صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وهل هو مؤقت أم لا ؟ فيه قولان قال في القديم : غير مؤقت لما روى أبي بن عمارة رضي الله عنه قال : { قلت يا رسول الله أمسح على الخف ؟ قال : نعم ، قلت : يوما ؟ قال : ويومين ، قلت : وثلاثة ؟ قال : نعم وما شئت } [ ص: 506 ] وروي : " وما بدا لك " وروي : " حتى بلغ سبعا قال : نعم وما بدا لك " ولأنه مسح بالماء فلم يتوقت كالمسح على الجبائر ، ورجع عنه قبل أن يخرج إلى مصر ، وقال : يمسح المقيم يوما وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن لما روى علي رضي الله عنه : { أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة } ولأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر من ذلك فلم تجز الزيادة عليه ) .


( الشرح ) أما حديث علي فصحيح رواه مسلم وأما حديث أبي بن عمارة فرواه أبو داود ، والدارقطني والبيهقي وغيرهم من أهل السنن واتفقوا على أنه ضعيف مضطرب لا يحتج به ، وعمارة بكسر العين وضمها وجهان مشهوران ، ممن ذكرهما من أئمة هذا الفن أبو عمر بن عبد البر في كتابه الاستيعاب والبيهقي في السنن ومن المتأخرين الحافظ عبد الغني المقدسي وآخرون ، واتفقوا على أن الكسر أفصح وأشهر ، ولم يذكر ابن ماكولا وآخرون غير الكسر ، رواه البيهقي عن أبي عبيد القاسم بن سلام وخالفهم ابن عبد البر فقال الضم هو قول الأكثرين ، قالوا : وليس في الأسماء عمارة بكسر العين غيره ، وقد بسطت بيانه في تهذيب الأسماء . وقوله : { وما بدا لك } هو بألف ساكنة قال أهل اللغة يقال : بدا له في هذا الأمر بداء بالمد أي : حدث له رأي لم يكن ، ويقال : رجل له بدوات والبداء محال على الله تعالى بخلاف النسخ . وأما قوله : لأنه مسح بالماء فلم يتوقت ، فاحتراز من التيمم ، وقوله كالمسح على الجبائر ، معناه أنه لا يتوقت قولا واحدا وبهذا قطع العراقيون وفيه خلاف ضعيف ذكره الخراسانيون سنوضحه في باب التيمم إن شاء الله تعالى .

( أما حكم المسألة ) : فاتفق أصحابنا على أن المذهب الصحيح توقيت المسح ، وأن القديم في ترك التوقيت ضعيف واه جدا ، ولم يذكره كثيرون من الأصحاب فعلى القديم لا يتوقت المسح بالأيام ، لكن لو أجنب وجب النزع ، كذا نقله ابن القاص في التلخيص عن القديم ونقله أيضا القفال في [ ص: 507 ] شرحه وصاحبا الشامل والبحر ولا تفريع على هذا القديم ، وإنما تتفرع المسائل في هذا الباب وغيره على أن المسح مؤقت فعلى هذا للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن وللمقيم يوم وليلة بلا خلاف . قال أصحابنا : وله أن يصلي في مدة المسح ما شاء من الصلوات فرائض الوقت والقضاء والنذر والتطوع بلا خلاف ، قال أصحابنا : فأكثر ما يمكن المقيم أن يصلي بالمسح من فرائض الوقت سبع صلوات إذا جمع الصلاتين في المطر ، فإن لم يحدث في نصف اليوم الأول في أول الوقت ويصلي ، ثم في اليوم الثاني والثالث والرابع مسح وصلى في أول الوقت ، هذا مذهبنا . وحكى ابن المنذر عن الشعبي وأبي ثور ، وإسحاق وسليمان بن داود أنه لا يصلي بالمسح إلا خمس صلوات إن كان مقيما وإن كان مسافرا فخمس عشرة وحكاه أصحابنا عن داود ، وهذا مذهب باطل والأحاديث الصحيحة في التوقيت بالزمان ترده والله أعلم .

( فرع ) : المراد بالمسافر الذي يمسح ثلاثة أيام ولياليهن المسافر سفرا طويلا ، وهو السفر الذي تقصر فيه الصلاة وهو ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي ، وقدره بالمراحل مرحلتان قاصدتان كما سيأتي بيانه واضحا في باب صلاة المسافر إن شاء الله تعالى ، وهذا الذي ذكرناه من أن المسح ثلاثة أيام لا يكون إلا في سفر تقصر فيه الصلاة متفق عليه ، فمن الأصحاب من بينه هنا ، ومنهم من بينه في باب التيمم ومنهم من بينه في باب استقبال القبلة عند ذكرهم التنفل على الراحلة في السفر وجمهورهم بينوه في باب صلاة المسافر ، وخالفهم المصنف فلم يبينه في موضع من هذه المذكورات ، وبينه في ثلاثة مواضع غيرها من المهذب .

( أحدها ) مسألة نقل الزكاة في باب قسم الصدقات ( والثاني ) في سفر أحد الأبوين بالولد في باب الحضانة ( والثالث ) في مسألة تغريب الزاني ، فبين في هذه المواضع الثلاثة أن مسح الخف ثلاثة أيام إنما يجوز في سفر طويل ، قال أصحابنا : الرخص المتعلقة بالسفر ثمان : ثلاث تختص بالطويل وهي القصر والفطر في رمضان ، ومسح الخف ثلاثة أيام ، وثنتان تجوزان في الطويل والقصير وهما : ترك الجمعة وأكل الميتة ، وثلاث في اختصاصها بالطويل قولان وهي الجمع بين الصلاتين [ ص: 508 ] وإسقاط الفرض بالتيمم وجواز التنفل على الراحلة والأصح اختصاص الجمع بالسفر الطويل دون الآخرين ، وسيأتي إيضاح كل ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى ، ويأتي قريبا بيان صحة قول الأصحاب أكل الميتة من رخص السفر قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في باب استقبال القبلة : " السفر القصير الذي يبيح التنفل على الراحلة والتيمم وغيرهما هو مثل أن يخرج إلى ضيعة له مسيرة ميل أو نحوه " هذا لفظه وكذا قال غيره ( فرع ) : في مذاهب السلف في توقيت مسح الخف قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا والذي عليه العمل والتفريع أنه مؤقت للمسافر ثلاثة أيام بلياليها وللمقيم يوم وليلة ، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد وأصحابهما وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم .

قال أبو عيسى الترمذي : التوقيت ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم هو قول عامة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وقال الخطابي : التوقيت قول عامة الفقهاء ، قال ابن المنذر : وممن قال بالتوقيت عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبو زيد الأنصاري وشريح وعطاء والثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وحكاه أصحابنا أيضا عن الحسن بن صالح والأوزاعي وأبي ثور . وقالت طائفة : لا توقيت ويمسح ما شاء . حكاه أصحابنا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي وربيعة والليث وأكثر أصحاب مالك وهو المشهور عن مالك ، وفي رواية عنه أنه مؤقت ، وفي رواية مؤقت للحاضر دون المسافر ، قال ابن المنذر : وقال سعيد بن جبير : يمسح من غدوه إلى الليل . واحتج من قال لا توقيت بما ذكره المصنف من حديث أبي بن عمارة والقياس على الجبيرة وبحديث إبراهيم النخعي عن أبي عبد الله الجدلي عن خزيمة بن ثابت قال { جعل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ولو استزدناه لزادنا } ، يعني : المسح على الخفين للمسافر ، وبحديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليصل فيهما وليمسح عليهما ثم لا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة } وبحديث عقبة بن عامر قال : " خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة فدخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : متى أولجت خفيك في رجليك ؟ قلت : يوم الجمعة قال [ ص: 509 ] فهل نزعتهما ؟ قلت : لا قال : أصبت السنة " وفي رواية قال : " لبستهما يوم الجمعة واليوم يوم الجمعة ثمان قال . أصبت السنة " رواه البيهقي وغيره وعن ابن عمر أنه كان لا يوقت في الخفين وقتا .

واحتج أصحابنا والجمهور بأحاديث كثيرة صحيحة في التوقيت منها حديث علي المذكور في الكتاب رواه مسلم وبحديث صفوان بن عسال السابق وهو صحيح كما بيناه ، وبحديث أبي بكرة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسح على الخفين فقال : للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة } وهو حديث حسن قال البيهقي قال الترمذي قال البخاري : هو حديث حسن .

وبحديث خزيمة بن ثابت قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين : للمسافر ثلاث وللمقيم يوم } حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وبحديث عوف بن مالك الأشجعي : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في غزوة تبوك بالمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، وللمقيم يوم وليلة } قال البيهقي : قال الترمذي : قال البخاري : ( هذا الحديث حسن ) والأحاديث في التوقيت كثيرة . وأما الجواب عن احتجاج الأولين بحديث أبي بن عمارة فهو أنه ضعيف بالاتفاق كما سبق بيانه ولو صح لكان محمولا على جواز المسح أبدا بشرط مراعاة التوقيت ، لأنه إنما سأل عن جواز المسح لا عن توقيته فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم { الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين } فإن معناه أن له التيمم مرة بعد أخرى وإن بلغت مدة عدم الماء عشر سنين ، وليس معناه أن مسحة واحدة تكفيه عشر سنين ، فكذا هنا . والجواب عن حديث خزيمة أنه ضعيف بالاتفاق ، وضعفه من وجهين ( أحدهما ) أنه مضطرب ( والثاني ) أنه منقطع قال شعبة : لم يسمع إبراهيم من أبي عبد الله الجدلي قال البخاري : ولا يعرف للجدلي سماع من خزيمة قال البيهقي : قال الترمذي : سألت البخاري عن هذا الحديث فقال : لا يصح . ولو صح لم تكن فيه دلالة لأنه ظن أن لو استزاده لزاده ، [ ص: 510 ] والأحكام لا تثبت بهذا . وأما حديث أنس فضعيف رواه البيهقي وأشار إلى تضعيفه ، وأما الرواية عن عمر فرواها البيهقي ثم قال : قد روينا عن عمر التوقيت فإما أن يكون رجع إليه حين بلغه التوقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم وإما أن يكون قوله الموافق للسنة الصحيحة المشهورة أولى ، المروي عن ابن عمر يجاب عنه بهذين الجوابين والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية