صفحة جزء
[ ص: 392 ] قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ولا يجوز بيع نيئه بمطبوخه لأن النار تعقد أجزاءه وتسخنه . فإن بيع كيلا لم يجز ; لأنهما لا يتساويان في الكيل في حال الادخار . وإن بيع وزنا لم يجز ; لأن أصله الكيل فلا يجوز بيعه وزنا . ولا يجوز بيع مطبوخه بمطبوخه ; لأن النار قد تعقد من أجزاء أحدهما أكثر من الآخر فيجهل التساوي )


( الشرح ) فيه مسألتان : ( إحداهما ) أن ما حرم فيه الربا لا يجوز بيع الجنس الواحد نيئه بمطبوخه قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر والأم : لا يجوز من الجنس الواحد مطبوخا بنيء منه بحال . قال في المختصر : إذا كان إنما يدخر مطبوخا . وقال في الأم : لأنه إذا كان إنما يدخر مطبوخا فأعطيت منه نيئا بمطبوخ فالنيء إذا طبخ ينقص فيدخل فيه النقصان في النيء . ومن أمثلة ذلك أن يبيع العنب أو العصير بالدبس المتخذ منه . وكذلك التمر بالدبس المتخذ منه لا يجوز . قاله الصيمري والقاضي حسين . واتفق الأصحاب على أن النيء أو القديد بالمطبوخ أو بالمشوي لا يجوز . ولا فرق بين أن يكون المطبوخ مما يدخر أو مما لا يدخر .

( وأما ) قوله في المختصر : إذا كان إنما يدخر مطبوخا قال القاضي حسين : إنه خطأ في النقل ، بل لا يختلف الحكم فيه ، وقال القاضي الروياني قبل عبارة الشافعي : ولا يجوز من الجنس الواحد مطبوخا منه بنيء بحال ، ولا مطبوخ طبخ ليدخر مطبوخا ، فنقل المزني هذا وقدم بعض الكلام وأخر بعضه ، وعطف على المسألة الأولى ، وقيل : معنى ما نقل المزني وإن كان إنما يدخر مطبوخا وهو قول ابن داود وقصد به بيان أن هذا ليس بعذر .

( قلت ) : وقد علمت أن ما نقله المزني موجود مثله في الأم في تعليل الشافعي . فالوجه تأويل ذلك وعدم حمله على الخطأ من المزني ، وتأويله عسر ، بل هو قوي الدلالة على أن ما يدخر في حال كونه نيئا وفي حال كونه مطبوخا ، يجوز بيع النيء منه بالمطبوخ ، والتأويل الذي نقله الروياني هو أقرب ما يتمحل مع تكلف . قال أبو حنيفة رضي الله عنه بجواز ذلك على أصله في بيع الرطب بالتمر ، ولذلك - والله أعلم - عدل المصنف عن قياسه [ ص: 393 ] على الرطب بالتمر ; لأن الخصم يمنع الحكم فيه إلى ما ذكره ، والشيخ أبو حامد قاسه على الحنطة بدقيقها ، والجامع أنهما على صفة يتفاضلان حالة الادخار .

ومن جملة أمثلة هذه المسألة بيع الدبس المتخذ من العنب بخل العنب ، وهو ممتنع ، قال : وحكى في التتمة والبحر وجها أنه يجوز بيع الدبس بالخل ; لأنهما اختلفا في الاسم والصورة والطبع ، قال المتولي : وعلى هذا لا تعتبر المماثلة بينهما . وهذا الذي حكيناه موافق للوجه الذي سيأتي عن حكاية الشيخ أبي محمد في أن عصير العنب وخله جنسان ، مال إليه الإمام هناك ، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله تعالى .

( المسألة الثانية ) بيع مطبوخه بمطبوخه ، وقد نص عليه الشافعي أيضا في المختصر ، قال تلو الكلام المتقدم : ولا مطبوخا منه بمطبوخ ; لأن النار تنقص من بعض أكثر مما تنقص من بعض ، وليس له غاية ينتهي إليها ، كما يكون للتمر في اليبس غاية ينتهي إليها . وقال : معنى ذلك في الأدلة في باب ما يجامع التمر وما يخالفه ، مقصوده بذلك الفرق بين ذلك وبين التمر ، حيث يجوز بيع بعضه ببعض وإن كانت الشمس قد أخذت من أحدهما أو منهما ، فربما يكون أخذها من أحدهما أكثر من أخذها من الآخر ، لكن له غاية في اليبس ينتهي إليها ، والمطبوخ بخلافه ، وذكر الأصحاب فرقا آخر بين العصير المطبوخ وبين التمر ، فإن التمر قبل أن يصير تمرا لا يجوز بيع بعضه ببعض ، والرطب أو الدبس مثلا يجوز بيعه قبل هذه الحالة في كونه عصيرا ، فجرت حالة العصير بعد الطبخ لحالة التمر وهو رطب ، فلا يجوز الدبس بالدبس .

قال القاضي حسين : وإن طبخا في قدر واحد . وممن جزم بهاتين المسألتين كما ذكره المصنف الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والقاضي حسين وآخرون ، وفي معنى الدبس عصير قصب السكر إذا عقد وصار عسلا ، وكذلك ماء الرطب وعصير الرمان والسفرجل والتفاح .

( فرع ) قال ابن أبي الدم : بيع الطلى بالدبس لا يجوز ، والطلاء أرق من الدبس ، وبيع الطلى بمثله فيه وجهان ، وبيع الخل بالدبس فيه وجهان ، وبيع العصير بالخل ولا ماء فيهما فيه وجهان ، قال الماوردي : ولا [ ص: 394 ] يجوز بيع الزيت المطبوخ بالنيء ، ولا بالمطبوخ ، ويجوز بيعه بالمشوي والنيء والمطبوخ ، وكذلك لا يجوز بيع المشوي بالمشوي ، وممن صرح به القاضي أبو الطيب والغزالي والرافعي وجزموا به ، ولا يجوز بيع الناطف بالناطف ، ولا الحنطة المقلية بالحنطة المقلية ، ولا بغير المقلية ، لتغيرها عن هيئتها واختلاف الحبات في اليابس بالنار ، وكذلك لا يجوز بيع الحنطة المطبوخة بالمطبوخة ، والمشوية بالمشوية ، والمقلية بالمبلولة ، والمبلولة بالمشوية . وأما بيع المبلولة بالمبلولة فإنه يمتنع ، لكنه ليس على مسائل هذا الفصل ، وقد تقدم في بيع الرطب بالرطب ، صرح بجميع الأمثلة القاضي حسين وغيره .

وأكثر مسائل هذا الفصل لا خلاف فيها على ما يقتضيه إطلاق أكثر الأصحاب إلا الدبس ، ففيه ثلاثة أوجه : ( أحدها ) وهو المشهور الذي ادعى الإمام اتفاق الأصحاب عليه أنه لا يجوز مطلقا وإن طبخا في قدر واحد على ما صرح به القاضي حسين . ( والثاني ) حكاه القاضي حسين أنه إن طبخا في قدر واحد جاز ، وأبطله القاضي بأن ما في أسفل القدر أسخن مما في أعلاه ، لكثرة مماسة النار . ( والوجه الثالث ) حكاه الرافعي الجواز ، وكلامه يقتضي أنه مطلقا لإمكان ادخاره ، والذي عليه التعويل في تعليل المنع مطلقا أن العصير كامل ، وإذا نظرنا إلى مقدار من الدبس مقابلة مثله فلا يدرى كم في أحدهما من أجزاء العصير ، وكم في الدبس منه ، فكان كالدقيق بالدقيق نظرا إلى توقع تفاوت في كمال سبق الحب ، قال : ولو قيل : قد يخالف مكيال من الدبس مكيلا في الوزن لتفاوت في التعقيد لكان كذلك ، لكن لا معول عليه ، فإن المعقد يباع وزنا بالتعويل على ما قدمته من ملاحظة كمال العصير لإمكان ادخاره ، ولتأثير مأخذ بعض العصير ليصير دبسا ، وقدر المأخوذ يختلف ، ومن فروع ما دخلته النار الحنطة المقلوة بمثلها ، وبالنيئة وبالزيت المغلي بمثله وبالنيء كل ذلك لا يجوز .

التالي السابق


الخدمات العلمية