صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى : ( ولا يجوز في العرايا فيما زاد على خمسة أوسق في عقد واحد ، لما روى جابر رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة } فالمحاقلة أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق من حنطة ، والمزابنة أن [ ص: 364 ] يبيع الثمر على رءوس النخل بمائة فرق ، والمخابرة كراء الأرض بالثلث والربع )


( الشرح ) حديث جابر رضي الله عنه رواه مسلم بهذا اللفظ ، وقال البيهقي : إن البخاري رواه ولم أره في البخاري إلا من رواية أبي سعيد الخدري ، وما ذكره المصنف ذكره الشافعي ، هكذا روينا في مسند الشافعي من طريق الربيع عنه وكذلك هو في الأم في باب المزابنة ، والتفسير يحتمل أن يكون من قول جابر ، فإن في مسلم في الرواية قال عطاء : فسر لنا جابر قال : " أما المخابرة فالأرض البيضاء يدفعها الرجل إلى الرجل فينفق فيها ، ثم يأخذ من التمر " ، وزعم أن المزابنة بيع الرطب في النخل بالتمر كيلا ، والمحاقلة في الزرع على نحو ذلك ، بيع الزرع القائم بالحب كيلا ، وفي رواية أخرى في مسلم : " المحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم ، والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر ، والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك " . وفي هذه الرواية ذكر الحديث وهذا التفسير جملة ، ثم قال الراوي قلت لعطاء بن أبي رباح : " أسمعت جابر بن عبد الله يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم " ، وظاهره أن التفسير من قول النبي صلى الله عليه وسلم وعندي فيه توقف ; لأن الراوي الأول عن عطاء الذي ميز التفسير من الحديث أجل من راوي الرواية الأخرى المحتملة ، وقوله : " بمائة فرق " المقصود بذلك على جهة المثال لا أنه تحديد . والإمام الشافعي رضي الله عنه روى في الأم سؤال ابن جريج لعطاء ، وأن جابرا فسرها لهم ، ثم قال الشافعي : وتفسير المحاقلة والمزابنة في الأحاديث يحتمل أن تكون على رواية من هو دونه والله أعلم .

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث : سمعت غير واحد ولا أتبين من أهل العلم ذكر كل واحد منهم طائفة من هذا التفسير فقالوا : المحاقلة بيع الزرع وهو في سنبله بالبر ، وهو مأخوذ من الحقل ، والحقل هو الذي يسميه أهل العراق القداح ، يعني الأرض المعدة للزراعة كما اقتضاه كلام غيره ، وصرح به ابن باطيش وهو في مثل يقال : " لا تنبت البقلة إلا الحقلة " ، والمحقل السنبل قال الماوردي : جاء { عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 365 ] أنه نهى عن بيع الطعام في محقله } يعني في سنبله ، قالوا : والمزابنة بيع التمر في رءوس النخل بالتمر .

وقال أبو عبيد في المخابرة : هي المزارعة بالنصف والثلث والربع ، فأقل من ذلك وأكثر ، وهو الخبر أيضا ، وكان أبو عبيدة يقول بهذا سمي الأكار الخبير ; لأنه يخابر الأرض والمخابرة المذاكرة ، قال ابن باطيش وقيل : إن أصلها مشتق من خيبر ; لأن { النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهل خيبر عليها لما فتحها على أن لهم النصف من ثمارهم وزرعهم ، وعليهم العمل } فقيل : قد خابرهم أي عاملهم بخيبر ، وهذا التفسير مطابق لمذهب الشافعي رحمه الله تعالى وذكر أصحابنا أن المحاقلة استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها ، وهو المخابرة ، وقد يقال : استكراء الأرض بالحنطة ، واستدلوا على ذلك بما روى أبو سعيد الخدري أن { النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة ، والمحاقلة استكراء الأرض بالحنطة } .

قال الشيخ أبو حامد وغيره : وما قلناه أولى ، يعني بعد تعارض الروايتين ; لأن اللغة تشهد له ، وذلك أن هذه اللفظة من الحقل وهو الزرع .

ويقال : الحقل القداح المزروعة والحواقل المزارع ، قال أبو الطيب : وكذلك لا يصح إجارته بحال ; لأنه قال في شرح التلخيص : إن الحقل الأرض البيضاء ، وروى الشافعي رضي الله عنه ومسلم بن الحجاج في الصحيح عن سعيد بن المسيب في مرسلاته تفسير المحاقلة بالأمرين جميعا ، قال الشيخ أبو حامد : فثبت التفسير الذي ذكرنا ، يعني أنه مستعمل في ذلك فأما استعماله في المعنى الآخر فيمكن أن يقال : إن ذلك مرسل مخالف للقياس ; لأن الأجرة بدل من منافع الأرض ، وليس في كون الحب أجرة لمنافع الأرض معنى يوجب فساد العقد ، ويمكن أن يقال : إن هذا المرسل يعتضد بحديث أبي سعيد ، ونتكلم في وجه القياس في ذلك ، ومحل ذلك ينبغي أن يكون في كتاب الإجارة ، وإنما نتكلم هنا في المزابنة . قال الماوردي وغيره : المزابنة في اللغة المدافعة ، ولهذا سميت الزبانية ; لأنهم يدفعون إلى النار ، وقالوا زبنت الناقة برجلها إذا دفعت قال الشاعر : [ ص: 366 ]

ومستعجب مما يرى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يتعجب

فسمي بيع الرطب بالتمر مزابنة ; لأنه دفع التمر باسم المزابنة بالرطب ، وبيعه لا يجوز ، قال الأزهري : وإنما خصوا بيع التمر في رءوس النخل بالتمر باسم المزابنة ; لأنه غرر لا يخص المبيع بكيل ولا وزن ، وخرصه حدس وظن معنى لا يؤمن فيه من الربا المحرم ، وهذا يقضي أن المزابنة تختص ببيع التمر على رءوس النخل وهو مقتضى التفسير الذي ذكره المصنف في الحديث عن جابر ، وكذلك قال ابن الصباغ وآخرون ، وقد تقدم في كلام أبي حامد وغيره مع الحنفية أن بيع الرطب بالتمر مطلقا يسمى مزابنة ، وهو مقتضى كلام الماوردي الذي ذكرته الآن وكذلك قال الخطابي .

وقد جاء في رواية يحيى بن بكير في الموطأ في حديث ابن عمر في تفسير المزابنة ، قال : " المزابنة الرطب بالتمر كيلا " والمعنى واحد أو متقارب ، وتبين إن صح أن المراد بالتمر الرطب ، والله أعلم . وقد ذكر رواية أيوب عن نافع عن ابن عمر أن المزابنة أن يبيع الرجل ثمرته بكيل إن زاد فلي وإن نقص فعلي ، وهو قريب من الأول ، قال ابن عبد البر : ولا خلاف بين العلماء أن المزابنة ما ذكر في هذه الأحاديث تفسيره عن ابن عمر من قوله أو مرفوعا ، وأقل ذلك أن يكون من قوله ، وهو راوي الحديث ، فنسلم له ، فكيف ولا مخالف له في ذلك ؟ وكذلك كل ما كان في معناه من الجزاف بالكيل في الجنس الواحد المطعوم أو الرطب اليابس من جنسه ، والفرق مكيال من المكاييل يسع ستة عشر رطلا ، والمشهور فيه فتح الراء وفيه لغة أخرى بإسكانها حكاها ابن قابوس وابن سيده ، وأنكرها ثعلب فعلى المشهور هو مشترك بينه وبين الخوف ، والله أعلم .

وجمع الفرق على اللغتين فرقان كبطن وبطنان وحمل وحملان قاله ابن الأثير في شرح مسند الشافعي ، والوسق - بفتح الواو وكسرها والفتح أصح - يجمع على أوسق وأوساق ووسوق وقال المروذي قال شمر : كل شيء حملته وسقته ، وقال غيره : الوسق ضمك الشيء بعضه إلى بعض ، وقال [ ص: 367 ] ابن سيده : الوسق حمل بعير ، وقيل : هو ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : هو العدل وقيل العدلان ، وقد اتفق الأصحاب على الحكم المذكور . قال الشيخ أبو حامد والمحاملي : لا خلاف أن فيما زاد على خمسة أوسق لا يجوز وهو مذهب مالك وأحمد ، وقال محمد من المالكية : إنه يمضي إذا وقع ، قال : ولو جوز ابتداء من غير كراهة لكان أقيس يعني إذا اشتراها بخرصها نقدا ; لأن عند مالك الخمسة الأوسق فما دونها تباع بالستة كما تقدم ، وهذا قول شاذ ، وقد تقدم عند الكلام في اقتضاء جوازها للأغنياء ما يمكن أن يتعلق به من جهة حمل المطلق على المقيد وجوابه ، والصواب الأول .

والنص الصريح في النهي عن المزابنة دليل عليه والمضر فيه أنه بيع طعام بجنسه ، مجهول التساوي ولم يرد فيه رخصة ، ولا هو في معنى ما وردت فيه ، وكذلك المحاقلة للنص والمعنى المذكور ، ومعنى آخر وهو أنه بيع طعام وتبن بطعام وذلك لا يجوز ، وأيضا لأن من دونه حائلا ، قاله ابن أبي هريرة والأصحاب وليس هذا محل الكلام على المحاقلة والمخابرة وإنما نتكلم هنا في المزابنة .

فائدة : الفرق بين المحاقلة والعرايا حيث جوز في العرايا في القليل ، ولم يجز في المحاقلة في قليل ولا كثير ، والفرق ظاهر وهو الحاجة إلى أكل الرطب حال كونه رطبا بخلاف السنبل فإنه لا يحتاج إليه والله أعلم .

وقد اتفق الأصحاب على أنه إذا زاد على خمسة أوسق في عقد واحد لا يصح قاله الماوردي : ( فإن قيل ) فهذا أبطلتموه فيما زاد على الخمسة ، وجوزتموه في الخمسة ( قيل : ) لأنه بالزيادة على الخمسة قد صار مزابنة ، والمزابنة كلها فاسدة وهذا الجواب لا يشفي ، فإن الخمسة إذا كانت جائزة فضمت مع غيرها فالقياس تخريجه على تفرق الصفقة ، والمزابنة قد استثني منها مقدار خمسة أوسق فلعل مأخذ المنع من ذلك الاحتياط في عقود الربا ، وأنه بالزيادة صار العقد ربا والربا حرام ، بخلاف عقد لم ينه عنه ورد على ما يجوز وما لا يجوز ؟ فلا يوصف بالحرمة المطلقة ولا بالحل المطلق بل هو بالنسبة إلى ما يجوز حلال وإلى غيره حرام .

وأما عقود الربا فحرام من حيث هي لا لأمر يرجع إلى المعقود عليه ، بل إلى نفس تلك المقابلة والله أعلم .

[ ص: 368 ] وقد وفى الجوري بمقتضى التخريج وحكى قولين فيما إذا عقد على أكثر من خمسة أوسق : ( أحدهما ) لا كمن نكح أختين . ( والثاني ) يصح في الخمسة ويبطل في الزائد وللمشتري الخيار ، وقد علمت أن المزابنة بيع الرطب بالتمر ، والمحاقلة بيع الزرع بالحنطة .

ثم إن سائر الثمر في شجرها بجنسها لا يجوز ، وسائر الزرع في سنبله كذلك ، فاختلف أصحابنا على ما حكاه الماوردي هل ذلك لدخولها في اسم المزابنة أو قياسا عليها ؟ ( فأحد الوجهين ) وهو ظاهر مذهب الشافعي أن ذلك لدخول سائر الثمار في اسم المزابنة ، وسائر الزرع في اسم المحاقلة ، فكان تحريمه نصا لا قياسا . ( والوجه الثاني ) وهو مذهب أبي علي بن أبي هريرة أن النص في المحاقلة والمزابنة يختص بالحنطة والنخل ، وسائر الزروع مقيسة على الحنطة في المحاقلة ، وسائر الثمار مقيسة على النخل في المزابنة ، فكان تحريمه قياسا لا نصا .

قال القفال في شرح التلخيص : المحاقلة بيع الزرع في الأرض بعد ما يعقد الحب بالحنطة ، وقال القاضي حسين : المحاقلة بيع الحنطة المنقاة بالحنطة في السنابل ، وذلك لا يجوز ، وهو مشتق من الحقل ، وذلك اسم الأرض البيضاء ، والمزابنة بيع الرطب على الأشجار بالتمر على وجه الأرض ، فأما إذا باع الحنطة على وجه الأرض بالقصل قبل أن يتسنبل أو قبل أن تشتد فيه الحبات فإنه يجوز ; لأنه بيع الحنطة بالحشيش . وكذا لو باع الحنطة على وجه الأرض بالشعير في سنبله جاز .

وأما إذا باع الشعير على وجه الأرض بالقمح في سنبله ففيه قولان كما [ في ] بيع الغائب .

وقال مالك رحمه الله - : صورة المحاقلة والمزابنة أن يقول الرجل لآخر : اضمن لي صبرتك بعشرين صاعا فما زاد فلي ، وما نقص فعلي إتمامها . هذا كلام القاضي حسين .

وقولهم في تفسير المحاقلة : بيع الزرع بالحنطة . هكذا أطلقه جماعة . وقال الماوردي : بيع الطعام في سنبله بالطعام المصفى . وقيده المحاملي بأنه بيع الحنطة في سنبلها بالحنطة ، وهو الصواب . وقيده [ ص: 369 ] الصيمري في شرح الكفاية فقال : بيع السنبل من البر قائما بالحنطة . فتقييده بالبر لا بد منه . وكذلك قيده الفوراني في الإبانة . وقال القفال والقاضي أبو الطيب وصاحب التهذيب : بيع الزرع بعد اشتداد الحب بمثله نقيا . وهذا يدخل فيه الشعير وغيره ، وتكون الحنطة على سبيل التمثيل . قال الصيمري : ولو بيع بالدراهم لم يجز إلا أنه غير المحاقلة ، وقال أبو داود لما ذكر التفسير المذكور قال : إذا حزر الزرع أنه يحصد منه مائة فرق فبيع بمائة فرق فلا يجوز ، فإن لم يكن فيه هذا الخرص وهذا التقدير فأولى بالفساد والله أعلم .

( فرع ) قول المصنف : في عقد واحد مفهومه أنه يجوز في عقود متفرقة ، والأمر كذلك يجوز أن يبيع الرجل ثمر بستانه كله لجماعة كل واحد منهم دون خمسة أوسق ، نص على ذلك الشافعي والأصحاب ، وقال إمام الحرمين : إنه لا خلاف فيه ، ويجوز أن يبيع أيضا للرجل الواحد في عقوده ، كل عقد دون خمسة أوسق أو خمسة إن جوزناها ، نص عليه الأصحاب والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمحاملي ، ونفى الخلاف فيه إمام الحرمين والمتولي ، قال النووي في الروضة : " لأن الرخصة عامة في جميع العقود ، وخالف في ذلك أحمد فقال : لا يجوز أن يبيع أكثر من عرية واحدة ، ولا يشتري أكثر من صفقة واحدة ومذهبه معروف في سد باب الحيل " .

وقد أورد الأصحاب سؤالا وجوابه نقلهما القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق أنه قال : ( فإن قيل : ) إذا أجزتم ذلك فقد أبطلتم المزابنة وجعلتم للناس أن يبيعوا جميع ثمارهم على رءوس النخل بالتمر . ( والجواب ) أن المزابنة حكمها ثابت في العقد الواحد ، وقال ابن الرفعة : يظهر إذا قلنا باختصاصها بالفقراء ألا يصح ; لأنه بالخمسة الأولى غني شرعا ، واعتباره هنا أولى من اعتبار الغنى العرفي . ( قلت ) وجواب ذلك أن الخمسة الأولى قد يكون أكلها أو أزالها عن ملكه أو لا تسد كفايته ، واعتبار الكفاية في ذلك [ ص: 370 ] أولى من جعله مالكا لنصاب الزكاة ، وقد تقدم ما اقتضاه كلام صاحب التتمة والجرجاني ، من أن المعتبر أن لا نقد بأيديهم ، وهو حاصل هنا والله أعلم

( فرع ) ويفهم منه أنه إذا باع ثمانية أوسق من رجلين صفقة واحدة جاز ; لأنه بمنزلة الصفقتين ، وإذا كانت ستة عشر وسقا بين رجلين فباعها من رجلين جاز ; لأن كل واحد منهما باع حقه ، وهو ثمانية أوسق من رجلين فيصير كأنه باع من كل واحد منهما أربعة أوسق ، وبذلك كله صرح القاضي أبو الطيب والماوردي والقاضي حسين وابن الصباغ والرافعي وغيرهم ولا خلاف في المذهب فيه ، وفرضها الماوردي في عشرين وسقا إلا مدا وهو أبلغ في التمثيل .

ونقل ابن الصباغ وغيره خلاف أحمد في ذلك قال : لأن البائع عنده لا يجوز أن يبيع أكثر من عرية واحدة ، وعندنا يجوز .

( فرع ) إذا باع رجلان من رجل واحد أكثر من خمسة أوسق ففيه وجهان حكاهما الفوراني وغيره من المراوزة ( والصحيح ) الجواز ، كما لو باع من رجلين ; لأن الصفقة تتعدد بتعدد البائع جزما ، وفي تعددها بتعدد المشتري وجه ، وقد جزمنا بأنه هنا تجوز الزيادة على الخمسة عند تعدد المشتري واتحاد البائع ، فينبغي أن يكون عند تعدد البائع واتحاد المشتري أولى بالجواز . ( والوجه الثاني ) أنه لا يصح وهو اختيار صاحب التلخيص ; لأنه يدخل في ملكه أكثر من خمسة أوسق بطريق الخرص دفعة واحدة وهو يخالف مقصود الخبر ، وفرق إمام الحرمين بين هذا وبين الرد بالعيب حيث يلاحظ فيه التعدد والاتحاد بأن المبيع خرج عن ملك البائع دفعة ، فلو رجع إليه بعضه لكان خارجا بعيب عائدا بعيبين ، وإذا تعدد البائع يرد المشتري تمام ملك أحدهما عليه لم يتضمن تنقيصا عليه لم يكن قبل ، والمقصود في العرايا أن لا يملك الرجل دفعة واحدة خمسة أو أكثر من خمسة وهذا الوجه ضعفه البغوي والروياني والرافعي ، وممن رجح الجواز في ذلك صاحب العدة والعمراني .

( فرع ) فلو باع عشرين وسقا من أربعة فعلى القولين - إن جوزنا العرايا في خمسة - ، وقال في الروضة : وسواء في هذه الصورة كانت العقود [ ص: 371 ] في مجلس أو مجالس حتى لو باع الرجل ألف وسق في مجلس واحد بصفقات ، كل واحد دون خمسة أوسق جاز .

( فرع ) لو باع الزرع قبل بدو الحب فيه بالحنطة جاز ، فإن الزرع حشيش بعد ، غير معدود من المطعومات ، قاله الإمام والرافعي ، وكذلك قال الروياني في البحر : يجوز بشرط القطع ، وفرضه فيما إذا لم يشتد الحب ، وهو مراد الإمام ، وكذلك صاحب التهذيب . وقال : سواء تسنبل أم لم يتسنبل فينبغي أن يقيد إطلاق تفسير المزابنة بالزرع بالحنطة وإلا حرم ، قال الإمام وجماعة : إن معناها الحب في السنبل بالحنطة لكن قول صاحب التهذيب : إنه يجوز إذا تسنبل ، مشكل فإنه بيع قمح رطب مستتر مع تبنه بقمح وذلك نوع من الفساد ، والرافعي قال : قبل ظهور الحب فلا يرد عليه شيء .

( فرع ) حكى أصحابنا عن مالك رحمه الله - أنه فسر المزابنة بأن يكون لرجل صبرة من طعام فيقول له رجل : في صبرتك ستون وسقا ، فيقول صاحب الصبرة : ليس فيها ستون وسقا ، فيقول له الحازر نكيلها فإن نقصت تممتها ، وإن زادت أخذت الزيادة ، وقد ذكر الشافعي رحمه الله تعالى هذه المسألة في الأم وقال : إن ذلك قمار مخاطرة وليس بعقد ، وإنه من باب أكل المال بالباطل ، وكذلك لو قال رجل : عد قثاءك أو بطيخك أو اطحن حنطتك فما زاد على كذا فلي ، وما نقص فعلي ، وكذلك - فيما قال الماوردي - لو أخذ ثوبا لرجل فقال : أنا أقطعه لك قميصا ، فإن نقص غرمته وإن زاد أخذت الزيادة فكل هذه الأشياء حرام بالاتفاق ، ولكن الاختلاف في أن ذلك داخل تحت المزابنة أو لا ؟ فإن هذا مخاطرة موضوعه أن يدفع عند النقصان ما لا يأخذ عوضه ، ويأخذ عند الزيادة ما لا يعطي بدله فصار بالقمار والمخاطرة أشبه منه بالبيع والمزابنة . والذي حكاه أبو بكر بن العربي أن المزابنة بيع التمر في رءوس النخل بالتمر ، فعلى هذا لا خلاف بيننا وبينهم ، قال ابن العربي : ثم حمل على ذلك كل رطب بيابس ، ونقل ابن العربي عن مالك أنه قال : المزابنة كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده ، أتبيع بشيء من المسمى من الكيل [ ص: 372 ] والوزن والعدد ؟ واختصاره بيع المجهول بالمعلوم وهذا أيضا يوافق تفسير الشافعي ، فإنه قال في المزابنة : كل جنس من الطعام عرف كيله اشتري بجنس مثله مجهول الكيل ، أي المزابنة المحرمة ، وليس مقصود تفسير ما جاء في الحديث ، والخلاف أن يثبت في تفسير اللفظ لا في المعنى ، فإن العقود المذكورة محرمة عندنا وعنده ، قال ما معناه ذلك ، وشذ الصيمري فجعل المزابنة شراء الرطب في رءوس النخل بثمر في الأرض جزافا ، وعلى هذا لا يحتاج إلى استثناء العرايا ، وهو يخالف قوله : ورخص في العرايا .

( فرع ) قال الشيخ أبو حامد في الرونق : المحاقلة على ضربين ( أحدهما ) بيع الحنطة في سنبلها ، وهو ممتنع كالجوز واللوز في قشرته . ( والثاني ) بيع الحنطة مع التبن ، ففيه قولان بناء على خيار الرؤية ، وهذا الكلام يقتضي أنه لا يشترط في المحاقلة أن يكون المبيع بالحنطة ، وهو خلاف المشهور وخلاف ما صرح به الصيمري فيما تقدم .

وهذا اختلاف في التسمية والأحكام لا نزاع فيها . وأما جزمه في الأول بالبطلان وحكايته القولين في الثانية فينبغي أن يؤخر الكلام عليه إلى باب الأصول والثمار

( فرع ) اعتبار الخمسة هاهنا هل هو تحديد أو تقريب ؟ صرح الماوردي على قولنا : أنه لا يجوز إلا أقل من خمسة أوسق ، أنه لو باع خمسة إلا مدا أو إلا ربع مد صح ، فيما إذا اشترى أربعة أنفس عشرين وسقا إلا مدا ، ومقتضى ذلك أن الخمسة إذا نقصت ربع مد صح جزما ، وهذا يشعر بالتحديد ; لأن ربع مد - رطل وثلث في ألف وستمائة رطل - قليل جدا ، والأصحاب أطلقوا الخمسة من غير تعرض لتحديد ، ولا تقريب ، قال ابن الرفعة : ولا يبعد تخريجه على أن الخمسة الأوسق في الزكاة تحديد أو تقريب ، فقد حكي عن العراقيين أنه لا يضر لنقصان خمسة أرطال ، فينبغي أن يكون النقص أكثر من خمسة أرطال . ( قلت ) وقد صرح النووي بهذه المسألة ، وأن ذلك على سبيل التحديد في مجموع لطيف أسماه : ( رءوس المسائل وتحفة طلاب الفضائل ) وذكر فيه مسألة في بيان جملة من المقدرات الشرعية ، فذكر مما هو على [ ص: 373 ] سبيل التحديد عدد الذي تنعقد به الجمعة ، ومدة مسح الخف ، وأحجار الاستنجاء ، ولو باع الكلب ، ونصيب الزكاة وقدر الواجب فيها وفي زكاة الفطر ، وفي الكفارات ، وتعتبر سن البلوغ بخمسة عشر ، وتقدير الرخصة في بيع العرايا بخمسة أوسق إذا جوزنا في خمسة أوسق ، ومنه الآجال في حول الزكاة والحرمة والعدة ودية الخطأ ونفي الزاني وانتظار العنين والمولي وحول الرضاع ، وجلد الزاني والقاذف وتخصيص الزيادة على الأربعين على سبيل التقدير بثمانين ، ونصاب السرقة بربع ، وغير ذلك .

ومن التقدير الذي على سبيل التقريب سن الرقيق المسلم فيه والموكل في شرائه .

ومن التقدير المختلف فيه تقدير العلتين وسن الحيض والمسافة بين الصفين ومسافة القصر ونصاب المعشرات وفي كلها وجهان ( الأصح ) التقريب ; لأنه يجتهد في هذا التقدير وما قاربه وهو في معناه ، بخلاف المنصوص على تحديده ، وفي كلام النووي الذي حكيته تقييد ذلك بما إذا جوزنا في خمسة أوسق ، ولا يتقيد بذلك بل إذا قلنا : إنه لا يجوز في الخمسة فنقص عنها نقصا يسيرا فإنه يجوز العقد عليها ; لأنا جعلنا ذلك تحديدا وقد حصل النقص عليها فيمتنع . والله أعلم .

( فرع ) لو باع الحنطة في سنبلها بالشعير على وجه الأرض فإن فيه القولين في بيع الغائب ، قال : ولو باع الشعير في سنبله بالحنطة على وجه الأرض ، أو الرطب على رأس النخل بجنس آخر من الثمار على الشجر ، أو على وجه الأرض فلا بأس ، لكن يتقاصان بالتسليم فيما على وجه الأرض وبالتخلية فيما على الشجر ، قاله الرافعي .

( فروع ) هل يجوز أن يقع عقد العرية على جزء مشاع مما على النخل من الرطب إذا خرص الجميع ؟ الذي لا أشك فيه الجواز ، وذلك مقتضى نقل الأصحاب أنه إذا باع من رجلين سبعة أوسق جاز فالذي حصل لكل منهما مشاع ، ولا يقدح في ذلك التسليم فإنه يحصل بالتخلية ، ولا الانتفاع به فإنه يحصل بالمقاسمة على قول الإفراز على الأصح .

( فائدة ) الحقل قراح طيب يزرع فيه قاله ابن سيده وغيره قال : [ ص: 374 ] وحكى بعضهم فيه الحقلة ، ومن أمثالهم " لا ينبت البقلة إلا الحقلة " وليست الحقلة بمعروفة ، وأراهم أنثوا الحقلة في هذا المثل ، انتهى .

فالمحاقلة سميت بذلك لتعلقها بزرع في حقل والمزابنة مأخوذة من الزبن ، وهو الدفع سميت بذلك لأنها مبنية على التخمين والغبن فيها مما يمكن من يد المغبون دفعه ، والغابن إمضاؤه فيتدافعان ، ولا يمكن المعيار الشرعي وهو الكيل في السنابل والرطب على النخل ، والخرص فيها لا يكفي . قال الأئمة : وفي المحاقلة شيئان آخران .

( فرع ) إذا امتنع بيع الحنطة في سنبلها بالحنطة الظاهرة فامتناع بيعها بمثلها أولى ، وقد صرح الشافعي رضي الله عنه بذلك ، وأشار إلى عدم الخلاف فيه ، فإنه قال : ولم أجدهم - يعني أهل العلم - يجيزون أن يتبايعوا بيع الحنطة بالحنطة في سنبلها كيلا ، ولا وزنا ، لاختلاف الأكمام والحب فيهما ، ذكر ذلك في باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار .

( فرع ) وكذلك قال فيه أيضا : ولم أرهم أجازوا بيع الحنطة في التبن محصودة .

التالي السابق


الخدمات العلمية