صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن كان مما لا يدخر يابسه كسائر الفواكه ففيه قولان ( أحدهما ) [ ص: 315 ] لا يجوز لأنه جنس فيه ربا فلم يجز بيع رطبه برطبه كالرطب والعنب ( والثاني ) أنه يجوز لأن معظم منافعه في حال رطوبته فجاز بيع رطبه برطبه كاللبن ) .


( الشرح ) الذي لا يدخر يابسه في العادة كالأترج والسفرجل والتفاح والتوت والبطيخ والموز والقثاء والخيار والباذنجان والرمان الحلو والقرع والزيتون عند بعضهم والكراث والبصل وجميع البقول ، وكل ما غالب منافعه في حال رطوبته ، سوى الرطب والعنب ، وكل رطب لا ينفع إذا يبس ، إما من المكيلات أو الموزونات التي فيها الربا قولا واحدا ، وإما من غيرها على الجديد ومن ذلك أيضا السفرجل . وقال الجوري : إنه ييبس ويدخر - وهو غريب - فهل يجوز بيع بعضها ببعض ؟ فيه قولان منصوصان كما قاله الشيخ أبو حامد . وقد رأيت ما يقتضي ذلك في الأم ، والذي نص عليه في باب بيع الآجال المنع ، فإنه قال : وكذلك كل مأكول لا ييبس إذا كان مما ييبس ، فلا خير في رطب منه برطب كيلا بكيل ، ولا وزنا بوزن ولا عددا بعدد ، ولا خير في أترجة بأترجة ولا بطيخة ببطيخة وزنا ولا كيلا ولا عددا . وقول الشافعي : إذا كان مما ييبس احترازا عما يكون رطبا أبدا ، الذي تقدم من كلامه وفي آخر كلامه هنا ما يبين ذلك أيضا ; فإنه قال : فإذا كان من الرطب شيء لا ييبس بنفسه أبدا مثل الزيت والسمن والعسل واللبن فلا بأس ببعضه على بعض إن كان مما يوزن فوزنا ، وإن كان مما يكال فكيلا مثلا بمثل ، ينبغي أن الأولى ييبس - بياء مضمومة ثم ياء مفتوحة ثم باء مشددة - والثانية - بياء مفتوحة ثم ياء ساكنة ثم باء مخففة مفتوحة - أي هو ييبس بنفسه وإن كان يبسا غير آيل إلى صلاح لكنه لا ييبسه الناس ، ولذلك قال في باب الرطب بالتمر فيه : وهكذا ما كان رطبا فرسك وتفاح وتين وعنب وإجاص وكمثرى وفاكهة لا يباع شيء منها بشيء رطبا ، ولا رطب منها بيابس ، ولا جزاف منها بمكيل .

ثم قال فيه أيضا : وهكذا كل مأكول لو ترك رطبا ييبس فينقص ، وهكذا كل رطب لا يعود تمرا بحال ، وكل رطب من المأكول لا ينفع يابسا بحال ، [ ص: 316 ] مثل الخربز والقثاء والخيار والفقوس والجزر والأترج ، لا يباع منه شيء بشيء من صنفه وزنا بوزن ، ولا كيلا بكيل ، لمعنى ما في الرطوبة من تغيره عند اليبس وكثرة ما يحمل بعضها من الماء فيثقل به ويعظم ، وقلة ما يحمل غيرها فيضمر به ويخف ، وإذا اختلف الصنفان منه فلا بأس . وقال في آخر هذا الباب : كل فاكهة يأكلها الآدميون فلا يجوز رطب بيابس من صنفها ، ولا رطب برطب من صنفها ، لما وصفت من الاستدلال بالسنة . وقال في الأم أيضا في باب الآجال في الصرف بعد أن قرر القول الجديد : وجريان الربا في غير المكيل والموزون من المأكول والمشروب ( قال ) ولا يصح على قياس هذا رمانة برمانتين عددا ولا وزنا ، ولا سفرجلة بسفرجلتين ، ولا بطيخة ببطيختين ، ولا يصح أن يباع منه جنس بمثله إلا وزنا يدا بيد ، وظاهر هذا الاستثناء جواز بيع السفرجل والبطيخ بعضه ببعض وزنا ، وهو أيضا ظاهر في أن المعتبر في ذلك الوزن دون الكيل ، لأن كلامه يشمل ما يمكن كيله وما لا يمكن ، فإن قوله : منه ، أي من المأكول والمشروب غير المكيل والموزون ، وقد تقدم ذلك . وكذلك حكى أكثر الأصحاب في ذلك قولين ، منهم الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والمحاملي والمصنف وأتباعه والمتولي والبغوي والرافعي وآخرون ، وبعضهم من المراوزة يجعلها وجهين . وقال الماوردي : إن جمهور أصحابنا على أنه لا يجوز بيعه رطبا برطب ولا رطبا بيابس ، وأن ابن سريج ذهب إلى الجواز وأن ابن أبي هريرة كان يجعل مذهب ابن سريج قولا للشافعي ، ويخرج المسألة على قولين : ( أحدهما ) جواز ذلك وهو المحكي عن ابن سريج تعليقا بأن الشافعي قال في موضع من كتاب البيوع : ولا يجوز بيع البقل المأكول من صنف إلا مثلا بمثل ( قلت ) وقد تقدم من كلام الشافعي رحمه الله ما يدل على ذلك .

( والثاني ) وهو الصحيح من المذهب ، والمشهور من مذهب الشافعي أن بيع ذلك رطبا لا يجوز بجنسه ، فعلى هذا لا يجوز رمانة برمانتين ، ولا رمانة برمانة لعدم التماثل . وفيه وجه أنه يجوز بيع رمانة برمانة متماثلين وزنا ، حكاه الروياني وقال : ليس بمشهور . وقال نصر المقدسي في تهذيبه قريبا مما قاله الماوردي ، فجعل الجواز من [ ص: 317 ] تخريج ابن سريج بعد أن جزم بالمنع ، وجعل ذلك تفريعا على قوله الجديد ، وقد أطبق الأصحاب على حكاية القولين في ذلك كما حكاهما المصنف وممن حكاهما الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما . وذكر الروياني المسألة في موضع آخر في البقول خاصة تفريعا على الجديد ، وجعل المنع قول الشافعي والجواز قول ابن سريج ، وعلل قول ابن سريج بالقياس على اللبن ، وهذا أبلغ لأنه لا يؤول إلى صلاح بحال بخلاف اللبن ، ويمكن للذاهبين إلى ترجيح المنع أن يؤولوا نص الشافعي الذي حكيته بأن المراد بيعها حالة الجفاف ، فإنه لم يصرح بأن ذلك مع الرطوبة ، فإن نصوصه على المنع أكثر من خراصتها . والله أعلم .

والأصح من القولين على ما تقدم من كلام صاحب الحاوي ، وعند صاحب التهذيب والرافعي وابن داود شارح المختصر الأول ، وهو أنه لا يجوز بيع بعضه ببعض . وجزم به أبو الحسن بن خيران في اللطيف ، والأصح عند جماعة الثاني لأنه يجوز بيع بعضه ببعض . وممن صحح ذلك الروياني . وقال في البحر : إنه المذهب ، والجرجاني في الشافي وابن أبي عصرون في الانتصار والمرشد . قال الروياني : وقيل : القولان فيما لا ينتفع بيابسه كالقثاء والبطيخ ، فأما فيما ينتفع بيابسه - فقولا واحدا - لا يجوز رطبا . قال الروياني : وهذا أقيس ، قال : قال هذا القائل . والمذهب أنه لا يجوز بيع رطبه برطبه ، وإنما نص الشافعي رضي الله عنه على اليابس بالرطب قصدا لأظهر الحالتين وأوضح المسألتين .

( فرع ) بيع الزيتون الرطب بالزيتون الرطب ، نقل الإمام الجواز فيه عن صاحب التقريب ، وتابعه عليه ، وكذلك الغزالي جزم به ، وقد تقدم في كلامي عدة من جملة ما لا يجفف فيقتضي ذلك إجراء الخلاف الذي فيها فيه ، وتابعت في ذلك بعض المصنفين ولا يحضرني في هذا الوقت اسمه فإن صح ذلك ثبت خلاف فيه ، والله سبحانه أعلم .

( فرع ) هذا الذي تقدم كله في بيع الرطب من هذه الأشياء بالرطب ، أما لو باع رطبا بيابس كحب الرمان بالرمان فلا يجوز قولا [ ص: 318 ] واحدا ، لأن أحدهما على هيئة الادخار ، والآخر ليس على هيئة الادخار ، فشابه الرطب والتمر ، هكذا قال الشيخ أبو حامد ، وقال : لا خلاف على مذهبنا أنه لا يجوز ، وجعل محل الخلاف في الرطبين فقط ( قلت ) وعلى هذا يجب تأويل كلام الماوردي المتقدم قريبا في قوله : لا يجوز بيعه رطبا برطب ، ولا رطبا بيابس ، وأن ابن سريج ذهب إلى الجواز فيكون مراده أن ابن سريج ذهب إلى الجواز في الرطب بالرطب فقط لا فيهما والله أعلم ، وكذلك نصر المقدسي لم يحكه عنه إلا في الرطبين والله تعالى أعلم .

( فرع ) البطيخ مع القثاء جنسان قاله في التهذيب ، قال : وفي القثد مع القثاء وجهان .

( فرع ) لو فرض في هذا القسم التجفيف على ندور فعن القفال أنه لا يجري فيه الربا على القديم ، وإن كان مقدرا ، فإن أكمل أحواله الرطوبة ، فلا ينظر إلى حالة الجفاف ، وتتبع هذه الحالة تلك في سقوط الربا ، والظاهر خلافه ( فإذا قلنا ) إنه ربوي هل يجوز بيع بعضه ببعض ؟ فالذي جزم به الشيخ أبو حامد والمحاملي وصاحب العدة أنه يجوز متماثلا ، كالتمر بالتمر . وحكى الإمام في ذلك وجهين قال : إنهما مشهوران ، ورتبهما في الوسيط على حالة الرطوبة ، وأولى بالجواز فيخرج من هذا الترتيب ثلاثة أوجه : جواز بيع بعضه ببعض في الحالتين رطبا ويابسا " والمنع " في الحالتين " والمنع " رطبا والجواز يابسا ، وهي كالأوجه الثلاثة المتقدمة فيما يجفف نادرا مما يعتاد تجفيفه كالمشمش والخوخ . قال ابن الرفعة : ويجب طرد الوجه الرابع المذكور في الرطب الذي لا يتتمر وهو أنه يباع رطبا ولا يباع يابسا ، يعني لما بينهما من المشاركة في عدم اعتبار التجفيف فيه ، فإن الكمال فيه في حال الرطوبة ، ولله دره ، فقد صرح الإمام بأن الأوجه الأربعة تجري فيه بمثابة الرطب الذي لا يجفف اعتيادا ، كأن ابن الرفعة لم يقف على ذلك في النهاية والله أعلم .

[ ص: 319 ] ومن المعلوم أنه لو باع جنسا منها بجنس آخر كالهندبا بالنعنع صح نقدا كيف شاء ، وممن صرح به الروياني . فائدة : كلام المصنف يشعر بأن حالة الادخار هي الكمال ، ولذلك قال الغزالي : كل فاكهة كمالها في جفافها ، وهي حالة الادخار ، وقال الرافعي لما شرح ذلك : إن طائفة من أصحابنا ذكروا لفظ الادخار وآخرون أعرضوا عنه ولا شك أنه غير معتبر بحالة التماثل في جميع الربويات . ألا ترى أن اللبن لا يدخر ، ويباع بعضه ببعض ، فمن أعرض عنه فذاك ، ومن أطلقه أراد اعتياده في الحبوب والفواكه لا في جميع الربويات .

( قلت ) وقد تقدمه الإمام إلى ذلك فقال : إن بعض أصحابنا أجرى لفظ الادخار في إدراج الكلام وهو غير معتمد ، فإن اللبن يباع ببعض ، وأراد الإمام بذلك تقوية جواز بيع الرطب الذي لا يدخر يابسه بعضه ببعض ، والصحيح أن ذلك لا يجوز فالغزالي محتاج إلى ذكره ليحترز به عما يدخر يابسه ، وهو هذا القسم الذي فرغنا من شرحه ، فإنه لا كمال له ، وإن جف على أحد الوجهين وهو إنما تكلم في الفاكهة فلا يشمل جميع الربويات . أما إذا تكلم في حالة الكمال على الإطلاق فلا يستقيم أن يجعل ذاك ضابطا . وضبط حالة الكمال على الإطلاق عسير . وقد نبه الرافعي رحمه الله على عسرها فإنه لما شرح ذلك المكان قال : فإذا تأملت ما في هذا الطرف عرفت أن النظر في حالة الكمال راجع إلى أمرين في الأكثر .

( أحدهما ) كون الشيء بحيث يتهيأ لأكثر الانتفاعات المطلوبة منه .

( والثاني ) كونه على هيئة الادخار لكنهما لا يعتبران جميعا . فإن اللبن ليس بمدخر والسمن ليس بمتهيئ لأكثر الانتفاعات المطلوبة من اللبن ، وكل واحد من المعنيين غير مكتفى به أيضا ، فإن الثمار التي لا تدخر تتهيأ لأكثر الانتفاعات المطلوبة منه ، والدقيق مدخر ، وليسا على حالة الكمال ولا تساعدني عبارة ضابطة كما أحب في تفسير الكمال ، فإن ظفرت بها ألحقتها بهذا الموضع وبالله التوفيق هذا كلام الرافعي رضي الله عنه .

[ ص: 320 ] ولك أن تقول : إنا إذا جعلنا المعتبر التهيؤ لأكثر الانتفاعات المطلوبة منه لا يرد السمن ، وقول الرافعي : إنه ليس بمنتهي لأكثر الانتفاعات المطلوبة من اللبن صحيح ، لكن ذلك غير معتبر ، فإن السمن عين أخرى غير اللبن كان اللبن مشتملا عليها ، فهو كالشيرج من السمسم ، وليس كالدقيق مع القمح ولا كالرطب مع التمر ، فإن كلا منهما هو الآخر ، وإنما تغيرت حالته ، فالرطب صار إلى يبس وهو حالة تهيئه لأكثر الانتفاعات المقصودة منه ، والقمح صار إلى تفرق فخرج عن تلك الحال ، وليس السمن هو اللبن حتى تعتبر فيه منافع اللبن ، بل تعتبر فيه الانتفاعات المقصودة منه نفسه وهو متهيئ لها .

( وأما ) الفواكه التي لا تدخر فقد فهمت من كلام الشافعي ما يخرجها وهو ما حكيته عنه قريبا ( وقوله ) إنها خلقت مستحشفة ، والرطوبة التي فيها رطوبة طراءة ، فإذا زايل موضع اغتذائه عاد إلى اليبس ، يعني أن الرطوبة فيه ليست خلقة لازمة له ، بل مفارقة بنفسها ، فلذلك تخيلت أنا ضابطا ، وهو أن يقال : المعتبر في الكمال عدم الرطوبة المفارقة أو التغير المانعين من التماثل عن النداوة اليسيرة والتغير اليسير لكن يرد عليه الزيتون ، فإنه كامل ، وإن كان رطبا قال ابن الرفعة في ضابط حالة الكمال : يصح أن يقال ما يقصد جفافه ، وإن أمكن تحصيل القوت أو الأدم منه في حال رطوبته فكماله في حالة ادخاره وجفافه ، ويدخل فيه اللحم على النص ، وما لا يجفف بحال كالزيتون ، أو لا يمكن تجفيفه كاللبن ، فحالة كماله كحالة رطوبته ، وقد تعرض له حالة كمال أخرى أو أكثر . وإذا جوزنا بيع الزبد بالزبد ، وليس يوصف كل واحد منهما أنه انتهى إلى حالة جفاف وليس يصير اللبن زبدا أو سمنا ولا الزيتون زيتا كذلك ، وبذلك يتم المقصود فيما نظنه ولا ترد الثمار التي لا تجفف ، لأنها تؤكل تفكها ، فلم يكن بذلك اعتبار لأنه لا تعم الحاجة إليها ولا يرد الدقيق ، لأن الاعتبار في المدخر بما يقصد غالبا فيه طالت مدته أو قصرت وادخار كل شيء بحسبه والغالب في الحب ادخاره حبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية