صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن قلنا ) : إن اللحم جنس واحد لم يجز بيع لحم شيء من الحيوان بلحم غيره متفاضلا ، وهل يدخل لحم السمك في ذلك ؟ فيه وجهان وقال أبو إسحاق [ ص: 181 ] يدخل فيها فلا يجوز بيعه بلحم شيء من الحيوان متفاضلا لأن اسم اللحم يقع عليه والدليل عليه قوله تعالى ( { لتأكلوا منه لحما طريا } ) ومن أصحابنا من قال : لا يدخل فيه لحم السمك وهو المذهب لأنه لا يدخل في إطلاق اسم اللحم ولهذا لو حلف لا يأكل اللحم لم يحنث بأكل السمك


( الشرح ) إذا قلنا : إن اللحمان كلها جنس واحد فلحم الإبل والبقر والغنم مع اختلاف أنواعها ، والوحوش كلها والطيور كلها جميع ذلك صنف واحد ، لا فرق فيه بين الوحشي والأهلي ، لا يجوز بيع شيء منه بآخر إلا مثلا بمثل ، فلا يباع لحم العصفور بلحم الجمل إلا سواء بسواء وكذلك بقيتها . وهكذا تحرم البحريات بعضها مع بعض كلها جنس واحد . وعلى هذا القول قال الفوراني : بل أولى ، ولعل الأولوية التي ادعاها من جهة أنه لم يثبت لأصولها حكم الأجناس المختلفة ، بخلاف لحمان البر ، فإن أصولها ثبت لها حكم الأجناس المختلفة كما تقدم . وأما السمك مع البريات ففيه وجهان حكاهما العراقيون الخراسانيون ( أحدهما ) وهو قول أبي إسحاق المروزي والقاضي أبي حامد والقاضي أبي الطيب وابن الصباغ ، وهو الذي أورده في التهذيب أنه من جنس سائر اللحوم ، وادعى القاضي أبو الطيب أنه الذي نص عليه الشافعي رحمه الله ، وأخذ ذلك من قوله في الأم الذي حكيته عنه قريبا - ومن قال بهذا لزمه عندي أن يقول في الحيتان : إن اسم اللحم جامع - ، واستدل القاضي أبو الطيب وغيره لهذا القول بقوله تعالى { ومن كل تأكلون لحما طريا } واستدل المصنف بالآية التي في الكتاب ، وهي أنص في الاستدلال ، لأنه أطلق فيها اللحم عليه بصراحة . وأما قوله { ومن كل تأكلون } فأطلق فيها ما في البر والبحر معا ، فجاز أن يكون للتغليب .

( والثاني ) وهو قول أبي علي الطبري واختيار الشيخ أبي حامد الإسفراييني والمصنف والمحاملي ، وقال : إن المنصوص أنها مستثناة من اللحوم [ ص: 182 ] وأنها معها جنسان ، وقال الروياني : إنه الأصح في القياس ، وعن البندنيجي وسليم أنه المذهب لأن لها اسما أخص من اللحم وهو السمك . وحمل الشيخ أبو حامد قول الشافعي المذكور على أنه ألزم من قال : اللحمان صنف أن يكون منها على سبيل الإنكار ، ولم يرتض أبو الطيب هذا . وحمل قول الشافعي - وهذا ما لا يجوز لأحد أن يقوله - على التمر ، وقد تقدم قول الشافعي رضي الله عنه ذلك . وأجاب أبو الطيب عن كون السمك أخص بأن اسم اللحم جامع بدليل الآية ، والراجح ما قاله الشيخ أبو حامد ومتابعوه ولا دلالة لأبي الطيب من كلام الشافعي رضي الله عنه بل هو محتمل لذلك ولما قاله أبو حامد . والجواب عن قول أبي الطيب عن اسم اللحم أنه وإن كان جامعا لكنه عند الإطلاق يتبادر الذهن منه إلى ما سوى لحم السمك ، والآية فيها قرينة تبين إرادته وهو قوله ( لتأكلوا منه ) أي من البحر ، فلم تتناوله مطلقا ، ومما يبين أن اسم اللحم عند الإطلاق لا ينصرف إلى السمك أنه لو حلف لا يأكل اللحم لم يحنث بأكل لحم السمك . كذا قال الشيخ أبو حامد والماوردي وغيرهما ، وهو الصحيح المشهور . وفيه وجه عن بعض الخراسانيين ، ولو كان يدخل في مطلقه لحنث به ، فإما أن يقول : إن صدق اللحم على لحم السمك بطريق المجاز . وإما أن يقول إنه عند الإطلاق يتقيد بما عدا السمك ، ولا يستبعد أن يكون إطلاق الشيء يدل على ما هو أخص من حقيقته ، كالماء المطلق يختص ببعض ما يسمى ماء . والله سبحانه وتعالى أعلم .

واحتج الأصحاب أيضا بأن السمك لا يضاف لحمه إليه فلا يقال لحم سمك ، وإنما يقال سمك فلا ينطلق عليه اسم اللحم ، ولو كان من اللحمان لصح أن يضاف باسم اللحم إلى جنسه ، فيقال لحم السمك كما يقال لحم الغنم ، فلما لم يصح أن يقال ذلك ثبت أنه ليس من جنس اللحمان . قال الماوردي : فعلى هذا الوجه يكون اللحمان كلها صنفين ، فلحوم حيوان البر على اختلافها صنف واحد ، ولحوم حيتان البحر على اختلافها صنف واحد [ ص: 183 ] واعلم أن كلام المصنف والأكثرين إنما فرضوه في السمك مع حيوانات البر ، وفي البحر أنواع من الحيوانات فهل الخلاف المذكور جار في جميعها ؟ أم كيف الحال فيها ؟ أما الفوراني فكلامه يقتضي تعميم ذلك الخلاف ، وأن الوجهين في لحمان البر مع لحمان البحر مطلقا وكذلك الإمام ، وأما القاضي حسين فتوقف فقال في السمك مع اللحم وجهان ، وأما حيوانات البحر فقد تقدم القول فيها إذا قلنا بأن اللحوم جنس واحد ، وأما على القول بأن حيوانات البر أجناس فلا شك في أن حيوانات البحر مخالفة لحيوانات البر ، وأما حيوانات البحر بعضها مع بعض ففيها خلاف ، وهذان القولان مبنيان كما قاله الفوراني وأفهمه كلام القاضي حسين والإمام ، على أن اسم السمك والحوت هل يشمل الجميع حتى يحل أكل خنزير الماء وكلبه أو لا ؟ فإن قلنا إن اسم السمك والحوت شامل للجميع كانت كلها جنسا واحدا ذا أنواع ( وإن قلنا ) إن اسم السمك والحوت لا يشمل الجميع فالحوت مع ما لا يسمى حوتا جنسان ، وما عدا الحوت أجناس أيضا ، فغنم الماء وبقره عند هذا القائل جنسان لا يطلق على الكل اسم السمك ، فهي أجناس مختلفة ، وجماعة من الأصحاب منهم الرافعي أطلق الخلاف في ذلك من غير بناء وهو أولى ، فإن الأصح أن اسم السمك يقع على جميعها .

والأصح أنها أجناس كحيوانات البر ، كما هو ظاهر كلام الشافعي ، وفصل القاضي حسين فقال في السمك مع اللحم وجهان ، فأما سائر حيوانات البحر - إن قلنا إن السمك مع حيوانات البر جنسان - فسائر حيوانات البحر مع حيوانات البر أيضا جنسان ، بل أولى ، وإن قلنا إن السمك مع حيوانات البر جنس واحد فهل ينبني على أن الكل هل يسمى سمكا أم لا ؟ وفيه قولان ( إن قلنا ) الكل يسمى سمكا فحكم الكل حكم السمك وإلا فهي أجناس مختلفة ( قلت : ) والأصح على ما قاله صاحب التهذيب أن الكل يسمى سمكا فلذلك أتى المصنف وغيره بلفظ السمك لشموله للجميع ، والله أعلم .

ثم فيما قاله القاضي حسين مناقشة ، وهي أن المدرك في استثناء السمك ، أنها اختصت باسم ، وهذا المعنى لا يوجد في بقية حيوانات البحر ، فينبغي ، [ ص: 184 ] أن يقال : إن قلنا السمك من جنس لحوم البر فبقية حيوانات البحر أولى ( وإن قلنا ) السمك جنس آخر ففي بقية حيوانات البحر وجهان مبنيان على أن الكل يسمى سمكا أو لا ؟ ( إن قلنا ) يسمى سمكا كانت من جنس اللحوم فيكون جنسا آخر ( وإن قلنا ) لا يسمى سمكا كانت من جنس اللحوم لعدم الاسم الخاص ، أعني أن لحمها ليس له اسم بخصوصه ، فإن صح هذا الترتيب فيجيء في حيوانات البحر ثلاثة أوجه : ( أحدها ) أنها من جنس اللحم مطلقا ( والثاني ) جنس آخر مطلقا ( والثالث ) أن غير السمك من جنس اللحم ، والسمك جنس آخر وهذه الثلاثة أوجه تفريع على أن اللحوم جنس واحد ، وحكم بيع اللحم باللحم على هذا القول سنذكره إن شاء الله تعالى في الفصل السادس بعد هذا الفصل .

( فرع ) عن التتمة على قول أبي إسحاق : الجراد هل يكون من جنس اللحم ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) نعم كالسمك ( والثاني ) لا ، لأن اسم اللحم لا يطلق على الجراد ، وصورته ليست صورة اللحم ، وإذا قلنا بقول أبي علي في أن السمك لا يدخل في اللحم فالجراد هل يلحق بحيوان البحر لحل ميتتهما ؟ ولأنه نقل في الآثار أن أصله سمك ؟ فيه وجهان ، ولخص الرافعي ذلك

التالي السابق


الخدمات العلمية