صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلبن شاة ، لأن اللبن يدخل في البيع ، ويقابله قسط من الثمن ، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في مقابلة لبن المصراة صاعا من تمر ، ولأن اللبن في الضرع كاللبن في الإناء ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : { لا يحلبن أحدكم شاة غيره بغير إذنه ، أيحب أحدكم أن تؤتى خزانته فينتثل ما فيها ؟ } فجعل اللبن كالمال في الخزانة ، فصار كما لو باع لبنا وشاة بلبن ) .


( الشرح ) الحديث المذكور الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في مقابلة لبن المصراة صاعا من تمر لم أجده بهذا اللفظ صريحا ، ولكنه يشير به إلى الحديث المشهور الذي سنذكره إن شاء الله تعالى في باب بيع المصراة وهو متفق عليه ، وله ألفاظ ورد بها أقربها إلى المعنى الذي ذكره المصنف هنا قوله صلى الله عليه وسلم : { فإن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر } رواه البخاري ، وهو يفيد مقصود المصنف فإن [ ص: 436 ] قوله ( في حلبتها ) ظاهر في مقابلة اللبن ، والحديث الآخر حديث صحيح أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا يحلبن أحد ماشية امرئ إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته ، فينتثل طعامه ؟ فإنما يخزن لهم ضروع مواشيهم لطعامهم ، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه } . وقوله ينتثل أي يستخرج وهو . بياء مثناة من تحت مضمومة ثم نون ساكنة ثم تاء مثناة من فوق ثم ثاء مثلثة مفتوحتين . يقال : نثل ما في كنانته إذا صبها ونثرها . وقد ننثل البئر نثلا وانتثلتها إذا استخرجت ترابها ، وروي ينتقل بالقاف بدل التاء المثلثة أي يذهب وينقل عن الضرع ، والرواية الأولى أكثر ، وأشهر وهي التي فسرها أهل الغريب والمشربة بضم الراء وفتحها الغرفة وجمعها مشارب ، وقول المصنف : شاة أحدكم أن لفظ الشاة لم أجده في شيء من الروايات .

أما حكم المسألة نص عليه الشافعي رضي الله عنه قال في المختصر والأم . ولا خير في شاة فيها لبن يقدر على حلبه بلبن من قبل أن في الشاة لبنا لا أدري كم حصته من الثمن الذي اشتريته به نقدا ؟ وإن كان نسيئة فهو أفسد للبيع ، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للبن التصرية بدلا ، وإنما اللبن في الضرع كالجوز واللوز المبيع في قشره ، يستخرجه صاحبه إذا شاء . وليس كالولد لا يقدر على استخراجه ، هذا لفظ المختصر . وقال في الأم . ولا بأس بلبن شاة يدا بيد ، ونسيئة ، إذا كان أحدهما نقدا ، والدين منهما موصوف في الذمة ، وصرح في مواضع من الأم بجواز ذلك نقدا ونسيئا ثم قال : فإن قال قائل : كيف اخترت لبن الشاة بالشاة في ضرعها لبن ، فيقال : إن الشاة نفسها لا ربا فيها ، إنما تؤكل بعد الذبح أو السلخ أو الطبخ أو الشاة نفسها لا ربا فيها ، إنما تؤكل بعد الذبح أو السلخ أو الطبخ أو التجفيف فلا تنسب الغنم إلى أن تكون مأكولة إنما تنسب إلى أنها حيوان ، وقد اتفق الأصحاب على هذين الحكمين وأن بيع الشاة التي في ضرعها لبن بلبن [ ص: 437 ] شاة باطل كما قرره الشافعي رضي الله عنه من أن اللبن الذي في الضرع يقابله قسط من الثمن . قال القاضي أبو الطيب : قولا واحدا وإن كان في الحمل قولان بدليل خبر المصراة ولولا أن اللبن يتقسط عليه الثمن لما ألزمه رد بدله كما لو اشترى نخلة فأثمرت في يده ، أو شاة فحملت وولدت ثم ردها ، ولأن ما في الضرع مثل ما في الخزانة بدليل الحديث الذي ذكره المصنف . وهذا الذي ذكرناه من أن اللبن يقابله قسط من الثمن هو المنصوص المشهور الذي قطع به الأصحاب هاهنا . وسيأتي في باب المصراة ذكر وجه فيه ، والكلام عليه هناك ، ومع هذا فلا خلاف في امتناع بيع الشاة اللبون باللبن والله أعلم .

قال الأصحاب : فوجب أنه لا يصح بيع شاة في ضرعها لبن أصلا ، لأن اللبن مجهول كما لو ضم إلى الشاة لبنا مغطى ، فالجواب أنه إن لم يجز البيع هناك لأن كلا من الشاة واللبن المضموم إليها مقصود بالبيع ، واللبن في الضرع تابع ، وإن كان له قسط من الثمن بدليل دخوله إذا أطلق البيع في الشاة ، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره ، ولذلك صح بيعه كأساس الحائط ورءوس الجذوع وطي البئر ونحو ذلك ، ولا يلزم من جعله تابعا في انتفاء الغرر أن يكون تابعا في انتفاء الربا ، كالثمرة قبل بدو الصلاح إذا بيعت مع أصلها تابعة من غير شرط القطع جاز ، ولو باع نخلة مثمرة بتمر لم يصح ، فكان ربا ، فتبعت في انتفاء الغرر ولم تتبع في انتفاء الربا . قال القاضي حسين : ولأن اللبن مما يجري فيه الربا ، وإن كان متصلا بالحيوان ولا يشبه الحمل لأن الحمل لا يمكن استخراجه متى شاء ، والفرق بين اللبن والحمل على أحد القولين القائل بأنه ليس له قسط من الثمن أن اللبن مقدور على تناوله بخلاف الحمل ، فأشبه الجوز واللوز في قشره ، وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه بيع الشاة ذات اللبن باللبن . قال الشيخ أبو حامد وأبو الطيب والمحاملي : وهكذا الحكم إذا ذبحت هذه الشاة التي فيها لبن ثم بيعت بلبن ، وهو أفسد ، لأنه بيع لحم ولبن بلبن ، ولو باع الشاة التي في ضرعها لبن بلبن إبل ونحوه من غير لبن الغنم .

( فإن قلنا : ) إن [ ص: 438 ] الألبان صنف واحد لم يجز ( وإن قلنا : ) أصناف جاز ، قال الشيخ أبو حامد وأبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم : فعلى هذا الصحيح : الجواز ، لأن الصحيح أنها أجناس ، ولم يذكر الصيمري في شرح الكفاية غيره ، ولذلك احترز المصنف في قوله : بلبن الشاة ، فإنه إذا باع الشاة التي في ضرعها لبن من غير جنسها وقلنا : إن الألبان أجناس قال المحاملي : فيكون بمنزلة أن يبيع طعاما ربويا بشعير ، فيصح البيع ، يعني على الأصح في الجمع بين مختلفي الحكم ، وكذلك قال الرافعي : فيه قولا الجمع بين مختلفي الحكم ، وهو في ذلك تابع القاضي حسين وصاحب التهذيب ، فإن ما يقابل اللبن باللبن يشترط فيه التقابض ، وما يقابله من الحيوان لا يشترط فيه التقابض .

( قلت ) وفي التحريم كما تقدم نظر في بيع خل التمر بخل الزبيب وفي بيع الدراهم المغشوشة بعضها ببعض ; لأنه يمتنع إفراد كل واحد بحكمه إذ اللبن الذي في الضرع لا يمكن تسليمه وحده فلو نزل العقد عليه منزلة عقد مستقل لاقتضى البطلان والله أعلم ; ولأجل ذلك والله أعلم أطلق الماوردي القول بأنا إذا قلنا : الألبان أجناس صح العقد ( والحكم الثاني ) إذا باع شاة غير ذات لبن ، قال الشيخ أبو حامد : بأن لا تكون ولدت قط جاز البيع ، اتفق عليه الأصحاب أيضا تبعا للشافعي رضي الله عنه نقدا ونسيئة ، والتفرق قبل القبض ، قال الشيخ أبو حامد وأبو الطيب : ونص الشافعي رضي الله عنه في حرملة في التي لها لبن قد حلب ولم يستخلف بعد شيء منه فباعها بلبن شاة يجوز ، وهذا ; لأنه لم يكن هناك لبن يجتمع ، والقليل الذي ينز لا تأثير له ، واتفق الأصحاب أيضا على هذا الحكم ، وممن جزم به القاضي حسين والبغوي والرافعي ، وصرح الإمام بالصحة في اللبون إذا لم يكن في ضرعها لبن وقت البيع ، أو كان نزرا لا يقصد حلب مثله لقلته .

قال : فإن مثله ليس مقصودا ، والحيوان مخالف لجنس اللبن ، فليلتحق ببيع المخيض بالزبد مع النظر إلى الرغوة ، وشبهه بعضهم بالدار [ إذا ] ذهبت ، واستهلك الذهب إذا بيعت بدار مثلها أو بالذهب يجوز ، قال الشيخ أبو حامد [ ص: 439 ] وأبو الطيب والمحاملي فإن ذبحت هذه الشاة وسلخت وبيعت باللبن صح البيع ; لأنه لحم لا شيء معه بلبن ، ويشترط التقابض ، ونقله القاضي أبو الطيب عن نصه في الصرف ، وقد أغرب الجيلي فحكى فيما نقله ابن الرفعة عنه وجها أنه يجوز بيع اللبن بشاة في ضرعها لبن ، وهذا غريب جدا شاذ لا معول عليه ، قال ابن الرفعة : ويمكن أن يكون مأخذه ما حكاه الغزالي في المصراة أن اللبن في الضرع لا يقابله قسط من الثمن على رأي .

( فرع ) كما لا يجوز بيع الشاة التي فيها لبن بلبن ، كذلك لا يجوز بالزبد ، ولا بالسمن ، ولا بالمصل ، ولا بالأقط ، كما لا يجوز اللبن بشيء من ذلك ، صرح به الماوردي .

( فرع ) قال محمد بن عبد الرحمن الحضرمي في كتاب الإكمال لما وقع في التنبيه من الإشكال والإجمال قال الشافعي رحمه الله : ولو باع أمة ذات لبن بلبن آدمية جاز ، بخلاف شاة في ضرعها لبن بلبن شاة ، والفرق بينهما أن لبن الشاة في الشرع له حكم العين ، فلهذا لا يجوز عندنا الإجارة عليه ، ولبن الآدمية ليس له حكم العين بل هو كالمنفعة ، ولهذا حررنا عقد الإجارة عليه ( قلت : ) وهذا النقل غريب والتعليل حسن ، وفيه نظر ، وقد تقدم حكاية خلاف في أن لبن الآدمية هل يكون من جنس الألبان ؟ ( إذا قلنا ) بأن الألبان جنس واحد أم لا ، ولا يرد ذلك هنا ; لأن الكلام هناك إذا كان منفصلا فإنه يثبت له حكم الأعيان ، وهنا الألبان في الثدي هو الذي ادعى أنه ليس له حكم العين ، بل حكم المنفعة فلذلك قال : يصح ; لأنه لم يضم إلى الجارية عينا أخرى . ولم أجد هذا الفرع إلا في الكتاب ، فلا أدري هل الفرق من كلامه ؟ أو من كلام الشافعي ؟ ويعضده المذهب المشهور في أن الجارية المصراة لا يراد معها بدل اللبن ، وفيه وجه أنه يرد فعلى قياس ذلك الوجه قد يقال : ينبغي أن يقال هنا بامتناعها بلبن آدمي ، ; لأنه سلك به مسلك العين ، وإن باعها بلبن [ ص: 440 ] شاة أو بقرة فعلى المذهب المشهور ، وما نقله الحضرمي عن النص يكون الجواز من طريق الأولى ، وعلى الوجه الذي حكيناه في التصرية ينبغي أن يتخرج على أن الألبان أجناس أو لا ؟ ( فإن جعلناها ) أجناسا جاز ( وإن جعلناها ) جنسا فيتخرج على خلاف تقدم في أن لبن الآدمي من جملتها أم لا ؟ ( فإن قلنا : ) لا ، جاز ( وإن قلنا : ) من جنسها فقياس ذلك الوجه المنع . ( وأما ) التمسك بجواز الإجارة عليه في كونه يسلك به مسلك المنافع ففيه وفي تسويغ الإجارة عليه في باب الإجارة فالاستدلال بالحكم الثابت في التصرية أولى ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية