صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وهل تجوز للأغنياء ؟ فيه قولان : ( أحدهما ) لا يجوز وهو اختيار المزني ، لأن الرخصة وردت في حق الفقراء ، والأغنياء لا يشاركونهم في الحاجة ، فبقي في حقهم على الحظر [ ص: 348 ] والثاني ) أنه يجوز لما روى سهل بن أبي حثمة قال : " { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر إلا أنه رخص في العرايا أن تبتاع بخرصها تمرا يأكلها رطبا } ولم يفرق ، ولأن كل بيع جاز للفقراء جاز للأغنياء كسائر البيوع ) .


( الشرح ) حديث سهل هذا رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى وغيرهما ، ولفظ البخاري " { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر ، ورخص في بيع العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا } ولفظ مسلم قريب منه ، وفي رواية الترمذي زيادة : { وعن بيع العنب بالزبيب ، وعن كل تمر بخرصه } فبعد قوله : العرايا . واللفظ الذي ذكره المصنف لفظ رواية الشافعي ، كذلك رويناه عنه في السنن من رواية المزني ، وفي المسند من رواية الربيع ، في السنن ( العرايا ) وفي المسند ( العرية ) وفيهما ( يأكلها أهلها رطبا ) والأهل الذين يأكلونها رطبا هم المشترون بلا شك ، وفي رواية البخاري الأخرى : ( يبيعها أهلها ) فجعل الأهل بائعين ، ويصح إطلاق الأهل على كل منهما على البائع قبل البيع ، وعلى المشتري بعده ، لكن قوله : ( يأكلونها رطبا ) لا يصح أن يعود على الأهل البائعين ، لأنهم لا يأكلونها رطبا ، بل يأخذون الثمن ، فهو عائد على معلوم في النفس ، وإن لم يجر له ذكر ، أي يأكلها الذين يبتاعونها رطبا . وقد يتعسف متعسف فيجعل الأهل في قوله : يبيعها أهلها منصوبا ويكونوا مشترين لا بائعين ، أي يبيعها من أهلها ، ويصح عود الضمير عليه بعد ذلك إن كان ( باع ) لا يتعدى إلى مفعولين بنفسه ، والله أعلم .

والخرص بالكسر تقدم التنبيه عليه . أما حكم المسألة : ففيها طريقان ( أصحهما ) القطع بعموم الرخصة للأغنياء والفقراء ، وهذه الطريقة مقتضى كلام أبي حامد والمحاملي كما ستعرفه ونسبها الماوردي إلى جمهور الأصحاب ، وهي الظاهر من كلام الشافعي .

( والثانية ) فيها قولان ، وهي التي أوردها القاضي أبو الطيب والمصنف والعمراني والبغوي والرافعي وآخرون ، وحكاهما الفوراني وجهين [ ص: 349 ] أحدهما ) يختص بالفقراء ولا يجوز للأغنياء ، وهو اختيار المزني ، والمشهور عن أحمد ، كما ذكره المصنف ، وهذا نظر إلى حديث محمود وقد تقدم أنه ليس في الكتب المشهورة لكني وجدت على حاشية نسخة شيخنا الدمياطي من المهذب إشارة بخط غيره تقتضي نسبة ذاك إلى مسند أحمد ، فعلى هذا الأغنياء يشاركونهم في ذلك ، فيبقى على الأصل من تحريم المزابنة المجمع عليه ، الثابت بالأحاديث المشهورة ولم أر هذا القول منصوصا للشافعي ، ولكن المزني في المختصر قال : اختلف ما وصف الشافعي في العرايا . قال الشيخ أبو حامد : إنه يشير بذلك إلى أن الشافعي قال في موضع آخر : يختص بذلك المحتاجون . قال الشيخ أبو حامد : وليس الأمر على ما قدره ، وإنما الشافعي تكلم على بطلان قول مالك حيث قال ذلك في الواهب يشتري الرطب من الموهوب له بالتمر ، فقال : لا يمكنك على هذا استعمال قوله في الخبر : " يأكلها أهلها رطبا " لأن من يشتري الرطب على هذا الوجه لا يشتريه ليأكله مع الناس ، فإن جميع بستانه الرطب وإنما يشتريه ليدفع عن نفسه المضرة بدخول الموهوب له عليه وعلى عياله ، والخبر يقتضي أنه يشتريه ليأكله مع الناس ، فقصد هذا دون تخصيص أهل الحاجة باتباع ذلك ، ومنع الأغنياء منه . وهذا الذي قاله الشيخ أبو حامد صحيح ، ويؤيده أن المزني نقل ذلك عن اختلاف الحديث والإملاء ، والذي فيهما ما ذكر دون القول بالمنع ، فينبغي أن يقطع بقول الجواز ، ولا يعزى للشافعي غيره ، ويجعل قول المنع مذهبا للمزني والله أعلم وهو مقتضى كلام أبي حامد والمحاملي ونبه المصنف بقوله : الأغنياء لا يشاركونهم في الحاجة ، على امتناع القياس لعدم المشاركة في العلة ، لا لأجل كون ذلك واردا على سبيل الرخصة ، فإن مذهبنا جواز القياس في الرخص إذا حصل الاشتراك في العلة كغيرها ، وسيأتي في توجيه القول الثاني ما يظهر به الجواب عما قاله المزني ، وقد تلقنه الشيخ أبو محمد عن الأصحاب فصحح هذا القول ونظر فيه إلى حديث محمود بن لبيد عن زيد ، مع أصل سنذكره عنه وجوابه إن شاء الله تعالى .

[ ص: 350 ] والقول الثاني ) يجوز وهو ظاهر المذهب ، والمنصوص في الأم ، قال الشافعي في الأم : والذي أذهب له أن لا بأس أن يبتاع الرطب للعرايا فيما دون خمسة أوسق ، وإن كان مؤبرا ، وصححه جماعة منهم الإمام والرافعي والنووي وابن أبي عصرون ، وقد تقدم أن جماعة جزموا به ، ومن جملتهم سليم في الكفاية وغيره لم يذكروا فيه خلافا ، وهو المختار ، ورواه إسماعيل بن سعيد عن أحمد بن حنبل لإطلاق حديث سهل بن أبي حثمة ، فإنه لم يفرق بين الفقراء والأغنياء لإرخاصه صلى الله عليه وسلم في العرايا من غير تقييد بالضرورة ، ولأنه إنما يريد الرطب شهوة ، ولو اعتبرت الضرورة لرخص في صاع ونحوه بما يزيلها وقد أبيح أكثر منه .

( فإن قلت ) إذا كانت الرخصة مطلقة في بعض الأحاديث مقيدة في بعضها ، فهلا حملتم المطلق على المقيد ؟ ، قلت : ليس ما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن الإطلاق والتقييد من عوارض الألفاظ فإذا ورد لفظ مطلق ولفظ مقيد بقيد لفظي ، فهو الذي يحمل فيه المطلق على المقيد بشرطه ، وأما هنا فليس في لفظ الشارع ذكر قيد الحاجة ، وإنما رخص لأقوام ، وقرينة الحال ما هم عليه ، وسؤالهم يقتضي أن علة الرخصة لهم الحاجة ، فإذا ورد الترخيص مطلقا في موضع آخر لم يجب تقييدها بذلك المعنى الذي ظنناه ، وهو الحاجة ، ليس معتبرا بل كانت الرخصة لهم لأنهم أصحاب الواقعة ، وغيرهم في حكمهم ، وأما أن تكون حاجتهم اقتضت مشروعية ذلك لهم ولغيرهم ، فإن الحكم قد ثبت عاما لمعنى موجود في بعض الناس كقوله تعالى : " { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } والمراد إما الصحابة والعرب ; وإما النفوس الكريمة ، وعلى كل تقدير فهم بعض الأمة فما تنفر عنه طباعهم فهو الخبائث وما تميل إليه فهو الطيبات ، وغيرهم تبع لهم في ذلك . وقد يكون الحكم ثابتا لعلة توجد في الكثير قطعا ، وتعدم في القليل قطعا كالإسكار ، وقد يكون ثابتا لعلة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ثم زالت كالرمل المشروع لإظهار الجلد والقوة قال ابن عبد السلام : وبقاء هذا [ ص: 351 ] الحكم لسبب يخلف ذلك السبب الأول ، وهو أنا نتذكر في زماننا سبب هذا الفعل ، لأن النفس طالبة للتعليل ، فنطلع على السبب الأول ، فنعلم حينئذ أن الله تعالى كثرنا بعد القلة ، وأعزنا بعد الذلة ، وأن الإسلام أظهره الله على الدين كله ، ونتذكر أحوال السلف الصالح ، وهذه فائدة جاءت استطرادا .

( فإن قلت ) لم يرد أيضا لفظ مطلق في الرخصة من الشارع حتى يتمسك به ، وإنما الألفاظ التي وردت في ذلك كلها من الرواة يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في العرايا ، وهذه حكاية حال لا عموم فيها ولا إطلاق ، فجاز أن يكون مرادهم بتلك الرخصة التي صدرت منه صلى الله عليه وسلم للمحاويج ، وحينئذ لا يبقى دليل على ثبوتها لغيرهم .

( قلت ) الجواب من وجهين ( أحدهما ) أن المعتمد في الأصول أن الراوي إذا حكى واقعة بلفظ عام كقوله : " نهى عن الغرر ، وقضى بالشفعة للجار " وما أشبهه أنه على العموم ، وأن الحجة في المحكي والحكاية معا خلافا لما قاله بعض المتأخرين ، فإنه لو كان المراد قصة المحاويج لم يجز حكايتها بلفظ العموم ، لأنها رخصة في عرايا خاصة لا في كل العرايا ، فلما أتى الراوي بلفظ عام وهو من أهل اللسان وجب اعتقاد أن المحكي مطابق له في العموم ( والثاني ) أن معنا هاهنا قرينة ترشد إلى أن القصة المنقولة غير قصة المحاويج ، وهو قوله : " رخص لصاحب العرية " وتلك الرخصة لم تكن لصاحب العرية ، بل للمحاويج الذين يشترون منه كما تقدمت الإشارة إليه والله أعلم .

قال الشافعي في الأم : وكثير من الفرائض قد نزلت بأسباب قوم فكان لهم وللناس عامة ، إلا ما بين الله تعالى أنه أحل لضرورة أو خاصة ، ومن جهة القياس أن كل ما جاز ابتياعه للفقير جاز للغني كسائر الأشياء ، وقد أورد الشيخ تاج الدين عبد الرحمن أن الشافعي رضي الله عنه قطع القول بالتقييد المذكور في حديث أبي هريرة من المقدار ، ولم يعتبر التقييد المذكور من السبب في حديث محمود فلا بد من التسوية أو الفرق ، ويبنى ذلك على أنه من [ ص: 352 ] باب حمل المطلق على المقيد ، وقد تقدم الجواب عنه في دعوى التقييد بالفقراء ، وأما التقييد بالمقدار فلأن ذلك منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان التقييد من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم حملنا المطلق عليه ، وأما التقييد بالمحاويج فليس من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره ، فهذا هو الفرق والله أعلم .

( فإن قلت ) قررت أن الراجح عند الأصوليين أن قوله : رخص في العرايا وأمثاله عام ، وإذا كان كذلك فيكون التقييد بالمقدار في حديث أبي هريرة ذكرا لبعض أفراد العموم ، وذلك لا يقتضي التخصيص ، فتبقى الرخصة على عمومها . قلت : هذا غير سؤال الإطلاق والتقييد الذي تعرض له ومع ذلك فالجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) أن التخصيص ليس بذكر لبعض الأفراد بل بمفهوم قوله ( فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق ) والمفهوم تخصيص العموم ( والثاني ) أنا لو أبحنا العرايا في القليل والكثير لزال تحريم المزابنة ، وجميع أحاديث الرخصة تقتضي ورودها في شيء دون شيء ، ولفظ العرية ينزل على انفرادها عن سائر الأشجار ، وذلك يشعر بالقلة وليس في جميع الرطب بالتمر ، فلا بد من الرجوع إلى مقدار ، وقد ثبت ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه فتعين الحمل عليه بخلاف تعميمها في الفقراء والأغنياء ، فلم يصدنا عنه صاد ، ولا فيه مخالفة ، بل هو أمر مقطوع به والله أعلم .

( فإن قلت ) فيجب على من يقول في الأصول بحمل المطلق على المقيد أن لا يحمله هاهنا ، وتبقى الرخصة على عمومها في القليل والكثير ( قلت ) يصد عن ذلك الوجه الثاني الذي ذكرته الآن ، وأيضا فإن المذاهب الثلاثة القائلين بالعرايا متفقون على حمل المطلق على المقيد ، هذا كله مع ما في حديث محمود بن لبيد عن زيد الذي يتمسك به في الاختصاص بالفقراء ، من عدم الاتصال الموجب لعدم الحكم عليه بالصحة ، والله أعلم .

وبنى الغزالي الخلاف في ذلك على أن الخرص أصل بنفسه ، يقام مقام الكل ، أو ليس [ ص: 353 ] كذلك ، فيتبع مورد النص ، فعلى الأول نلحق الأغنياء بهم وعلى الثاني نتردد ، وهذا كما سأذكره إن شاء الله تعالى عن الإمام في إلحاق بقية الثمار بالرطب ، والبناء على ذلك المعنى هناك متجه ، وأما هنا فبعيد ، والشيخ أبو محمد بناه في السلسلة على الأصل الذي سيحكيه عن الأصحاب من أن العرايا هل أحلت بعد تحريم المزابنة ؟ أم لم تدخل في التحريم أصلا ؟ وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى والله أعلم ( فرع ) إذا قلنا بالقول الأول فما ضابط المعنى المعتبر في ذلك ؟ لم يتعرض أكثرهم لذلك ، وقال الجرجاني لما حكى القولين : يختص ذلك بمن لا نقد بيده على القول الآخر ، وكذلك عبارة صاحب التتمة فإنه قال : بيع العرايا صحيح من الفقراء الذين لا نقد لهم ، يشترون به الرطب ، فأما الأغنياء فخلاف وقال الروياني في البحر : قال المزني : لا يجوز إلا للمعرى المضطر ، وأصحابنا لم يمنعوا الكلام في ذلك ، لأن الصحيح عندهم خلاف هذا القول ، وإنما يحتاج إلى ذلك الحنابلة فإن المشهور عندهم أنها لإطلاق الرخصة والله أعلم .

قال ابن قدامة الحنبلي : متى كان غير محتاج إلى أكل الرطب أو كان محتاجا ومعه من التمر ما يشتري به العرية لم يجز له شراؤها بالتمر .

( فرع ) لا يشترط عندنا حاجة البائع إلى البيع جزما خلافا لبعض الحنابلة ، واشترطت الحنابلة لبقاء العقد أن يأكلها أهلها رطبا ، فإن تركها حتى تصير تمرا بطل العقد ، ونحن نخالفهم في ذلك ، واشترط الخرقي من الحنابلة كونها موهوبة من بائعها ، كما تقدم عن مالك ، وقالت الحنابلة فيما إذا تركها حتى صارت تمرا : لا فرق بين تركه لغناه عنها ، أو تركها لعذر أو لغير عذر ، وأخذوا في ذلك بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : " يأكلها أهلها رطبا " ولا دليل لهم في ذلك ، لأن المقصود بذلك ذكر الغاية المقصودة لا الاشتراط ، ويلزمهم على ما قالوه أنه متى لم يأكلها بطل العقد ، وقد سلموا أنه لا يبطل إلا بترك الأخذ ، ولا يبطل بترك الأكل بعد الأخذ فلو [ ص: 354 ] أخذها رطبا فتركها عنده أو شمسها حتى صارت تمرا جاز عندهم ، وبهذا يتبين ضعف ما اشترطوه .

( فرع ) تلخص مما قلناه أنه لا يشترط عندنا حاجة البائع جزما ولا المشتري على الأصح وعند بعض الحنابلة وعند مالك يشترط حاجة البائع وحده ، وعند أحمد يشترط حاجة المشتري وحده ، قال ابن عقيل من الحنابلة : يجوز لحاجة البائع أيضا ، كما يجوز لحاجة المشتري ، ويكون الشرط عنده أحدهما لا بعينه ، فالأقسام الممكنة الأربعة كل منها قال به قائل ، ومجموع الشروط التي وجدت صح البيع باتفاق القائلين بالعرايا لحاجة البائع والمشتري وكونها موهوبة من البائع ، وكونها دون خمسة أوسق ، وأن يأخذها المشتري رطبا ، وألا يظهر نقصان يوجب التفاوت بعد ذلك ، فإذا اجتمعت هذه الشروط الستة صح البيع باتفاق المذاهب الثلاثة القائلين بالعرايا ، وإذا وجد منها الثاني والرابع والسادس صح البيع باتفاق مذهب الشافعي رضي الله عنه ، والشرطان الأخيران لا يشترط العلم بهما حالة العقد ، بل إذا فقدا بعد ذلك فقد بينا بطلان البيع ، والله أعلم .

( فرع ) هل يجوز في العرايا أن يبيع جزءا مشاعا أو مبهما مما على النخلة بالتمر ؟ بأن يخرص الخارص أن كل وسق مما عليها يأتي إذا جف نصف وسق فيقول : وسقا مما على النخلة بنصف وسق تمر ؟ أو يخرص جميع ما عليها فيقول : إنه يأتي جافا ثمانية أوسق فيبيع نصفه شائعا بأربعة أوسق تمرا ؟ لم أر في ذلك نقلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية