صفحة جزء
[ ص: 382 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى : ( وما جاز في الرطب بالتمر جاز في العنب بالزبيب ; لأنه يدخر يابسه ويمكن خرصه ، فأشبه الرطب ، وفيما سوى ذلك من الثمار قولان : ( أحدهما ) يجوز ; لأنه ثمرة فجاز بيع رطبها بيابسها خرصا كالرطب . ( والثاني ) لا يجوز ; لما روى زيد بن ثابت قال : { رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرايا بالتمر والرطب ، ولم يرخص في غير ذلك } ، ولأن سائر الثمار لا يدخر يابسها ولا يمكن خرصها لتفرقها في الأغصان واستتارها في الأوراق فلم يجز بيعها خرصا ) .


( الشرح ) حديث زيد هذا رواه مسلم ، وقد تقدم ومضى الكلام عليه .

وقد نص الشافعي على أن العرايا من العنب كهي من التمر ، واتفق أصحابه على ذلك ، وأنه يجوز أن يبيع العنب على أصوله خرصا بالزبيب كيلا ، واستدلوا له بأن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين الرطب والعنب في إيجاب العشر ، وفي سن الخرص فيهما ، قال الشافعي : إن ألغينا قيد ظاهرة بادية كالأعذاق فيمكن خرصها والإحاطة بها . ولم يذكر المصنف هذين المعنيين وإنما ذكر ادخار اليابس منه ، وإمكان الخرص ; لأنهما معنيان مناسبان للحكم المذكور وكل منهما شرط في تصوير المسألة .

ووافقنا على إلحاق العنب بالرطب المالكية وبعض الحنابلة ، وخالف في ذلك الليث بن سعد وأحمد بن حنبل وداود الظاهري .

قال الماوردي : واختلف أصحابنا ، هل جازت في الكرم نصا ؟ وروينا عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم { أرخص في العرايا } ، والعرايا بيع الرطب بالتمر والعنب بالزبيب . والثاني وهو قول ابن أبي هريرة وطائفة من البغداديين أنها جازت في الكرم قياسا .

( قلت : ) والمحاملي وابن الصباغ ممن جعلا ذلك نصا ، ولم أقف على النص الذي ذكروه في شيء من الأحاديث ، بل في رواية الترمذي ما يشعر بخلاف في ذلك أيضا ، وقال : إن ذلك من باب القياس الجلي ; لأن جميع المعاني الموجودة في النخيل موجودة في الكرم ، بل رواية الترمذي عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن المزابنة التمر بالتمر إلا [ ص: 383 ] لأصحاب العرايا ، فإنه قد أذن لهم ، وعن بيع العنب بالزبيب وعن كل تمر بخرصه } فهذه الرواية تشعر بأن العنب لا يعطى حكم التمر ; لأنه فصله من الاستثناء ، وجعله مع بقية الثمر ، فالصواب أن ذلك إنما ثبت بالقياس ، وهو الذي يقتضيه كلام الشافعي ، فإنه لم يذكر غيره . والله أعلم .

نعم ، في رواية مسلم في الصحيح من رواية ابن عمر ، وفيه : " والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا ، وبيع الزبيب بالعنب كيلا ، وعن كل تمر خرصه " ثم ذكر من رواية جابر النهي عن أمور منها المزابنة ، وقال في آخره ( إلا العرايا ) ، ورواية الترمذي ماضية على ذلك ومثبتة لما يعود الاستثناء إليه . والله أعلم .

واعلم أن قوله : ( وعن كل تمر بخرصه ) في رواية مسلم والترمذي عام في العنب وغيره ، فيكون إلحاق العنب بالرطب تخصيصا للعموم بالقياس ، فمن يمنع ينبغي أن يتوقف عن الإلحاق ههنا إلا بدليل . والله أعلم .

وأما غيرهما من الثمار التي تجفف مثل الخوخ والإجاص والكمثرى والتين والجوز واللوز والمشمش فهل يجوز على شجره بخرصه جافا ؟ فيه طريقان : ( أحدهما ) أن المسألة على القولين ، وهي التي حكاها القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمصنف وأتباعه ، والجرجاني والفوراني وإمام الحرمين والمتولي وصاحب العدة والرافعي ، وقال صاحب البيان : إنها المشهورة في كلام المحاملي وغيره لشبه ذلك بالمساقاة تجوز في النخل والكرم قولا واحدا ، وفي غيرهما من الثمار حكم قولين : أحد القولين تجوز ، وهو مذهب مالك وبعض الحنابلة ; لأن النفس تدعو إلى أكلها في حال رطوبتها ، وهذه علة مناسبة لشبه الحاجة التي شرع لها بيع الرطب بالتمر ، والعنب بالزبيب ، وأما قول المصنف رحمه الله : ( لأنها ثمرة ) فتعليل لمجرد الاسم ، وهو - وإن كان جائزا عنده وعند جماعة من الأصوليين - فغيره أولى منه ، فلو علل بهذه العلة التي ذكرتها كان أولى ، وهي التي ذكرها القاضي أبو الطيب ، وفي كلام الشافعي تعليل ذلك بعلة تحتاج إلى النظر فيها سأذكرها في آخر الكلام - إن شاء الله تعالى - . ( والثاني ) لا يجوز ، وهو المنصوص عليه في باب العرية من الأم المنسوب إلى الصرف ، قال : ولا تكون العرايا إلا في النخل والعنب ; لأنه لا يضبط [ ص: 384 ] خرص شيء غيره ، واقتصر في هذا الموضع على هذا ، وسيأتي عنه أنه ذكر في موضع آخر تلويحا إلى القول الأول ، وهذا القول أعني قول المنع هو الأصح عند الروياني في الحلية والبغوي والجرجاني وابن أبي عصرون والرافعي وغيرهم ، واستدلوا له بالحديث الذي ذكره المصنف ، وفي الاستدلال به نظر ; لأنه إن أريد أن النبي صلى الله عليه وسلم منع في غير ذلك فينبغي أن يمتنع العنب بالزبيب ويكون قياسه على الرطب حينئذ في مقابلة النص ، وإن أريد أن الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لم تتفق في غير ذلك فصحيح ، لكن لا يمتنع القياس على مثل هذا ، وإن أريد أن الصحابي ظهر له بقرينة الحال أن الرخصة مقصورة على ذلك ، وأوجبنا الأخذ بذلك ، فينبغي أن لا يجوز العنب بالزبيب .

ولكن الأصحاب لما رأوا إلحاق العنب بالرطب ظاهرا قويا لم يتركوه بمجرد هذا اللفظ المحتمل لهذه الأمور ، ولما كان إلحاق ما سوى ذلك من الثمار ليس بجلي قدموا ذلك اللفظ عليه ; لأن مثل ذلك لا يقال إلا عند ظهور ما يدل عليه ، وقال إمام الحرمين : إن الأصحاب بنوا الخلاف في ذلك على القولين في أن الخرص هل يجري في ثمار سائر الأشجار ؟ ( إن قلنا ) : لا يجري امتنع البيع للجهالة ، ( وإن قلنا ) : يجري فينبني على أنا هل نقتصر في ذلك على الإتباع أو نتبع طريق الرأي والقياس ؟ فمن سلك الإتباع منع ، ومن جوز الرأي سوغ ، وذكر الإمام أنه قدم الخلاف في الخرص في كتاب الزكاة ، وكذلك الغزالي رحمه الله - قال : فيه قولان مذكوران في الزكاة ، واعترض بعض الشارحين عليه وقال : لم يتعرض لذلك في كتاب الزكاة ولا الإمام ، قال ولا رأيته في موضع ما ، ولا يليق ذكره في الزكاة ; لأنه لا زكاة في ذلك فليتنبه لهذا .

( قلت ) : والغزالي وإمامه مسبوقان بمثل هذا الكلام من القاضي حسين ، لكن الاعتراض المذكور صحيح ، وقد يقال في جوابه : إن ذلك يأتي على القول القديم في وجوب الزكاة في الزيتون ، وما ذكر معه مما سوى الرطب والعنب ، وأما قول المصنف ( لأن سائر الثمار لا يدخر يابسها ) فاعلم أن القاضي أبا الطيب أنما فرض المسألة فيما يدخر يابسه فهو خلاف الفرض ; لأن صورة المسألة فيما يدخر يابسه ، كذلك فرضها القاضي أبو الطيب والإمام [ ص: 385 ] في الجاف بالرطب من سائر الثمار ، ويحتمل أن يكون مراده بالجاف ما هو على هيئة الادخار ، ولا بد من ذلك ; لأن العرايا بيع رطب بيابس ، واليابس الذي لا يدخر لا يرغب فيه ، وقوله : ولا يمكن خرصها ، إن أراد عدم الإمكان الشرعي بمعنى أنه لم يشرع فيها الخرص فصحيح .

قال الشافعي في باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار : ولم أحفظ عنه يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أهل العلم أن شيئا من الحبوب تؤخذ زكاته بخرص ، ولو احتاج إليه أهله رطبا ; لأنه لا يدرك علمه كما يدرك علم ثمرة النخل والعنب ، وإن أراد نفي الإمكان الحسي فقد يمنع . ( نعم ) هو عسير لما ذكره المصنف من العلة ، فلذلك لم يدخل الخرص فيه شرعا ، فإن الغالب عليها الاستتار في الأوراق وعدم الظهور ، والذي علل به القاضي أبو الطيب أن العشر لا يجب فيها ولا يسن الخرص فيها كما فعل في الجانب الآخر والله أعلم .

وليس في كلام الشافعي رضي الله عنه في إلحاق العنب وقطع بقية الثمار عن الإلحاق إلى كون العنب يخرص ، وهي لا تخرص . والله أعلم .

وفي موضع آخر قال : لأنه لا يضبط خرص شيء غيره ، وهذه العبارة أسلم عن الاعتراض من عبارة المصنف . ( والطريق الثاني ) أنه لا يجوز قولا واحدا ، وهو الصحيح عند المحاملي والروياني ، ونقله العمراني عن حكاية صاحب المعتمد ، ومن الجازمين به سليم في الكفاية ، وفرق المحاملي بينه وبين المساقاة بأن المعنى الذي لأجله جوزت المساقاة في الرطب والعنب أن صاحب النخل والكرم يحتاج إلى من يقوم على ثمرته ويسقيها ويتعهدها ، فدعت الحاجة إلى جواز المساقاة عليها على أحد القولين ، وليس كذلك بيع العرايا ; لأنه إنما يجوز ذلك في الرطب والعنب ; لأنه يمكن معرفة قدره بالخرص ، وهذا المعنى لا يوجد في غيرها من الثمار ، فلذلك لم يجز البيع قولا واحدا ، والظاهر الطريقة الأولى ; لأن الشافعي قال في باب بيع العرايا من الأم : " وكل ثمرة ظاهرة من أصل ثابت مثل الفرسك والمشمش والكمثرى والإجاص وذلك مخالفة للتمر والعنب [ ص: 386 ] لأنها لا تخرص لتفرق ثمارها ، والحائل من الورق دونها ، وأحب إلي أنه لا يجوز بما وصفت ، ولو قال رجل : هي لم تخرص ، فقد رخص منها فيما حرم من غيرها أن يباع بالتحري فأجيزه كان مذهبا " . هذا لفظ الشافعي بحروفه .

وهذه الصيغة منه تقتضي إثبات قول آخر بالجواز ، وإن كان الراجح عنده ما قدمه وهو المنع ، ومقتضى تجويز العرايا فيها جواز الخرص فيها ، وإلا فكيف تباع العرايا ؟ وكيفما قدر فالأصح المنع ، وممن صححه الروياني والبغوي والجرجاني والرافعي وآخرون والله أعلم .

وقول الشافعي : رخص منها فيما حرم من غيرها ، أي ما يباع بالتحري ، هكذا رأيته في نسخة معتمدة من الأم ونسخة ثانية منها أيضا ، وفيه إشكال ; لأن ظاهره أنه رخص منها في شيء حرم من غيرها أن يباع بالتحري ، وإن كان مقتضى الجواز وذلك معنى لا ينساغ ، ولا فرق بينها وبين غيرها في أن بيعها بجنسها بالتحري غير جائز ، وبغير جنسها جائز .

ورأيت أبا بكر أحمد بن بشري المصري في كتابه المختصر المنبه من علم الشافعي ، نقل اللفظ المذكور بصيغة سالمة عن هذا الإشكال قال : ( ولو قال رجل : هي وإن لم تخرص فقد رخص فيما حرم من غيرها أن يباع بالتحري ، فأجيزه ، كان مذهبا ) فأسقط لفظة منها واستقام المعنى ، وصار المعنى : لأنه كما رخص فيما هو حرام من غيرها أن يباع بالتحري جاز فيها ، ولم يصرح بوجه الإلحاق والله أعلم .

وعبارة الشافعي فيما نقله الماوردي في الحاوي ( ولو قال قائل : يجوز التحري فيها كان مذهبا ) وهذا لا إشكال في فهمه .

فائدة : قال ابن الرفعة : إن قلت : إنه يجب إذا منعنا القياس في الرخص كما هو قول الشافعي القديم ، وقول لغيره أن لا يقاس العنب على الرطب ، ولا نعلم قائلا به في مذهبنا ، وأجاب بأن السؤال صحيح ، إن صح أن الشافعي كان يمنع القياس في الرخص في القديم ، وجوابه لعله كان في القديم يرى أن اسم العرية لا يختص بالرطب . [ ص: 387 ] قلت ) : وقد تقدم رد قول من جعل ذلك منصوصا ، وترجيح كونه ثابتا بالقياس ، وأما كون الشافعي له قول يمنع القياس في الرخص حتى يلزم عليه ما أورده فلم أعلم للشافعي قولا بذلك ، ولا وقفت عليه في نقل معتمد ، وليس عند الشافعي باب يمتنع فيه القياس إذا اجتمعت شروطه ، وقد ذكر الغزالي في المستصفى قياس العرايا من قسم ما استثنى عن قاعدة سابقة ، ويتطرق إلى استثنائه معنى فيقاس عليه كل مسألة دارت بين المستقر ومشارك المستثنى في علة الاستثناء ، ومثل بالعرايا فإنه لم يرد ناسخا لقاعدة الربا لكن استثني للحاجة ، فنقيس العنب ; لأنا نراه في معناه ، نعم لنا رخص لا يجوز القياس عليها لا لأجل أنها رخص ، بل لأنه لم يوجد فيها شروط القياس كرخص السفر والمسح وأكل الميتة والعاقلة وأرش الجناية والغرة والشفعة والقسامة ونظائرها وهذه أمثلة ، من قسم ترجم الغزالي عنه بالقواعد المبتدأة العديمة النظير ، فهذه إنما امتنع القياس فيها لعدم نظيرها ، وليس كل رخصة كذلك ، فلعل من نقل عن الشافعي أنه لا يقيس في الرخص المقيس عليه بذلك ، فلا يعرج على هذا النقل إلا بعد تثبت ، والله أعلم .

( فرع ) قال الجرجاني : لا تجوز العرية في الزرع بخلاف الكرم والنخل ; لأن أعذاقها وعناقيدها مجتمعة بارزة .

( فرع ) لو باع الرطب على الشجر بجنس آخر من الثمار على الشجر وعلى الأرض يجوز من غير خرص قل أو كثر ، ويتقابضان ، نص عليه الشافعي والأصحاب ، ولو بيعت العرايا بنقد أو عرض موصوف من كل ما عدا المأكول والمشروب إلى أجل وقبض المشتري العرية جاز ، نص عليه الشافعي رضي الله عنه .

( فرع ) قال إمام الحرمين : وحق الفقيه أن لا يغفل في تفاصيل المسائل عما مهدناه في كتاب الزكاة من تفصيل القول في بيع الثمار ، وفيها حق المساكين أو لا حق فيها ، والتنبيه كاف ، يعني أنه إذا باع من في ملكه خمسة أوسق فصاعدا بحيث تجب عليه الزكاة ، فإن الزكاة تتعلق بالثمرة ببدو الصلاح وبيع المال ، وفيه حق الزكاة مذكور بأحكامه وتفاصيله في ذلك [ ص: 388 ] المكان ، وذلك بعينه جار هنا ; لأنه لا فرق في ذلك بين أن يكون البيع بتمر أو بنقد ، فيجيء إذا أطلقنا هنا المراد من حيث ما نحن نتكلم فيه ، وأما تلك التفاصيل والأحكام فمعلومة في بابها والله أعلم .

وقال الروياني في البحر : قال أصحابنا : هذا إنما يجوز إذا خرص عليه الزكاة ، وقلنا : الخرص تضمين حتى يجوز له التصرف في الجميع ، قال : وهذه المسألة تدل على صحة القول بالتضمين ، أو أراد إذا لم يبلغ ما في حائطه قدرا تجب فيه الزكاة ، أو أراد إلا قدر الزكاة إذا قلنا : الخرص غيره . انتهى ، وهذا يوافق ما أشار إليه الإمام ، وأصل هذا التنبيه عن القفال وكذلك حكاه عنه تلميذه الفوراني وصاحب العدة ، ورأيته في كلامه في شرح التلخيص ، وأصله من كلام الشافعي رضي الله عنه فإنه تعرض لذلك في باب صدقة التمر من الأم ولاحظ هناك تفريق الصدقة إذا باع ثمر حائطه وسكت عن الصدقة ، وقد تقدم من كلام الشافعي وروايته أن مصدق الحائط أمر الخارص أن يدع لأهل البيت قدر ما يراهم يأكلونه ، ولا يخرصه لتؤخذ زكاته ، ومع ذلك فلا حاجة إلى هذا الذي قاله هؤلاء الأئمة ، وتكون تلك العرية إذا فرضت على ما قاله الشافعي لا تتعلق الزكاة بها كما ذكروا والله أعلم .

ولكن قد تقدم أن الأصحاب نقلوا ذلك عن القديم وأن المشهور خلافه ، أما إذا فرض البيع فيما تعلق حق الزكاة به فلا شك في جريان ما نبهوا عليه ، وهذا الفرع الذي نبه عليه الشافعي من أنه يدع لأهل البيت من حائطهم قدر ما يراهم يأكلونه مستفاد غريب ، ثم فيه مباحثة من جهة أن حق المساكين قبل الخرص هل تعلق بالجميع أو لا ؟ فإن كان الأول فكيف ينقطع بأفراد الخارص من غير أن يفرد حقهم فيما عدا ذلك ؟ إلا أن يحمل على الوثوق بأن المشتري يتصدق بعشره كما تقدم ، وإن كان الثاني فيكون حقهم في نخلات مبهمة ، وحينئذ فهل ولاية العين للمالك التصرف فيها بالأكل وغيره قبل التعيين ؟ فإذا باع يكون كما لو باع الأربعين من الشياه التي تعلق بها الزكاة . والله أعلم .

فلا يجوز ولا يخرج على تفريق الصفقة على الأصح لأجل الإبهام .

وأما اقتضاء كلام الرافعي لترجيح الصحة في ذلك فيما عدا قدر الزكاة فبعيد ، فيجب تأويله ، وكذلك قال القفال في شرح التلخيص لما ذكر القولين [ ص: 389 ] في ذلك ، هل يجبر بالقسط أو بالكل ؟ قال : وهذان القولان يخرجان على القول الذي يقول : إن الزكاة تجب في الذمة ، لا في العين ; لأن الزكاة إذا وجبت في الذمة فإن البيع يكون صحيحا في جميع الأربعين ، فإذا أخذ الساعي منها واحدا كان ذلك عيبا .

( فرع ) قال الشافعي رحمه الله - في الأم : [ ولا بأس إذا اشترى رجل عرية أن يطعم منها ويبيع ; لأنه قد ملك ثمرتها ] . ولا بأس أن يشتريها في الموضع من له حائط أو بستان بذلك الموضع لموافقة ثمرتها أو فضلها أو قربها ; لأن الحلال عام لا خاص إلا أن يخص بجزء لازم ، ( قال ) : وإن حل لصاحب العرية شراؤها حل له هبتها وإطعامها وبيعها إذا حازها وما يحل له من المالك في ماله . وهذه الفروع كلها واضحة لا خلاف فيها بين الأصحاب ، وفي قول الشافعي " لموافقة ثمرتها " إشارة إلى أن الأغراض في البياعات تختلف فلا يحصر الغرض في أن لا يكون لمالك الثمرة مثلها عند المشتري ، بل قد يكون مثلها عنده ويريد ضمها إليه .

( فرع ) قال الماوردي رحمه الله - : إن الخارص هنا يكفي فيه واحد بخلاف الزكاة على رأي ، والفرق أنه هنا نازل منزلة الكيل عند تعذره ، ويكفي في الكيل واحد فكذلك هذا ، وهل يشترط أن يكون غير المتعاقدين أو يكفي أحدهما ؟ قال القاضي أبو الطيب : في كيفية الخرص أن ينظر المتبايعان إلى النخلة ويحزرانها وذلك يقتضي الاكتفاء بهما ولا شك في ذلك ، كما أنهما لو علما المماثلة لا يشترط إخبار غيرهما ، وإنما الكلام ههنا لو خرص أحدهما ولم يخرص الآخر ، وقال ابن الرفعة : فيه احتمال يتخرج على ما لو أذن من عليه التسليم بالكيل إلى مستحقه في كيله لنفسه هل يصح أم لا ؟ قال : وفي ظني أنه مر فيه كلام يلتف على اتحاد القابض والمقبض ; لأن الكيل أحد أركان القبض ، صار بكيله مقبضا وقابضا ، وأما الخرص ههنا فهو إخبار محض ، كما لو أخبر بمساواة هذه الصبرة لصبرته ، أو الدينار لديناره قد تقدم أنه يصح ، لكن تقدم في القبض بناء على ذلك من غير كيل أو وزن [ ص: 390 ] كلام ، وأن الراجح أنه لا يكفي ، حتى لو تفرقا قبل الكيل بطل العقد ، وههنا لا يتأتى قبض الرطب هنا إلا بالتخلية ، ولا يشترط فيه الكيل ، فظهر أن الخارص يكفي أن يكون واحدا ، وأنه يجوز أن يكون أحد المتعاقدين . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية