صفحة جزء
[ ص: 395 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى : ( واختلف أصحابنا في بيع العسل المصفى بالنار بعضه ببعض ، فمنهم من قال : لا يجوز ; لأن النار تعقد أجزاءه فلا يعلم تساويهما ، ومنهم من قال : يجوز ، وهو المذهب ; لأن نار التصفية نار لينة لا تعقد الأجزاء إنما تميزه من الشمع ، فصار كالعسل المصفى بالشمس ) .


( الشرح ) العسل إذا أطلقه فالمراد به عسل النحل لا غير ، فكل ما يتخذ من تمر أو قصب أو حب جنس آخر يجوز بيعه بعسل النحل متماثلا ومتفاضلا ، قال ابن سيده : العسل لعاب النحل يذكر ويؤنث ، الواحدة عسلة ، وجمعه أعسال وعسل وعسول وعسلان إذا أردت أنواعه ، قال الشافعي رحمه الله - في المختصر تلو الكلام السابق : ولا يباع عسل نحل بعسل نحل إلا مصفيين من الشمع ; لأنهما لو بيعا وزنا وفي أحدهما شمع وهو غير العسل كان العسل بالعسل غير معلوم ، وكذلك لو بيعا كيلا . وكذلك ذكر في الأم ، وقال : وكذلك لو باعه وفي كل واحد منهما شمع ، وقال الشافعي في الأم : فعسل النحل المنفرد بالاسم دون ما سواه من الحلو ، وقال : فلا بأس بالعسل بعصير قصب السكر ، منه لا يسمى عسلا إلا على ما وصفت ، يعني من جهة كونه حلوا كالعسل ، وكذلك قال الشيخ أبو حامد في عسل الطبرزد .

وقال : وهو ما يبقى من السكر ثخينا كالعكر فيجوز بيعه بعسل النحل متفاضلا ، وقال القاضي أبو الطيب عسل الطبرزد أن يطبخ السكر ثم يطرح في إجانة فإذا جمد أميلت الإجانة على جانبها ، فخرج منها العسل ، فيجوز بيعه بعسل النحل متفاضلا ، ولا يجوز بيع عسل الطبرزد بعسل القصب متفاضلا ; لأنهما جنس واحد ، وهل يجوز متماثلا ؟ فيه وجهان لأجل الطبخ ، كما في السكر بالسكر حكاهما القاضي أبو الطيب وغيره ، ووجه الجواز أن ناره خفيفة .

وحمل القول في بيع عسل النحل بعضه ببعض أنه إما أن يباع بشمعه أو لا ، فإن بيع بشمعه فلا يجوز بمثله ولا بالصافي ، وقد تقدم ذلك في قاعدة ( مد عجوة ) وتقدم الفرق بينه وبين اللحم وفيه العظم ، وبين التمر وفيه النوى من وجهين : أن بقاء ذلك من مصلحته بخلاف الشمع . و ( الثاني ) أن الشمع له قيمة ، وأن بيع العسل المصفى بمثله ، فإما أن تكون التصفية [ ص: 396 ] بالشمس أو بالنار ، فإن صفي بالشمس فإن ترك فيها حتى ذاب وتميز الشمع من العسل جاز بيع بعضه ببعض ، قاله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والمحاملي وغيرهم ، ولا خلاف في ذلك ، وإن صفي بالنار فإما أن تكون النار كثيرة بحيث تأخذ منه وينعقد بها ، وإما أن تكون خفيفة بحيث يحميه بها ويصفيه من غير كثرة ، فإن كانت كثيرة أو ترك حتى انعقدت أجزاؤه وثخن لم يجز بيع بعضه ببعض كما تقدم في الدبس والزيت وشبههما ، وإن كانت خفيفة بحيث أذيب وأخذ أول ما ذاب قبل أن تنعقد أجزاؤه - جزم الشيخ أبو حامد والمحاملي والجرجاني بالجواز : هذه طريقة الشيخ أبي حامد وتبعه المحاملي والجرجاني عليها ، وأما القاضي أبو الطيب فإنه قال : إن صفي بالنار اختلف أصحابنا فيه كما قال المصنف سواء حكما وتعليلا وأطلق القول في ذلك ، وكذلك الماوردي والبغوي والرافعي .

وقال القاضي حسين : إن قول المنع مخرج من قول الشافعي : لا يجوز السلم في العسل المصفى بالنار ، ورد القاضي ذلك بأن السلم امتنع ; لأنه تعيب بدخول النار فيه ، والسلم في المعيب لا يجوز ، وكذلك الفوراني رد ذلك بمثل ما قال القاضي حسين ، ( وأظهر ) الوجهين عند الرافعي الجواز ، ونسبه الماوردي إلى سائر أصحابنا وهو الأصح عند ابن الصباغ والقاضي حسين .

( وقال ) الروياني : إنه المذهب ; لأن المقصود من عصره تميز الشمع عنه ، ونار التمييز لينة لا تؤثر في التعقيد ، فأشبه المصفى بالشمس ، وممن صحح الجواز ابن أبي عصرون وصاحب التتمة ، وهو الذي يقتضيه كلام الفوراني ، فإنه أطلق الجواز ، ثم ذكر عن بعض الأصحاب أنه فصل بين المصفى بالشمس والمصفى بالنار قال : وهذا ليس بشيء ، كما رجحه الفوراني وحكاهما : الوجهان اللذان في الكتاب ، ويشبه أن يكون هذان الوجهان منزلين على ما ذكره الشيخ أبو حامد من التفصيل . ويكون ذلك تحقيق مناط ، هل حصل نقص أو لا ؟ والله أعلم .

وفرق الماوردي بين العسل والزيت المغلي - حيث لا يجوز بيع الزيت المغلي بعضه ببعض - بأن النار دخلت في العسل بالصلاح وتمييزه من شمعه فلم تأخذ [ ص: 397 ] من أجزاء العسل شيئا ، وكذلك السمن ، وإنما تأخذ النار فيما يدخل فيه الانعقاد واجتماع أجزائه ، قال : حتى لو أن العسل المصفى أغلي بالنار لم يجز بيع بعضه ببعض ; لأن النار إذن لم تميزه من غيره .

( واعلم ) أن المصنف تكلم أولا في المعروض على النار عرض عقد وطبخ كاللحم والدبس ، وما أشبه ذلك ، وقد تقدم شرحه ، وهذا القسم في المعروض على النار للتمييز والتصفية ، وذكر من أمثلة ذلك ما هو مختلف فيه ، وهو العسل الذي غاب شوبه وبقي السكر ، وسيأتي ، وقد يكون منه ما لا خلاف فيه ، فلم يتعرض المصنف له كالذهب والفضة يعرضان على النار لتمييز الغش ولا خلاف في جواز بيع بعضها ببعض ، وقال ابن الرفعة الذهب والفضة إذا دخلا النار لا يمتنع بيع بعضهما ببعض ; لأنها لا تؤثر في حرمتها ، نعم لو خالطهما غش فأدخلا النار لتخلصه ، فقد يقال بامتناع بيع البعض بالبعض ; لأنها قد تؤثر في إخراجه في أحدهما أكثر مما تؤثر في الآخر ، وقد يقال بأنه يجوز ; لأن لأهل الصناعة في ذلك خبرة لا تحرقه ، ولا تغلبهم النار عليها بخلافها في السكر ونحوه .

( قلت ) : وإطلاق الأصحاب يقتضي الجواز وإن لم يفصلوا هذا التفصيل بل في تصريحهم بالعرض لتميز الغش ما يدل لما قاله من النظر . والله أعلم .

وتقييد المصنف المصفى بالنار وقياسه على المصفى بالشمس يدل على أن المصفى بالشمس يجوز بيع بعضه ببعض ، والأمر كذلك بلا خلاف ، قال الإمام : فإن قيل : إذا صفي العسل بشمس الحجاز فقد يكون أثر الشمس في تلك البلاد بالغا مبلغ النار ، فإنا نرى شرائح اللحم تعرض على رمضاء الحجارة فتنش نشيشا على الجمر ، قلنا : هذا فيه احتمال ، ( والأظهر ) جواز البيع ، وأن أثر الشمس فيما أظن لا يتفاوت ، وإنما يتفاوت أثر النار لاضطرامها وقوتها وبعدها من المرجل ، والتعويل على تفاوت الأثر ، بدليل أنه لو أغلى ما على النار أو خل ثقيف لم يمتنع بيع بعضها ببعض ، فإن النار لا تؤثر [ ص: 398 ] في هذه الأجناس بتعقيد حتى يعرض فيها التفاوت فيزيل بعض الأجزاء ويبقى الباقي على استواء ، وقد قال ابن الرفعة في الكفاية : ذهب بعض أصحابنا إلى أنه إن صفي بها يعني الشمس في البلاد المعتدلة الحر لا يجوز بيعه بما صفي بها في البلاد الشديدة الحر ، قال : محكي وليس بشيء .

( فرع ) إن منعنا بيع المصفى بالنار بمثله فلا شك أنه يمتنع بيعه بغيره من أنواع العسل ، وممن صرح به الجرجاني ; لأن النار إذا عقدت أجزاء أحدهما أدى إلى التفاضل ، أما إذا قلنا بجواز بيع العسل المصفى بالنار بمثله فهل يجوز بيعه بالمصفى بالشمس ؟ : قال ابن الرفعة : فيه نظر ; لأن النار قد يتقارب تفاوتها ويتباعد ما بينه وبين الشمس . ( قلت : ) والذي يظهر الجواز ; لأنا إنما نجوزه بناء على أن النار لطيفة تميز ولا تعقد الأجزاء وإذا كان كذلك فلا أثر لها في التماثل ، فلا فرق بين ذلك وبين المصفى بالشمس .

( التفريع ) حيث قلنا بجواز بيع العسل بالعسل ، إما أن يكون مصفى بالشمس ، وإما بالنار اللطيفة على الصحيح فيما تعتبر المماثلة فيه ، قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الصرف : والعسل بالعسل كيلا بكيل إن كان يباع كيلا ، أو وزنا بوزن إن كان يباع وزنا ، وقال في موضع آخر : العسل والسمن والسكر الوزن فيهما أحوط ، فالظاهر في هذا أنه موزون وعده في الرسالة في باب الاجتهاد مع الزيت والسمن والسكر من الموزونات ، فلذلك قال أبو الطيب : إنه المنصوص عليه ، وقد تقدم في أول الكلام قوله في المختصر ; لأنهما لو بيعا وزنا إلى آخره .

وقال أبو إسحاق : لا يباع إلا كيلا بكيل ، وقد تقدم التعرض لشيء من ذلك ، وقال الرافعي : هو كالسمن ، والأمر كما قال وهما جميعا موزونان خلافا لأبي إسحاق كما تقدم ، وقد حمل الروياني قول الشافعي المذكور في الصرف على التوقف فيه ، قال : وقيل : أراد الشافعي بقوله : أنهما لو بيعا وزنا إذا انعقد ببرد الهواء وغلظ لا يمكن كيله ، فيباع حينئذ وزنا ، فأما إذا أمكن كيله فلا يباع إلا كيلا ، قال : وهو قريب من قول أبي إسحاق . ( والمذهب ) المنصوص ما تقدم .

[ ص: 399 ] واعترض الأصحاب على المزني في قوله : لأنهما لو بيعا وزنا وفي أحدهما شمع ، وهو غير العسل ، كان العسل تارة غير معلوم ، قالوا : لأنه والحالة هذه معلوم المفاضلة ، فلا معنى لقوله : غير معلوم .

وإنما يستقيم هذا التعليل في الشهد بالشهد ; لأنهما بما فيهما من الشمع غير معلومي المماثلة ، قالوا : والشافعي ذكر هذا التعليل هناك فاشتبهت إحدى المسألتين بالأخرى .

وذكر الروياني أيضا أن قوله في المختصر يدل على تصحيح أحد الوجوه فيما لم يعلم معياره ، يعني الوجه القائل بالتخير ، وقد تقدم . وقال ابن داود لما ذكر كلام الشافعي : فيه كالدليل على أنه يجوز كيلا تارة ، ووزنا أخرى ، قال : وهذا غريب قلما يوجد له نظير . ( قلت : ) وليس الأمر كما زعم بل المراد التوقف كما تقدم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فرع ) قال صاحب التهذيب : عسل الرطب وهو رب يسيل منه يجوز بيع بعضه ببعض متساويين في الكيل ، ويجوز بيعه بعسل النحل متفاضلا ، وجزافا ، يدا بيد ; لأنهما جنسان مختلفان كما يجوز بيع العسل بالدبس .

التالي السابق


الخدمات العلمية