطريق الأول قول أبي إسحاق والثاني حكاه الماوردي عن كثير من البصريين وغيرهم . ولو كان المبيع شيئين رأى أحدهما فقط ، فإن أبطلنا بيع الغائب ففي صحة العقد فيهما القولان فيمن جمع في صفقة واحدة مختلفي الحكم ، كالبيع والإجارة ، لأن ما رآه لا خيار فيه وما لم يره فيه الخيار ( فإن صححناه ) وهو الأصح فله الرد فيما لم يره وإمساك ما رآه .

( المسألة الرابعة ) إذا لم نجوز بيع الغائب فاشترى ما رآه قبل العقد ولم يره حال العقد فله ثلاثة أحوال : ( أحدها ) أن يكون مما لا يتغير غالبا كالأرض والأواني والحديد والنحاس ونحوها ، أو كان لا يتغير في المدة المتخللة بين العقد والرؤية ، صح البيع على المذهب ، ولا يجيء فيه الخلاف في بيع الغائب هكذا قطع جماهير الأصحاب ، وشذ الأنماطي فأبطل البيع ، وهذا فاسد ، ودليل الجميع في الكتاب ، قال الروياني في البحر : وقد ذكر أبو بكر البيهقي عن عبد العزيز بن مقلاص من تلامذة الشافعي أنه نقل عن الشافعي مثل قول الأنماطي ( فإذا قلنا ) بالمذهب فوجده كما رآه أولا فلا خيار له بلا خلاف ; لأنه ليس ببيع غائب ، وإن وجده متغيرا فالمذهب الذي قطع به الأصحاب أن البيع صحيح ، وله الخيار ، وحكى الغزالي في الوسيط أنه يتبين بطلان البيع لتبين ابتداء المعرفة حالة العقد والصواب : الأول . قال إمام الحرمين : وليس المراد بتغييره حدوث عيب ، فإن خيار العيب لا يختص بهذه الصورة ، بل الرؤية بمنزلة الشرط في الصفات الكائنة عن الرؤية فكل ما فات منها فهو كتبين الخلف في الشرط فيثبت الخيار ( الحال الثاني ) أن يكون المبيع مما يتغير في ذلك المدة غالبا فإن رأى ما يسرع فساده من الأطعمة ثم اشتراه بعد مدة يتغير فيها في العادة ، [ ص: 359 ] فالبيع باطل لأنه بيع مجهول ( الثالث ) أن يمضي على المبيع بعد الرؤية ما يحتمل أن يبقى فيه ، ويحتمل أن لا يبقى ، ويحتمل أن يتغير فيه ، ويحتمل أن لا يتغير أو كان حيوانا فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) عنده وعند الأصحاب صحة العقد ، فعلى هذا إن وجده متغيرا فله الخيار ، وإلا فلا ( والثاني ) لا يصح قال المتولي : هو قول المزني وأبي علي بن أبي هريرة ، وذكر الماوردي هذا الخلاف قولين ، قال : الأول نصه في كتاب البيوع ، وبه قال أكثر الأصحاب والثاني أشار إليه في كتاب الغصب ، واختاره المزني ، والله سبحانه أعلم .

( فرع ) إذا اختلفا في هذه الأحوال في التغير فادعاه المشتري ، وأنكره البائع ، فوجهان ( الصحيح ) المنصوص ، وبه قطع المصنف وكثيرون أن القول قول المشتري بيمينه ، لأن البائع يدعي عليه علمه بهذه الصفة ، فلم يقبل كادعائه اطلاعه على العيب ( والثاني ) حكاه الخراسانيون عن صاحب التقريب القول قول البائع بيمينه ، لأن الأصل عدم التغير ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فرع ) قد ذكرنا أنه إذا سبقت رؤيته فله ثلاثة أحوال قال الماوردي : صورة المسألة أن يكون حال البيع متذكرا للأوصاف ، فإن نسيها لطول المدة ونحوها فهو بيع غائب ، وهذا الذي قاله غريب ، ولم يتعرض له الجمهور .

( فرع ) لو رأى بعض المبيع دون البعض وهو مما يستدل برؤية بعضه على الباقي صح البيع بلا خلاف ، قال أصحابنا : وذلك كصبرة الحنطة تكفي رؤية ظاهرها ، ولا خيار له إذا رأى بعد ذلك باطنها ، إلا إذا خالف ظاهرها ، قال المتولي : وحكى أبو سهل الصعلوكي قولا شاذا أنه لا يكفي رؤية ظاهر الصبرة بل يشترط أن يقبلها ليعرف باطنها ، والمذهب الأول ، وبه قطع الأصحاب وتظاهرت عليه نصوص الشافعي . قال [ ص: 360 ] أصحابنا : وفي معنى الحنطة والشعير صبرة الجوز واللوز والدقيق ونحوها ، فلو رأى شيئا منها في وعائه فرأى أعلاه أو رأى أعلى السمن والزيت والخل وسائر المائعات في ظروفها ، كفى ذلك وصح البيع ، ولا يكون بيع غائب ، ولو كانت الحنطة في بيت مملوء منها فرأى بعضها من الكوة أو الباب كفى إن عرف سعة البيت وعمقه ، وإلا فلا ، وكذا حكم الحمد في المحمدة إن رأى أعلاه وعرف سعتها وعمقها صح البيع وإلا فلا . قال أصحابنا : ولا يكفي رؤية صبرة السفرجل والرمان والبطيخ ونحو ذلك ، بل يشترط رؤية كل واحد منها ، قالوا : لا يكفي في سلة العنب والتين والخوخ ونحو ذلك رؤية أعلاه لكثرة الاختلاف فيها بخلاف الحبوب ( أما ) الثمر فإن لم يلتزق بعض حباته ببعض فصبرته كصبرة اللوز والجوز فيصح بيعها ، وإن التزقت كقوصرة التمر فوجهان حكاهما المتولي وآخرون ( الصحيح ) الاكتفاء برؤية أعلاها ( والثاني ) لا يكفي بل يكون بيع غائب وذكر الماوردي فيه طريقين من غير تفصيل اللازق وغيره ( أحدهما ) على قول بيع الغائب ( أصحهما ) وهو قول جمهور الأصحاب - يصح قولا واحدا ( وأما ) القطن في الأعدال فهل يكفي رؤية أعلاه ؟ فيه خلاف حكاه الصيمري ، قال : والأشبه عندي أنه كقوصرة التمر ، وهذا هو الصحيح

( فرع ) إذا رأى أنموذجا من المبيع منفصلا عنه ، وبنى أمر المبيع عليه - نظر إن قال : بعتك من هذا النوع كذا وكذا - فالمبيع باطل . لأنه لم يعين مالا - ولم يراع شروط السلم ، ولا يقوم ذلك مقام الوصف في السلم على الصحيح من الوجهين ، لأن الوصف يرجع إليه عند النزاع بخلاف هذا وإن قال : بعتك الحنطة التي في هذا البيت ، وهذا الأنموذج [ ص: 361 ] منها ، فإن لم يدخل الأنموذج في البيع فوجهان ( أصحهما ) لا يصح البيع ، لأن البيع غير مرئي وإن أدخله صح على أصح الوجهين ، كما لو رآه متصلا بالباقي . وإن شئت جمعت الصورتين فقلت : فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) الصحة ( والثاني ) البطلان ( وأصحها ) إن أدخل الأنموذج في البيع صح ، وإلا فلا ، ثم صورة المسألة مفروضة في المتماثلات ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فرع ) إن اشترى الثوب المطوي وصححناه ، فنشره واختار الفسخ ، ولم يحسن طيه وكان لطيه مؤنة ، قال القفال في شرح التلخيص : وجبت مؤنة طيه على المشتري كما لو اشترى شيئا ونقله إلى بيته فوجد به عيبا ، فإن مؤنة رده على المشتري .

( فرع ) قال أصحابنا : لا يصح بيع الشاة المذبوحة قبل السلخ بلا خلاف سواء جوزنا بيع الغائب أم لا ، سواء باع الجلد واللحم معا أو أحدهما ، ولا يجوز بيع الأكارع والرءوس قبل الإبانة ، وفي الأكارع وجه شاذ أنه يصح بيعها ويجوز بيعهما بعد الإبانة نيئة ومشوية ، وكذا المبسوط نيئا ومشويا وفي النيء احتمال لإمام الحرمين من حيث إنه مستور بالجلد ، والمذهب الصحة لأنه جلد مأكول فأشبه المشوي .

( فرع ) إذا رأى فصا لم يعلم أنه جوهر أو زجاج فاشتراه ، فوجهان حكاهما المتولي ( أحدهما ) لا يصح البيع ، لأن مقصود الرؤية انتفاء الغرر ولم يحصل ( وأصحهما ) يصح لوجود العلم بعينه .

( فرع ) قال الروياني : لو رأى أرضا وآجرا وطينا ثم بنى حماما في تلك الأرض بذلك الآجر والطين ، فاشترى الحمام ولم يره وهو حمام، فيحتمل أن يصح البيع ، لأن أكثر ما تغير الصفات ، وذلك لا يبطل البيع ، ويحتمل أن لا يصح ، لأن الرؤية لم تحصل على العادة ، قال : وهذا [ ص: 362 ] أصح ، قال : وعلى هذا لو رأى رطبا ثم اشتراه تمرا لم يصح ، قلت : هذا الاحتمال الثاني هو الصواب ، لأن هذا غرر كبير تختلف به الأغراض ، هذا إذا لم يصح بيع الغائب .

( فرع ) قال الروياني : قال القفال : يصح لو رأى سخلة فصارت شاة أو صبيا فصار رجلا ولم يره بغير الرؤية الأولى ثم اشتراه ، ففيه قولا بيع الغائب ، وقال أبو حنيفة : يصح ولا خيار ( فرع ) قال الماوردي : إذا جوزنا بيع الغائب فتبايعاه بشرطه ، فهل العقد تام قبل الرؤية ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) قاله أبو إسحاق المروزي : ليس تاما ، لأن تمامه بالرضا به ، وقبل الرؤية لا يحصل الرضا ، فعلى هذا إن مات أحدهما بطل العقد ولم يقم وارثه مقامه ، لأن العقد الذي ليس بلازم يبطل بالموت وكذا لو جن أحدهما أو حجر عليه بسفه بطل العقد ، ولكل واحد منهما الفسخ قبل الرؤية ( والثاني ) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن العقد تام ، ولهما خيار المجلس ما لم يتفرقا ، فإن مات أحدهما لم يبطل العقد ، بل يقوم وارثه مقامه ، وإن جن أو حجر عليه قام وليه مقامه وليس لأحدهما الفسخ قبل الرؤية ، قال الماوردي : وثبوت الخيار عند الرؤية ينبني على هذا الخلاف فعند أبي إسحاق أن خيار المجلس عند الرؤية ، ويدوم ما لم يفارق المجلس ، قال وله أن يشترط في المجلس خيار الثلاث ، وتأجيل الثمن والزيادة فيه والنقصان منه ، وعند أبي علي لا خيار له إلا بعيب وليس له شرط خيار الثلاث ولا تأجيل الثمن ولا الزيادة فيه ولا النقص منه .

( فرع ) قال الماوردي : بيع العين الغائبة بشرط نفي خيار الرؤية باطل بلا خلاف ( قال : ) فأما بيع الحاضر بشرط خيار الرؤية كثوب في سفط أو مطوي ، ففيه وجهان ( أحدهما ) أنه على القولين في بيع الغائب ، لأنه أبعد من الغرر ( والثاني ) لا يصح قولا واحدا قال : وهو [ ص: 363 ] قول أكثر أصحابنا وإليه أشار أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة ، لأن الحاضر تمكن رؤيته ، فلا ضرورة إلى بيعه بشرط خيار الرؤية بخلاف الغائب ، هذا كلام الماوردي وذكر الروياني مثله بحروفه إلا أنه ذكر في بيع الغائب بشرط نفي خيار الرؤية وجها شاذا أنه يصح البيع ، ويلغو الشرط تخريجا من الخلاف في البيع بشرط البراءة من العيوب .

( فرع ) قال الماوردي : بيع الجزر والسلجم - وهو الذي يقال له في دمشق اللفت - والبصل ونحوها في الأرض قبل قلعها بشرط خيار الرؤية فيه طريقان : ( أحدهما ) على القولين في بيع الغائب ( والثاني ) لا يصح قولا واحدا ، قال : وهو قول سائر أصحابنا ، والفرق بينه وبين بيع الغائب من وجهين ( أحدهما ) أن الغائب يمكن وصفه بخلاف هذا ( والثاني ) أن الغائب إذا فسخ العقد فيه يرده المشتري كما كان بخلاف هذا .

( فرع ) إذا جوزنا بيع الغائب فاشترى ثوبا غائبا فحضر ونشر بعضه ونظر إليه ، قال الروياني : لا يبطل خياره حتى يرى جمعيه .

( فرع ) قال الروياني : لو كان المبيع مضبوطا بخبر ففي بيعه طريقان ( أحدهما ) يصح ( والثاني ) فيه القولان في بيع الغائب .

( فرع ) قال أصحابنا : الاعتبار في رؤية المبيع وعدمها بالعاقد ، فإذا وكل من يشتري له عينا ، فإن رآها الوكيل حال العقد أو قبله ، واكتفينا بالرؤية السابقة ، صح البيع قولا واحدا ، سواء كان الموكل رآها أم لا ، ولا خيار إذا رآها بعد العقد ، وإن لم يرها الوكيل ، ولكن رآها الموكل ، فهو بيع غائب ففيه القولان .

[ ص: 364 ] فرع ) قال أصحابنا : لو كان الثوب على منسج قد نسج بعضه ، فباعه على أن ينسج البائع باقيه ، لم يصح البيع بلا خلاف ، ونص عليه الشافعي في كتاب الصرف لعلتين .

( فرع ) إذا اشترى جبة محشوة ، ورأى الجبة دون الحشو ، صح البيع ، كما يصح بيع الدار وإن لم ير أساسها ، وقد نقل المازري المالكي وغيره الإجماع على صحة بيع الجبة ، وقد ذكرناه في أول هذا الباب .

( فرع ) في مذاهب العلماء في بيع العين الغائبة . قد ذكرنا أن أصح القولين في مذهبنا بطلانه ، وبه قال الحكم وحماد ، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وابن المنذر وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم : يصح ، نقله البغوي وغيره عن أكثر العلماء ، قال ابن المنذر : فيه ثلاثة مذاهب ( مذهب ) الشافعي أنه لا يصح ( والثاني ) يصح البيع إذا وصفه ، وللمشتري الخيار ، إذا رآه ، سواء كان على تلك الصفة أم لا ، وهو قول الشعبي والحسن والنخعي والثوري وأبي حنيفة وغيره من أهل الرأي ( والثالث ) يصح البيع ، وللمشتري الخيار ، إن كان على غير ما وصف ، وإلا فلا خيار ، قاله ابن سيرين وأيوب السختياني ومالك وعبيد الله بن الحسن وأحمد وأبو ثور وابن نصر ، قال ابن المنذر : وبه أقول . واحتج لمن صححه بقوله تعالى : { وأحل الله البيع } وهذا على عمومه إلا بيعا منعه كتاب أو سنة أو إجماع وبحديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه إن شاء أخذه وإن شاء تركه } وبحديث عمر بن إبراهيم بن خالد عن وهب البكري [ ص: 365 ] عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه } وبحديث عثمان وطلحة المذكور في الكتاب وقد سبق بيانه .

قالوا : وقياسا على النكاح فإنه لا يشترط رؤية الزوجين بالإجماع وقياسا على بيع الرمان والجوز واللوز في قشرة الأسفل ، وقياسا على ما لو رآه قبل العقد ، واحتج الأصحاب بحديث أبي هريرة وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الغرر } رواهما مسلم ، وهذا غرر ظاهر فأشبه بيع المعدوم الموصوف ، كحبل الحبلة وغيره ، وبحديث : { لا تبع ما ليس عندك } وسبق بيانه ، وقياسا على من باع النوى في التمر .

( وأما ) الجواب عن احتجاجهم بالآية الكريمة فهي عامة مخصوصة بحديث النهي عن بيع الغرر ( والجواب ) عن حديث مكحول فهو أنه حديث ضعيف باتفاق المحدثين وضعفه من وجهين ( أحدهما ) أنه مرسل لأن مكحولا تابعي ( والثاني ) أن أحد رواته ضعيف ، فإن أبا بكر بن أبي مريم المذكور ضعيف باتفاق المحدثين ، وكذا الجواب عن حديث أبي هريرة فإنه أيضا ضعيف باتفاقهم وعمر بن إبراهيم بن خالد مشهور بالضعف ووضع الحديث . وممن روى هذين الحديثين وضعفهما الدارقطني والبيهقي ، قال الدارقطني : أبو بكر بن أبي مريم ضعيف ، وعمر بن إبراهيم يضع الحديث قال : وهذا حديث باطل لم يروه غيره ، وإنما يروى هذا عن ابن سيرين من قوله . ( والجواب ) عن قصة عثمان وطلحة وجبير بن مطعم أنه لم ينتشر ذلك في الصحابة رضي الله عنهم ( والصحيح ) عندنا أن قول الصحابة ليس بحجة إلا أن ينتشر من غير مخالفة ( والجواب ) عن قياسهم على النكاح أن المعقود عليه هناك استباحة الاستمتاع ولا يمكن رؤيتها ، ولأن الحاجة تدعو إلى ترك الرؤية هناك لمشقتها غالبا . [ ص: 366 ] والجواب ) عن قياسهم على الرمان والجوز أن ظاهرهما يقوم مقام باطنهما في الرؤية ، كصبرة الحنطة ، ولأن في استتار باطنها مصلحة لها كأساس الدار بخلاف بيع الغائب .

( والجواب ) عن قياسهم على ما لو رآه قبل العقد أن المبيع هناك يكون معلوما للمشتري حال العقد ، وبخلاف مسألتنا والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية