صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( واختلف أصحابنا في بيع الباقلاء في قشره فقال أبو سعيد الإصطخري : يجوز لأنه يباع في جميع البلدان من غير إنكار ( ومنهم ) من قال : لا يجوز وهو المنصوص في الأم ، لأن الحب قد يكون صغارا ، وقد يكون كبارا وقد يكون في بيوته ما لا شيء فيه ، وقد يكون فيه حب متغير ، وذلك غرر من غير حاجة ، فلم يجز . واختلفوا أيضا في بيع نافجة المسك فقال أبو العباس : يجوز بيعها ، لأن النافجة فيها صلاح للمسك ، لأن بقاءه فيها أكثر ، فجاز بيعه فيها ، كالجوز في القشر الأسفل ، ومن أصحابنا من قال ، لا يجوز ، وهو ظاهر النص ، لأنه مجهول القدر ، مجهول الصفة ، وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز واختلفوا في بيع الطلع في قشره ، فقال أبو إسحاق : لا يجوز بيعه ، لأن المقصود مستور بما لا يدخر فيه ، فلم يصح بيعه كالثمر في الجراب وقال أبو علي بن أبي هريرة : يجوز لأنه مستور بما يؤكل معه من القشر ، فجاز بيعه فيه كالقثاء والخيار .

واختلف قوله في بيع الحنطة في سنبلها ( فقال ) في القديم : يجوز ، لما روى أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود ، وعن بيع الحب حتى يشتد } ( وقال ) في الجديد : لا يجوز لأنه لا يعلم قدر ما فيها من الحب ولا صفة الحب ، وذلك غرر لا تدعو الحاجة إليه فلم يجز )


( الشرح ) حديث أنس رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وآخرون بأسانيد صحيحة ، قال الترمذي : هو حديث حسن ، وفي الباقلا لغتان سبقتا في أول كتاب الطهارة التخفيف مع المد ، والتشديد مع القصر ( وقوله : ) غرر من غير حاجة ، احتراز من أساس الدار ومن السلم ، ونافجة المسك - بالنون والفاء والجيم - وهي ظرفه الذي يكون فيه من [ ص: 370 ] أصله ، والجراب - بكسر الجيم وفتحها - الكسر أفصح والقثاء - بكسر القاف وضمها - الكسر أفصح ، وهو ممدود .

( أما الأحكام ) ففيها مسائل : ( إحداها ) يجوز بيع الباقلا في القشر الأسفل بلا خلاف ، وسواء كان أخضر أو يابسا وأما بيعه في قشرة الأعلى والأسفل - فإن كان يابسا - لم يجز على قولنا بمنع بيع الغائب فإن جوزناه جاز ، وهكذا صرح به إمام الحرمين والبغوي والجمهور . وحكى المتولي وجها أنه يصح إن منعنا بيع الغائب ، وهذا شاذ ضعيف ، لأنه مستور بما لا يحتاج إلى بقائه فيه ، ولا حاجة إلى شرائه كذلك . وإن كان رطبا ففيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أحدهما ) وهو قول الإصطخري يجوز ، وادعى إمام الحرمين والغزالي أن الأصح صحته ، لأن الشافعي رضي الله عنه أمر أن يشترى له الباقلا الرطب ( والثاني ) لا يجوز ، وهو المنصوص في الأم كما ذكره المصنف والأصحاب وهذا هو الأصح عند البغوي وآخرين وقطع به المصنف في التنبيه .

( الثانية ) في بيع طلع النخل مع قشره وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) جوازه وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ( الثالثة ) المسك طاهر ، ويجوز بيعه بلا خلاف ، وهو إجماع المسلمين ، نقل جماعة فيه الإجماع ، ونقل صاحب الشامل وآخرون عن بعض الناس أنه نجس لا يجوز بيعه ، قال الماوردي : هو قول الشيعة ، قالوا : لأنه دم ولأنه منفصل من حيوان حي ، وما أبين من حي فهو ميت ، وهذا المذهب خلط صريح وجهالة فاحشة ، ولولا خوف الاغترار به لما تجاسرت على حكايته ، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة عن عائشة [ ص: 371 ] وغيرها من الصحابة أنهم رأوا وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وانعقد إجماع المسلمين على طهارته وجواز بيعه ( وأما ) قوله : إنه دم فلا يسلم ولو سلم لم يلزم منه نجاسته فإنه دم غير مسفوح كالكبد والطحال .

( وأما ) قوله : منفصل من حيوان حي فأجاب الأصحاب عنه بجوابين ( أحدهما ) أن الظبية تلقيه كما تلقي الولد ، وكما يلقي الطائر البيضة ، فيكون طاهرا كولد الحيوان المأكول وبيضه ، ولأنه لو كان من حيوان لا يؤكل لم يلزم من ذلك نجاسته ، فإن العسل من حيوان لا يؤكل وهو طاهر حلال بلا شك ( والجواب الثاني ) أن هذا قياس منابذ للسنة ، فلا يلتفت إليه والله سبحانه وتعالى أعلم .

( وأما ) بيع المسك في فأرته ، وهي نافجته ففيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) يجوز مطلقا ، قاله ابن سريج لما ذكره المصنف ( والثاني ) إن كانت مفتوحة وشاهد المسك فيها ولم يتفاوت ثمنها صح البيع وإلا فلا ، وبه قطع المتولي وصاحب البيان ( والثالث ) وهو الصحيح لا يصح بيعه فيها مطلقا ، سواء بيع معها أو دونها ، مفتوحة وغير مفتوحة ، كما لا يصح بيع اللحم في الجلد ، وهذا هو المنصوص ، ولو رأى المسك خارج الفأرة ثم رده إليه وباعه فيها وهي مفتوحة الرأس صح البيع قطعا ، وإن كانت غير مفتوحة فقد قالوا : فيه القولان في بيع الغائب ، وهذا محمول على أنه مضى عليه زمن يتغير فيه غالبا ، وإلا فيصح قولا واحدا لأنه قد رآه ، قال أصحابنا : ولو باع المسك المخلوط بغيره لم يصح قولا واحدا ، لأن المقصود مجهول كما لا يصح بيع اللبن المخلوط بالماء ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

[ ص: 372 ] فرع ) قال الماوردي : وأما الزباد فهو لبن سنور ، يكون في البحر ، قال : ولأصحابنا في جواز بيعه وجهان ، إذا قلنا بنجاسة ما لا يؤكل لحمه ( أحدهما ) نجس ، لا يجوز بيعه ( والثاني ) طاهر ويجوز بيعه كالمسك ، هذا كلام الماوردي ، والصواب طهارته وصحة بيعه ، لأن الصحيح حل لحم كل حيوان البحر ، وحل لبنه كما سبق في بابه ، وقد سبقت هذه المسألة في باب إزالة النجاسة .

( فرع ) قال أصحابنا : لا يجوز بيع اللبن والخل ونحوهما إذا كان مخلوطا بالماء ، لأن المقصود مجهول .

( فرع ) اتفق أصحابنا على أنه لو باع المسك المختلط بغيره لم يصح ، لأن المقصود مجهول ، كما لا يصح بيع اللبن المختلط بالماء ، والمراد إذا خالط المسك غيره لا على وجه التركيب - فإن كان معجونا مع غيره كالغالية والند - جاز بيعه ، ولم يجز السلم فيه .

( فرع ) اتفق أصحابنا على أنه لا يجوز بيع تراب المعدن قبل تصفيته . وتمييز الذهب والفضة منه ، وكذا تراب الصاغة ، سواء باعه بذهب أم بفضة أم بغيرهما ، هذا مذهبنا ، وقال الحسن والنخعي وربيعة والليث : يجوز بيع تراب الفضة بالذهب ، وبيع تراب الذهب بالفضة وقال مالك : يجوز بيع تراب المعدن بما يخالفه بالوزن إن كان ذهبا ووافقنا أنه لا يجوز بيع تراب الصاغة بحال ، دليلنا أن المقصود مستور بما لا مصلحة له فيه في العادة ، فلم يصح بيعه فيه كبيع اللحم في الجلد بعد الذبح ، وقبل السلخ .

( المسألة الرابعة ) قال أصحابنا : يشترط ظهور المقصود في بيع الثمرة والزرع ونحو ذلك ، فإذا باع ثمرة لا كمام لها كالتين والعنب والكمثرى والمشمش والخوخ والإجاص ونحو ذلك صح البيع بالإجماع ، سواء باعها [ ص: 373 ] على الأرض أو على الشجر ، لكن يشترط في بيعها على الشجر كونه بعد بدو الصلاح ، أو يشترط القطع ، قال أصحابنا : ولو باع الشعير أو الذرة أو السلت مع سنبله جاز قبل الحصاد وبعده بلا خلاف ، لأن حابته ظاهرة ولو كان للثمر والحب كمام لا يزال إلا عند الأكل كالرمان ونحوه والعلس ، جاز بيعه في كمامه أيضا بلا خلاف ( وأما ) ماله كمامان يزال أحدهما ويبقى الآخر إلى وقت الأكل كالجوز واللوز والرانج فيجوز بيعه في القشر الأسفل بلا خلاف ، ولا يجوز في القشر الأعلى ، لا على الأرض ، ولا على الشجر ، لا رطبا ولا يابسا ، وفي قول ضعيف حكاه الخراسانيون يجوز ما دام رطبا والمذهب البطلان مطلقا .

( أما ) ما لا يرى حبه في سنبله كالحنطة والعدس والحمص والسمسم والحبة السوداء فما دام في سنبله لا يجوز بيعه منفردا عن سنبله بلا خلاف ، كما لا يجوز بيع تراب الصاغة والمعدن ، قال أصحابنا : ولو باع الحنطة لم يصح بلا خلاف لما ذكرناه ( أما ) إذا باع هذا النوع مع سنبله فقولان مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليلهما ( الأصح ) الجديد : لا يصح بيعه ( والقديم ) صحته وفي الأرز طريقان ( المذهب ) صحة بيعه في سنبله كالشعير ، ولأنه يدخر في قشره فأشبه العلس وبهذا الطريق قال ابن القاص وأبو علي الطبري والأكثرون ، وصححه القاضي أبو الطيب وصاحب الشامل والرافعي ( والثاني ) فيه القولان كالحنطة ، قاله الشيخ أبو حامد والله تعالى أعلم .

( فرع ) لا يجوز بيع الجزر والثوم والبصل والفجل والسلق في الأرض لأن المقصود مستور ، ويجوز بيع أوراقها الظاهرة بشرط القطع ، ويجوز بيع القنبيط في الأرض لظهوره ، وكذا نوع من الشلجم يكون ظاهرا ، وهو بالشين المعجمة والجيم - والقنبيط بضم القاف وفتح النون المشددة - كذا هو في صحاح الجوهري وغيره ، وقد سبقت هذه المسألة قريبا .

[ ص: 374 ] فرع ) قال أصحابنا : يجوز بيع اللوز في الأعلى قبل انعقاد الأسفل ، لأنه مأكول كله كالتفاح .

( فرع ) حيث قلنا ببطلان البيع في هذه الصورة السابقة فهل هو تفريع على بطلان بيع الغائب ؟ فيه طريقان سبقا عن حكاية الماوردي ( أحدهما ) وبه قطع إمام الحرمين هو مفرع عليه ، فإن جوزنا بيع الغائب صح البيع في كل هذه الصور ( والطريق الثاني ) وبه قطع البغوي في بيع الجزر ونحوه ليس هو مفرعا عليه ، بل هو باطل على القولين ، لأن في بيع الغائب يمكن رد المبيع بعد العقد بصفته ، وهنا لا يمكن ، وهذا الطريق هو الأصح ، وقد سبق عن الماوردي أنه نقله عن جمهور أصحابنا ، وسبق إيضاح الفرق .

( فرع ) إذا قلنا بالبطلان في هذه الصور فباع الجوز مثلا في قشره الأعلى مع الشجر ، أو باع الحنطة في سنبلها مع الأرض فطريقان ( أحدهما ) يبطل البيع في الجوز والحنطة ، وفي بطلانه في الشجر والأرض قولا تفريق الصفقة ( وأصحهما ) القطع بالبطلان في الجميع ، للجهل بأحد المقصودين ، وتعذر التوزيع ، ولو باع أرضا مبذورة مع البذر فوجهان مشهوران ، وقد ذكرهما المصنف في باب بيع الأصول والثمار ( أحدهما ) يصح في الأرض وفي البذر تبعا لها ( والثاني ) وهو الصحيح باتفاق الأصحاب بطلان البيع في البذر ، ثم في الأرض الطريقان ، قال الرافعي : ومن قال بالصحة لا يقول بالتوزيع ، بل يوجب جميع الثمن بناء على قولنا بالضعيف في تفريق الصفقة أنه يأخذ بجميع الثمن ، والله سبحانه أعلم .

( فرع ) ثبتت الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن المحاقلة } قال العلماء : المحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بكيل معلوم من الحنطة ، واتفق العلماء على بطلانها ، وله علتان مع الحديث ( إحداهما ) [ ص: 375 ] أنه بيع حنطة وتبن بحنطة ، وذلك ربا ( والثانية ) أنه بيع حنطة في سنبلها فلو باع شعيرا في سنبله بحنطة خالصة صافية وتقابضا في المجلس جاز بلا خلاف ، ولو باع زرعا قبل ظهور حبه بحب من جنسه صح البيع بلا خلاف ، لأن الحشيش ليس ربويا .

( فرع ) في مذاهب العلماء في بيع الحنطة في سنبلها ، ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا بطلانه ، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : يصح ، دليلنا ما ذكره المصنف

( فرع ) في مذاهبهم في بيع الجزر والبصل والثوم والشلجم والفجل وهو غائب في منبته ، قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور بطلان بيعه ، وحكاه ابن المنذر عن الشافعي وأحمد ، قال : وأجازه مالك والأوزاعي وإسحاق ، قال ابن المنذر : وببطلانه أقول ، لأنه غرر .

التالي السابق


الخدمات العلمية