صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز البيع إلا بثمن معلوم الصفة ، فإن باع بثمن مطلق في موضع ليس فيه نقد متعارف ، لم يصح البيع ، لأنه عوض في البيع ، فلم يجز مع الجهل بصفته كالمسلم فيه ، فإن باع بثمن معين تعين ، لأنه عوض فتعين بالتعيين كالمبيع فإن لم يره المتعاقدان أو أحدهما فعلى ما ذكرناه من القولين في بيع العين التي لم يرها المتبايعان أو أحدهما ) .


[ ص: 399 ] الشرح ) قوله : عوض في البيع احتراز من الثواب في الهبة على أحد القولين ، قال أصحابنا : يشترط كون الثمن معلوم الصفة ، فإن قال : بعتك هذه الدار ، أو قال : بهذه الدنانير ، أو قال : بهذه الدراهم ، وهي مشاهدة لهما ، صح البيع ، سواء علما قدرها أم لا ، وقد سبقت المسألة عند مسألة بيع الصبرة جزافا ، وإن قال : بعتك بالدينار الذي في بيتي أو في همياني ، أو الدرهم الذي في بيتي ، فإن كان قد رأياها قبل ذلك صح البيع ، وإلا ففيه الخلاف في بيع العين الغائبة ( أما ) إذا قال : بعتك بدينار في ذمتك ، أو قال : بعشرة دراهم في ذمتك ، أو أطلق الدراهم فلا خلاف أنه يشترط العلم بنوعها ، فإن كان في البلد نقد واحد أو نقود ، لكن الغالب واحد منها ، انصرف العقد إلى ذلك النقد الواحد أو الغالب ، وإن كان فلوسا انصرف إليها عند الإطلاق ، صرح به البغوي والرافعي وغيرهما ، فإن عين غير ذلك في العقد تعين .

( فرع ) قد ذكرنا في باب زكاة الذهب والفضة في جواز المعاملة بالدراهم المغشوشة ، أنها إن كان الغش معلوم القدر صحت المعاملة بها قطعا ، فإن كان مجهولا فأربعة أوجه ( أصحها ) تصح المعاملة بها معينة وفي الذمة ( والثاني ) لا تصح ( والثالث ) تصح معينة ولا تثبت في الذمة بالبيع ، ولا بغيره ( والرابع ) إن كان الغش غالبا لم تصح ، وإلا فتصح ، وذكر هناك توجيه الأوجه وتفريعها وفوائدها ، قال أصحابنا : فإن قلنا بالصحيح وهو الصحة مطلقا انصرف إليها العقد عند الإطلاق ، ولو باع بمغشوش ثم بان أن فضته ضئيلة جدا فله الرد على المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وحكى الصيمري عن شيخه أبي العباس المصري أنه كان يقول فيه وجهان ( أحدهما ) هذا ( والثاني ) لا خيار ، لأن غشها معدوم في الأصل ، وحكى هذا الوجه أيضا صاحب البيان والرافعي وغيرهما .

( فرع ) إذا كان في البلد نقدان أو نقود . لا غالب فيها ، لم يصح [ ص: 400 ] البيع هناك حتى يعين نقدا منها ، وهذا لا خلاف فيه ، لأنه ليس بعضها أولى من بعض .

( فرع ) قال أصحابنا : وتقويم المتلف يكون بغالب نقد البلد ، فإن كان فيه نقدان فصاعدا ولا غالب فيها عين القاضي واحدا للتقويم بلا خلاف .

( فرع ) لو غلب من جنس العروض نوع ، فهل ينصرف الذكر إليه عند الإطلاق ؟ فيه وجهان مشهوران في طريقة الخراسانيين ( أصحهما ) ، ينصرف كالنقد ( والثاني ) لا ، لأن النقد لا يختلف الغرض فيه ، بخلاف العرض ، وصورة المسألة أن يبيع صاعا من الحنطة بصاع منها ، أو شعير في الذمة ، وتكون الحنطة والشعير الموجودان في البلد صنفا معروفا أو غالبا لا يختلف ، ثم يحضره بعد العقد ويسلمه في المجلس .

( فرع ) قال أصحابنا : كما ينصرف العقد عند الإطلاق إلى العقد الغالب من حيث النوع ينصرف إليه أيضا من حيث الصفة ، فإذا باع بدينار أو دنانير ، والمعهود في البلد الدنانير الصحاح انصرف إليها ، وإن كان المعهود المكسرة انصرف إليها ، كذا نقله الصيمري وصاحب البيان عن الأصحاب ، قالا : إلا أن تتفاوت قيمة المنكس ، فلا يصح ، قال الرافعي : وعلى هذا القياس لو كان المعهود أن يؤخذ نصف الثمن من هذا ونصفه من ذاك أو أن يؤخذ على نسبة أخرى ، فالبيع صحيح محمول على ذلك المعهود ، وإن كان المعهود التعامل بهذا مرة وبهذا مرة ، ولم يكن بينهما تفاوت ، صح البيع وسلم ما شاء منهما ، وإن كان بينهما تفاوت لم يصح البيع ، كما لو كان في البلد نقدان غالبان وأطلق . ولو قال : بعتك بألف صحاح ومكسرة فوجهان ( أصحهما ) بطلان البيع لعدم بيان قدر الصحيح والمكسرة ( والثاني ) صحته ، ويحمل على [ ص: 401 ] النصف ، قال الرافعي : ويشبه أن يجيء هذا الوجه فيما إذا قال : بعتك بألف مثقال ذهب وفضة ( قلت : ) لا جريان له هناك ، والفرق كثرة التفاوت بين الذهب والفضة فيعظم الغرر . وإن قال : بعتك بألف درهم مسلمة أو منقية لم يصح ، لأنه ليس لها عادة مضبوطة ، ذكره الصيمري وصاحب البيان ( فرع ) قال أصحابنا : لو قال : بعتك بدينار صحيح فأحضر صحيحين وزنهما مثقال ، لزمه قبولهما ، لأن الغرض لا يختلف بذلك ، وإن أحضر صحيحا وزنه مثقال ونصف ، قال صاحب التتمة : لزمه قبوله ، وتبقى الزيادة أمانة في يده ، والصواب الذي عليه المحققون أنه لا يلزمه قبوله لما في الشركة من الغرر .

وقد جزم صاحب البيان وآخرون بأنه لا يلزمه قبوله فلو تراضيا جاز ، ثم إن أراد أحدهما كسره وامتنع الآخر لم يجز البيع ، لما في هذه القسمة من الضرر . قال أصحابنا : ولو باع بنصف دينار صحيح بشرط كونه مدورا جاز إن كان يعم وجوده هناك فإن لم يشترط كونه مدورا وكان وزنه نصف مثقال - فإن سلم إليه صحيحا أكثر من نصف مثقال وتراضيا بالشركة فيه - جاز فإن امتنع أحدهما لم يجز لما ذكرناه ولو باعه شيئا بنصف دينار صحيح ، ثم باعه شيئا آخر بنصف دينار صحيح ، فإن سلم صحيحا عنهما فقد زاده خيرا ، وإن سلم قطعتين وزن كل واحدة نصف دينار جاز ، فلو شرط في العقد الثاني تسليم صحيح عنهما فالعقد الثاني باطل ( وأما الأول ) فإن كان الشرط بعد لزومه فهو ماض على الصحة ، ويلزمه نصف هو شق ، وإن كان قبل لزومه فهو إلحاق شرط فاسد بالعقد في زمن الخيار ، والأصح أنه يلحق فيبطل العقد الأول أيضا ، والله سبحانه أعلم .

قال الصيمري وصاحب البيان : وإن قال : بعتك هذا الثوب بنصفي دينار ، لزمه تسليم دينار مضروب ، لأن ذلك عبارة عن دينار ، وإن قال : [ ص: 402 ] بعتكه بنصف دينار وثلث دينار وسدس دينار ، لم يلزمه دينار صحيح ، بل له دفع شق من كل وزن .

( فرع ) لو باع بنقد قد انقطع من أيدي الناس فالعقد باطل لعدم القدرة على التسليم ، فإن كان لا يوجد في ذلك البلد ، ويوجد في غيره ، فإن كان الثمن حالا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن نقله فيه فالعقد باطل أيضا ، وإن كان مؤجلا إلى مدة يمكن نقله فيها صح البيع ثم إن حل الأجل وقد أحضره فذاك ، وإلا فينبني على أن الاستبدال على الثمن هل يجوز ؟ ( إن قلنا : ) لا ، فهو كانقطاع المسلم فيه ( وإن قلنا ) نعم استبدل ولا ينفسخ العقد على المذهب وفيه وجه ضعيف أنه ينفسخ ( أما ) إذا كان يوجد في البلد ولكنه عزيز ، فإن جوزنا الاستبدال صح العقد ، فإن وجد فذاك وإلا فيستبدل وإن لم نجوزه لم يصح ( أما ) إذا كان النقد الذي جرى به التعامل موجودا ثم انقطع فإن جوزنا الاستبدال استبدل وإلا فهو كانقطاع المسلم فيه والله سبحانه أعلم .

( فرع ) لو باع بنقد معين أو مطلق ، وحملناه على نقد البلد فأبطل السلطان المعاملة بذلك النقد لم يكن للبائع إلا ذلك النقد ، هذا هو المذهب وقد سبقت المسألة في هذا الباب في فرع من مسائل كيفية القبض ، وذكرنا فيها أوجهها وتفاريعها .

( فرع ) قال صاحب البيان : قال الصيمري : إذا باعه بنقد في بلد ثم لقيه ببلد آخر لا يتعامل الناس فيه بذلك النقد فدفع إليه النقد المعقود عليه فامتنع من قبضه ، فهل له الامتناع ؟ فيه ثلاثة أوجه ( الصحيح ) ليس له الامتناع ، بل يجبر على أخذه ، لأنه المعقود عليه ، كما لو باعه بحنطة فلم يقبضها حتى رخصت ( والثاني ) لا يجبر على أخذها ، وله الامتناع [ ص: 403 ] منه ، كما لو سلم إليه في موضع مخوف ( والثالث ) إن كان البلد الذي يدفعه فيه لا يتعامل الناس فيه بذلك النقد : لم يجبر عليه ، وإن كانوا يتعاملون به بوكس لزمه أخذه وأجبر عليه .

( فرع ) إذا باعه بثمن معين تعين الثمن ، وقال أبو حنيفة : لا يتعين ، وكذا لو عينا في الإجارة أو الصداق أو الخلع أو غيرها من العقود دراهم أو دنانير تعينت بالتعيين عندنا ، وقال أبو حنيفة : لا تتعين الدراهم والدنانير في العقود كلها ، وتظهر فائدة الخلاف في مسائل : ( منها ) لو تلفت تلك الدراهم قبل القبض انفسخ العقد ، ولا ينفسخ عنده .

( ومنها ) لو أراد أن يمسك تلك ويدفع بدلها لم يكن له ذلك عندنا ، ويجوز عنده .

( ومنها ) لو وجد بتلك الدراهم عيبا وردها انفسخ العقد ، وليس له طلب البدل ، وعنده له ذلك .

( ومنها ) لو أراد أن يأخذ عنها عوضا من القبض لا يجوز عندنا كالقبض ، وعنده يجوز ، واحتج أبو حنيفة بأن المقصود من الدراهم والدنانير رواجها لا عينها ، وغير المعين يعمل عمل المعين ، واحتج أصحابنا بالقياس على السلعة فإنها تتعين بالإجماع وبالقياس على الغصب ، فإن الدراهم والدنانير تتعين فيه بالإجماع ، وبالقياس على ما لو أخذ صاعا من صبرة فباعه بعينه ، فإنه يتعين بالإجماع ، ولا يجوز أن يعطي صاعا آخر بدله من تلك الصبرة مع أنه يعمل عمله ، ولأنه قصد بالتعيين أن لا يتعلق الثمن بذمته فلا يجوز تعليقه بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية