صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل كمجيء الشهر وقدوم الحاج ، لأنه بيع غرر من غير حاجة فلم يجز ، ولا يجوز بيع المنابذة ، وهو أن يقول إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع ، ولا بيع الملامسة وهو أن يمس الثوب بيده ولا ينشره ، وإذا مسه فقد وجب البيع ، لما روى أبو سعيد الخدري قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين المنابذة والملامسة } والمنابذة أن يقول : إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع ، والملامسة أن يمسه بيده ولا ينشره ، فإذا مسه فقد وجب البيع ولأنه إذا علق وجوب البيع على نبذ الثوب فقد علق البيع على شرط ، وذلك لا يجوز ، وإذا لم ينشر الثوب فقد باع مجهولا وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز . ولا يجوز بيع الحصى ، وهو أن يقول : بعتك ما وقع عليه الحصى من ثوب أو أرض ، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الحصى } ولأنه بيع مجهول من غير حاجة فلم يجز ، ولا يجوز بيع حبل الحبلة لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة } واختلف في تأويله ، فقال الشافعي رضي الله عنه : هو بيع السلعة بثمن إلى أن تلد الناقة ويلد حملها ، وقال أبو عبيد هو بيع ما يلد حمل الناقة ، فإن كان على ما قال الشافعي رحمه الله فهو بيع بثمن إلى أجل مجهول ، وقد بينا أن ذلك لا يجوز . وإن كان على ما قال أبو عبيد فهو بيع معدوم ومجهول ، وذلك لا يجوز ولا يجوز بيعتان في بيعة ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة } فيحتمل أن يكون المراد به أن يقول : بعتك هذا بألف نقدا أو بألفين نسيئة فلا يجوز للخبر ، ولأنه لم يعقد على ثمن معلوم . ويحتمل أن يكون المراد به أن يقول : بعتك هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف ، [ ص: 415 ] فلا يصح للخبر ، ولأنه شرط في عقد ، وذلك لا يصح فإذا سقط وجب أن يضاف إلى ثمن السلعة بإزاء ما سقط من الشرط وذلك مجهول ، فإذا أضيف إلى الثمن صار مجهولا فبطل ) .


( الشرح ) أما حديث أبي سعيد فرواه البخاري ومسلم مع تفسيره وأما حديث النهي عن بيع الحصاة فرواه مسلم في صحيحه من رواية أبي هريرة ( وأما ) حديث ابن عمر في حبل الحبلة فرواه البخاري ومسلم ( وأما ) حديث أبي هريرة في النهي عن بيعتين في بيعة فهو صحيح سبق بيانه قريبا في الفصل الذي قبل هذا وبسطنا القول فيه ( وقوله : ) وهو أن يمس هو - بفتح الياء والميم - ويجوز ضم الميم في لغة قليلة ، وننكر على المصنف قوله وروي في حديث النهي عن بيع الحصاة . فأتى به بصيغة التمريض الموضوعة للضعيف مع أنه حديث صحيح كما أوضحناه . وقوله : ( حبل الحبلة ) هو - بفتح الباء - فيهما ، قال أهل اللغة : الحبلة هنا جمع حابل كظالم وظلمة ، وفاجر وفجرة ، وكاتب وكتبة ، وقال الأخفش يقال : حبلت المرأة فهي حابل ، ونسوة حبلة ، وقال ابن الأنباري وغيره : الهاء في الحبلة للمبالغة واتفق أهل اللغة على أن الحبل مختص بالآدميات ، وإنما يقال في غيرهن : الحمل ، يقال حملت المرأة ولدا وحبلت بولد ، وحملت الشاة - بالميم - وكذا البقرة والناقة ونحوها ، قال أبو عبيد : لا يقال لشيء من الحيوان : حبل غير الآدمي إلا ما جاء في هذا الحديث . واختلف العلماء في تفسيره على قولين ذكرهما المصنف فالذي حكاه عن الشافعي ، وهو تفسير ابن عمر راوي الحديث ثبت عنه في الصحيحين وبه قال مالك وآخرون والذي حكاه عن أبي عبيد ، قاله أيضا أبو عبيدة معمر بن المثنى شيخ أبي عبيد ، وقاله أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهو أقرب إلى اللغة ، ولكن المذكور عن الشافعي [ ص: 416 ] وموافقيه أقوى لأنه تفسير الراوي وهو أعرف ، وعلى التقديرين البيع باطل بالإجماع ، لما ذكره المصنف واعلم أن أبا عبيد الذي ذكره المصنف هنا في التنبيه هو بإسقاط الهاء في آخره وهو القاسم بن سلام الإمام المشهور في علوم كثيرة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( وأما ) بيع المنابذة ففيه تأويلات ( أحدها ) أن يجعل نفس النبذ بيعا قاله الشافعي وغيره ، وهو بيع باطل ، قال الرافعي : قال الأصحاب : ويجيء فيه الخلاف في المعاطاة فإن المنابذة مع قرينة البيع هي نفس المعاطاة ( والثاني ) أن يقول : بعتك على أني إذا نبذته إليك انقطع الخيار ، ولزم البيع ، وهو بيع باطل ( والثالث ) أن المراد بنبذ الحصاة الذي سنذكره إن شاء الله تعالى .

( وأما ) بيع الملامسة ففيه تأويلات ( أحدها ) تأويل الشافعي وجمهور الأصحاب ، وهو أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستلم ، فيقول صاحبه : بعتكه بكذا ، بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك ، ولا خيار لك إذا رأيته ( والثاني ) أن يجعلا نفس اللمس بيعا ، فيقول إذا لمسته فهو بيع لك ( والثالث ) أن يبيعه شيئا على أنه متى لمسه انقطع خيار المجلس وغيره ، ولزم البيع ، وهذا البيع باطل على التأويلات كلها ، وفي الأول احتمال لإمام الحرمين ، وقال صاحب التقريب : تفريعا على صحة نفي خيار الرؤية قال : وعلى التأويل الثاني له حكم المعاطاة ( والمذهب ) الجزم ببطلانه على التأويلات كلها .

( وأما ) بيع الحصاة ففيه تأويلات ( أحدها ) أن يقول بعتك من هذه الأثواب ما تقع عليه الحصاة التي أرميها ، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى حيث تنتهي إليه هذه الحصاة ( والثاني ) أن يقول بعتكه على أنك بالخيار إلى أن أرمي الحصاة ( والثالث ) أن يجعلا نفس الرمي بيعا وهو إذا رميت هذه الحصاة فهذا الثوب مبيع لك بكذا ، والبيع باطل على جميع [ ص: 417 ] التأويلات ( وأما ) البيعتان في بيعة ففيه هذان التأويلان اللذان ذكرهما المصنف ، وقد نص الشافعي عليهما في مختصر المزني ، وقد قدمناهما مع كلام الأئمة فيه ، وظاهر كلام المصنف يقتضي أن التأويلين لنفسه ، وليس كذلك ، والله سبحانه أعلم .

( فرع ) مختصر ما ذكره المصنف في هذا الفصل أن لا يجوز بيعتان في بيعة ، ولا بيع حبل الحبلة ولا بيع الحصاة والمنابذة والملامسة ، ولا تعليق البيع على شرط مستقبل بأن يقول : إذا جاء المطر أو قدم الحاج أو إذا جاء زيد أو إذا غربت الشمس أو ما أشبه هذا فقد بعتكه ، وهذا عقد باطل بلا خلاف للحديث الصحيح في النهي عن الغرر .

التالي السابق


الخدمات العلمية