صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز بيع المصحف ولا العبد المسلم للكافر ، لأنه يعرض العبد للصغار والمصحف للابتذال ، فإن باعه منه ففيه قولان ( أحدهما ) أن البيع باطل ، لأنه عقد منع منه لحرمة الإسلام فلم يصح ، كتزويج المسلمة من الكافر ( والثاني ) يصح لأنه سبب يملك به العبد الكافر ، فجاز أن يملك به العبد المسلم كالإرث ( فإن قلنا ) بهذا أمرناه بإزالة ملكه ، لأن في تركه في ملكه صغارا على الإسلام فإن باعه أو أعتقه جاز ، وإن كاتبه ففيه قولان ( أحدهما ) يقبل منه ، لأن بالكتابة يصير كالخارج من ملكه في التصرفات ( والثاني ) لا يقبل لأنه عقد لا يزيل الملك فلا يقبل منه كالتزويج والإجارة ، فإن ابتاع الكافر أباه المسلم ففيه طريقان ( أحدهما ) أنه على القولين ( والثاني ) أنه يصح قولا واحدا لأنه يحصل له من الكمال بالحرية أكثر مما يلحقه من الصغار بالرق ) .


( الشرح ) قال أصحابنا رحمهم الله : يتصور ملك الكافر عبدا مسلما وجارية مسلمة في صور : ( منها ) أن يسلم عبده أو أمته فلا يزول ملكه بنفس الإسلام بلا خلاف ، لكن يؤمر بإزالة الملك .

( ومنها ) لو أسلم عبده فمات السيد قبل أن يزيل ملكه عنه وورثه أقاربه الكفار فقد دخل في ملكهم هذا العبد المسلم بلا خلاف ، ويؤمرون بإزالة الملك كما ذكرنا . [ ص: 434 ] وأما ) إذا اشترى الكافر عبدا مسلما من مسلم أو غيره ، فهذا البيع حرام بلا خلاف ، وفي صحته قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ، وقد صرح المصنف بأن القولين إنما هما في صحة البيع ، وإنما التحريم بلا خلاف ، وكذا صرح به الدارمي والأصحاب ، ونقل الروياني في البحر اتفاق الأصحاب عليه ، وإنما الخلاف في صحة البيع ، قال أصحابنا : القول ببطلان البيع هو نصه في الإملاء ، والقول بصحته هو نصه في الأم وغيره ، قال الشيخ أبو حامد في تعليقه والروياني في البحر : القول بالصحة هو نصه في عامة كتبه . واختلفوا في الأصح من القولين فصحح الشيخ أبو حامد في تعليقه ، وصاحب البيان ، القول بالصحة ، وصحح الجمهور قول البطلان ، وهو الصحيح ، ممن صححه المصنف في التنبيه والجرجاني في التحرير البغوي والغزالي وصاحب الانتصار والرافعي وآخرون . قال أصحابنا : ويجري القولان في تملكه العبد المسلم بالسلم والهبة والوصية ونحوها ، والأصح أنه لا يملك في الجميع ، قال المتولي والروياني : القولان في الوصية إنما هما إذا قلنا يملك بالقبول ( وإن قلنا ) بالموت ملك بلا خلاف كالإرث .

( أما ) إذا اشترى الكافر مصحفا ففيه طريقان مشهوران ( أحدهما ) وبه قطع المصنف وجماعة أنه على القولين كالعبد ( أصحهما ) أنه لا يصح البيع ( والثاني ) يصح ( والطريق الثاني ) القطع بأنه لا يصح البيع ، وقطع به جماعة وصححه آخرون ، والخلاف إنما هو في صحة البيع ، ولا خلاف أنه حرام .

وفرق الأصحاب بين المصحف والعبد على الطريق السابق بأن المصحف لا يدفع عن نفسه الامتهان والابتذال بخلاف العبد ، واتفق [ ص: 435 ] الأصحاب على أن بيع كتب حديث النبي صلى الله عليه وسلم له حكم بيع المصحف في هذا فيحرم بيعها لكافر وفي صحته الطريقان . قال أصحابنا : وحكم كتب الفقه التي فيها آثار السلف حكم المصحف في هذا هو الصحيح المشهور وشذ الماوردي عن الأصحاب فقال : بيع كتب الحديث والفقه للكافر صحيح وفي أمره بإزالة ملكه عنه وجهان ( والمذهب الأول ) قال أصحابنا و [ لا ] يملك الكافر المصحف وكتب الحديث والفقه بالإرث بلا خلاف إلا على الوجه الشاذ الذي حكيناه عن الماوردي في الحديث والفقه وهو وجه باطل .

( فرع ) إذا اشترى الكافر من يعتق عليه كأبيه وابنه وأمه وجدته ، فطريقان مشهوران ، ذكرهما المصنف والأصحاب بدليلهما ( أحدهما ) على القولين ( وأصحهما ) الصحة قطعا ، قال أصحابنا : ويجري هذا الخلاف في كل شراء يستعقب عتقا كقول الكافر لمسلم : أعتق عبدك المسلم عني بعوض أو بغير عوض ، فيجيبه إلى ذلك وكذا لو أقر الكافر بحرية عبد مسلم في يد غيره ثم اشتراه ( والمذهب ) الصحة في الجميع ورتب إمام الحرمين الخلاف في هاتين الصورتين على الخلاف في شراء القريب ، وقال : الصورة الأولى أولى بالصحة من مسلم القريب ، لأن الملك فيها ضمني ، والثانية أولى بالمنع ، لأن العتق فيها وإن حكم به فهو ظاهر غير محقق ، بخلاف القريب ( أما ) إذا اشترى الكافر عبدا مسلما بشرط الإعتاق ، وصححنا الشراء بهذا الشرط وهو المذهب فطريقان حكاهما المتولي والروياني وآخرون ( المذهب ) أنه كما لو اشتراه مطلقا لأن العتق لا يحصل بنفس الشراء ( والثاني ) أنه كشراء القريب ، والله سبحانه وتعالى أعلم . [ ص: 436 ] فرع ) لو اشترى الكافر كافرا فأسلم قبل قبضه ، فهل يبطل بيعه ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) نعم ، كمن اشترى عصيرا فتخمر قبل قبضه ( وأصحهما ) لا ، كمن اشترى عبدا فأبق قبل قبضه ، وممن ذكر المسألة بدليلهما إمام الحرمين والغزالي والمتولي والروياني والرافعي وغيرهم ، قالوا : ( فإن قلنا : ) لا يبطل ، فهل يقبضه المشتري ؟ أم ينصب القاضي من يقبضه عنه بأمره بإزالة الملك ؟ فيه وجهان ، وقطع القفال في فتاويه بأنه لا يبطل ، ويقبضه القاضي عنه ، وهذا هو الأصح ، وصححه الرافعي ، ورجحه إمام الحرمين وغيره ، قال الإمام : فعلى هذا يثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع ، لأن تعذر استمرار الملك فيه ، ودوام اليد عليه ، ليس بأقل من إباق العبد ، قال الإمام ، ولا وجه للانفساخ ، إذا كان البائع كافرا أيضا ، لأنه ينقلب من كافر إلى كافر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فرع ) لو وكل الكافر مسلما ليشتري له عبدا مسلما ، لم يصح التوكيل ولا الشراء له بلا خلاف - إذا قلنا : لا يصح شراء الكافر بنفسه - ولو وكل مسلم كافرا ليشتري له عبدا مسلما ، فإن سمى الموكل في الشراء صح قطعا ، وإلا فوجهان مبنيان على الوجهين في أن العقد يقع أولا للموكل : أم للوكيل ثم ينتقل إلى الموكل ؟ ( أصحهما ) للموكل ، فيصح هنا ( والثاني ) للوكيل ، فلا يصح ، وممن ذكر الفرع إمام الحرمين وآخرون .

( فرع ) لو اشترى الكافر مرتدا وقلنا : لا يصح شراؤه مسلما ، ففي صحة شرائه المرتد وجهان ، حكاهما إمام الحرمين وآخرون ( الأصح ) لا يصح له لبقاء علقة الإسلام ، قال الإمام : هما مبنيان على الخلاف فيما إذا قتل المرتد ذميا هل يقتل به ؟ ( فرع ) لو كان للكافر عبد مسلم ورثه ، أو أسلم عنده ، فباعه بثوب ، ثم وجد بالثوب عيبا فهل له رد الثوب بالعيب واسترداد العبد ؟ [ ص: 437 ] فيه ثلاثة أوجه ( أصحها ) له ذلك ، ثم يؤمر بإزالة الملك في العبد ( والثاني ) ليس له ذلك ، كي لا يدخل المسلم في ملكه باختياره ( والثالث ) يرد الثوب ولا يرجع في العبد ، بل يسترد قيمته ويصير كالتالف ، وممن ذكر الخلاف في رد الثوب إمام الحرمين والغزالي ، فالصواب القطع بجواز رد الثوب ، وبه جزم البغوي والمتولي وآخرون ، ونقل المتولي اتفاق الأصحاب عليه .

( أما ) إذا وجد مشتري العبد عيبا ففي رده واسترداده الثوب طريقان حكاهما إمام الحرمين وغيره ( أحدهما ) ونسبه إمام الحرمين إلى بعض المحققين القطع بالجواز ، لأن ملك الكافر له هنا يقع بغير اختياره ( والثاني ) أنه على الوجهين ، وبه قال الشيخ أبو محمد ، لأنه كما يمنع الكافر من تملكه ، يمنع المسلم من تمليكه إياه ، ويرجع بأرش العيب .

( فرع ) إذا صححنا شراء الكافر عبدا مسلما أو مصحفا ، فإن علم الحاكم به قبل القبض ، فهل يمكنه من القبض ؟ أم ينصب من يقبض ؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها الروياني وغيره ( أصحها ) عنده يمكن ( والثاني ) لا يمكن ، بل يؤمر بأن يوكل مسلما يقبضه ( والثالث ) ينصب القاضي من يقبضه إذا حصل القبض أو علم به بعد القبض ألزمه إزالة الملك ، كما سنذكره في الفرع بعده إن شاء الله تعالى .

( فرع ) إذا كان في يد الكافر عبد كافر فأسلم ، لم يزل ملكه عنه بلا خلاف ولكن لا يقر في يده ، بل يؤمر بإزالة ملكه عنه ببيع أو هبة أو عتق أو غيرها ، ولا يكفي الرهن والتزويج والإجارة والحيلولة ، وفي الكتابة قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ، وحكاهما إمام الحرمين والغزالي وجماعة وجهين ( أصحهما ) باتفاقهم الاكتفاء بها ، وتكون كتابة صحيحة ( وإن قلنا ) لا تكفي فوجهان ( أحدهما ) أنها كتابة فاسدة فيباع [ ص: 438 ] العبد ( والثاني ) أنها صحيحة ، ثم إن جوزنا بيع المكاتب بيع مكاتبا وإلا فسخت الكتابة وبيع . قال أصحابنا : ولو امتنع من إزالة ملكه باعه الحاكم عليه بثمن مثله ، كما يبيع مال من امتنع من أداء الحق ، قال إمام الحرمين والأصحاب : فإن لم يجد مشتريا بثمن مثله صبر إلى أن يوجد ، وحال بينه وبينه ، ويتكسب لمالكه ، وتؤخذ نفقته منه .

( وأما ) إذا أسلمت مستولدة كافر فلا سبيل إلى نقلها إلى غيره ببيع ولا هبة ولا نحوهما ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وفيه وجه حكاهالرافعي وهو شاذ مردود . وهل يجبر على إعتاقها ؟ فيه وجهان ( الصحيح ) المنصوص الذي قطع به كثيرون أو الأكثرون : لا يجبر ، بل يحال بينهما وينفق عليها وتتكسب له في يد مسلم ( والثاني ) حكاه إمام الحرمين والغزالي وغيرهما أنه يجبر على إعتاقها ، وذكره المصنف في التنبيه احتمالا ، وهو ضعيف شاذ . ولو مات كافر قد أسلم عبده في يده صار لوارثه وأمر بما كان يؤمر به مورثه فإن امتثل وإلا بيع عليه ، والله سبحانه أعلم .

( فرع ) قال المحاملي في اللباب : لا يدخل عبد مسلم في مال كافر أبدا إلا في ست مسائل ( إحداها ) بالإرث ( والثانية ) يسترجعه بإفلاس المشتري ( الثالثة ) يرجع في هبته لولده ( الرابعة ) إذا رد عليه بعيب ( الخامسة ) إذا قال لمسلم : أعتق عبدك عني ، فأعتقه وصححناه ( السادسة ) إذا كاتب عبده الكافر فأسلم العبد ، ثم عجز عن النجوم ، فله تعجيزه ، وهذه السادسة غلط ، فإن المكاتب لا يزول الملك فيه ليتجدد بالتعجيز ، وترك سابعة وهي إذا اشترى من يعتق عليه وصححناه ، والله سبحانه أعلم . [ ص: 439 ] فرع ) قال المتولي والروياني : إذا صححنا هبة العبد المسلم لكافر ، فعلم القاضي به قبل القبض منعه ، لأنها لا تلزم قبل القبض ، هذا كلامهما ، وفيه نظر ، وينبغي أن يكون قبضه كقبضه من اشتراه ، ثم يؤمر بإزالة الملك .

( فرع ) قال المتولي والروياني : إذا باع الكافر عبده المسلم ثم تقايلا ( فإن قلنا : ) الإقالة بيع لم يصح ، وإلا فوجهان كما سبق في مسألة بيعه بثوب معيب .

( فرع ) قال المتولي والبغوي والروياني : إذا باع الكافر عبده المسلم بشرط الخيار ، فالبيع صحيح ، لأن ملكه يزول بنفس البيع في قول ، وفي قول هو معرض للزوال ، فإن أراد فسخ البيع ( فإن قلنا : ) الملك في زمن الخيار للبائع ، صح الفسخ ، لكن إن كثر ذلك منه ألزمه القاضي أن يبيعه بيعا ماضيا ، لأن هذا ليس بابتداء تملك ، وإنما هو منع من الزوال ( وإن قلنا ) بزوال الملك في المبيع بنفس العقد ، في تمكينه من الفسخ وجهان كالوجهين في مسألة العبد بالثوب المعيب .

( فرع ) قال الروياني : لو اشترى الكافر عبدا كافرا بشرط الخيار ، فأسلم في مدة الخيار قال : والذي يحتمل قولان ( أحدهما ) يبطل البيع ( والثاني ) لا ، بل لهما الفسخ والإجازة ، فإن أجازا ألزم المشتري بإزالة ملكه .

( فرع ) قال الروياني : قال أصحابنا : لا يكره للمسلم بيع عبده الكافر لكافر ، سواء كان العبد صغيرا أو كبيرا ، قال بعض أصحابنا : لكن الأولى ألا يبيعه الصغير ، وقال أبو حنيفة : يكره بيعه الصغير ، قال أحمد : لا يجوز لأنه ينشأ على دين مالكه .

[ ص: 440 ] فرع ) قال أصحابنا : يجوز أن يستأجر الكافر مسلما على عمل في الذمة بلا خلاف ، كما يجوز للمسلم أن يشتري منه شيئا بثمن في الذمة ، وهل يجوز للمسلم أن يؤجر نفسه لكافر إجارة على عينه ؟ فيه طريقان مشهوران ذكرهما المصنف في أول كتاب الإجارة ( أصحهما ) الجواز ( والثاني ) على قولين ، وبعضهم يحكيهما وجهين ، واتفقوا على أن الأصح الجواز سواء كان المسلم حرا أو عبدا ، إلا الجرجاني فصحح البيع والمذهب الجواز ، لكن نص الشافعي والأصحاب على أنه يكره ذلك . فإذا صححناها فهل يؤمر بإزالة ملكه عن المنافع ؟ بأن يأجره مسلما ، فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون ( أصحهما ) يؤمر ، وبه قطع الشيخ أبو حامد .

( فرع ) اتفق الأصحاب على جواز إيداع العبد المسلم عند كافر ، وأما إعارته إياه فقد جزم إمام الحرمين والغزالي والرافعي وغيرهم بجوازه ، وهو الصحيح وقطع المصنف في باب العارية من المهذب والتنبيه ، والجرجاني في التحرير وصاحب البيان بأنه لا يجوز وهذا ضعيف ( والمذهب ) الأول لأنهم ذكروا أن الأصح في الإجارة على عينه الجواز ، فالإعارة أولى لأنها عقد جائز يرجع فيها متى شاء ، ولا يملك المستعير المنافع ، بل يستنتجها شيئا فشيئا ، بخلاف الإجارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فرع ) لو رهن المسلم عبده المسلم ، أو المصحف عند كافر ، ففي صحته طريقان ذكرهما المصنف في كتاب الرهن بدليلهما ( أحدهما ) القطع بصحته ( والثاني ) على قولين كبيعه واتفق الأصحاب على أن الأصح صحة رهنه فعلى هذا يوضع في يد عدل مسلم ، والله سبحانه أعلم .

( فرع ) قال البغوي في التهذيب في آخر كتاب الهدية وهناك ذكر مسألة بيع المسلم لكافر قال : لو كان بين مسلم وكافر عبد مسلم مشترك [ ص: 441 ] بينهما فأعتق الكافر نصيبه وهو موسر سرى إلى نصيب المسلم وعتق على الكافر سواء قلنا : تحصل السراية بنفس الإعتاق أم بدفع القيمة لأنه يقوم عليه شرعا لا باختياره فهو كالإرث .

( فرع ) في مذاهب العلماء في بيع العبد المسلم لكافر . قد ذكرنا أن الأصح من مذهبنا بطلانه وبه قال أحمد وقال أبو حنيفة : يصح ونقله الروياني عن جمهور العلماء وعن مالك روايتان كالمذهبين . احتج أبو حنيفة بالقياس على الإرث . واحتج أصحابنا بإجماع المسلمين أنه لا يقر ملكه على مسلم وسبب ذلك ما فيه من إثبات السلطنة والسبيل للكافر على مسلم وقد قال الله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } ويخالف الإرث فإنه ملك قهري والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية