صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز بيع بيض الدجاج بدجاجة في جوفها بيض ; لأنه جنس فيه ربا بيع بما فيه مثله ، فلم يجز كبيع اللحم بالحيوان ) .


( الشرح ) الحكم المذكور جزم به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والروياني ونقلوه عن الأصحاب وقالوا : إنه لا يجوز قولا واحدا ومن المعلوم أن ذلك مفرع على القول الجديد ، وأن الربا يجري في البيض ، قال [ ص: 486 ] الماوردي : إن المسألة على قولين مخرجين من اختلاف قوليه في الحمل ، هل يكون تبعا أو يأخذ قسطا من الثمن ؟ ; لأن البيض كالحمل ( فإن قيل ) إن الحمل تبع جاز بيع الدجاجة التي فيها بيض بالبيض ( وإن قلنا ) : إن الحمل يأخذ قسطا من الثمن لم يجز ; لأن بيع البيض بالتبع لا يجوز على قوله الجديد ، وقال الروياني : علل والدي - رحمه الله - القول الأول بأنه كالمستهلك ما دام في جوفها ، وحكى صاحب التتمة أيضا وجهين ; لأن النهي ورد عن اللحم بالحيوان ، وليس هذا داخلا فيه ، قال : ويخالف اللبن ; لأن اللبن يمكن حلبه في الحال ، والبيض لا يمكن ، فلا يقابله بالعوض كالحمل في البطن على أحد القولين ، فوافق الماوردي فيما ذكره إلا في تعبيره عن الخلاف بالوجهين وسوى الرافعي بين بيع البيض بالدجاج وبيع اللبن بالشاة ، وبيع البيض بالدجاج الخالي عن البيض جائز ، وبياض البيض وصفاره جنس واحد ، لا يجوز بيع بعضه ببعض قاله الروياني .

وقول المصنف : بيض الدجاج تنبيه على أن البيض جائز ، وهو الذي قاله الصيمري وجعله كالألبان ، ; لأنه يفارق بائضه حيا ، وقد قال الرافعي : بيض الطيور أجناس إن جعلنا اللحوم أجناسا ، وإن جعلناها جنسا واحدا فهي أجناس أيضا في أصح الوجهين وحكى الماوردي أيضا الخلاف كذلك وجزم بأن بيض الطير ليس صنفا من لحمه ، وحكى الوجهين في أن بيض السمك هل هو نوع من لحم السمك ؟ ; لأنه يؤكل معه حيا وميتا ، وقد تقدم ذلك عند الكلام في أن اللحوم جنس أو أجناس . وتقييد المصنف بقوله في جوفها بيض يفهم أنه إذا لم يكن في جوفها بيض يجوز بيعها ببيض الدجاج ، وهو كقولك : بيع الشاة التي لا لبن فيها باللبن ، وكذلك أطلق الرافعي - رحمه الله - أن بيع البيض بالدجاجة كبيع اللبن بالشاة ، فيفهم من جميع تلك التفاصيل من غير حاجة إلى إعادة مثلها ، وكذلك جزم صاحب التهذيب وصاحب التتمة بجواز بيع البيضة بالدجاج الذي ليس في جوفه بيض ، قال صاحب التهذيب : لأن البيضة لم تكن حية فارقها ، وقصد بذلك الفرق بينها وبين اللحم حيث يمتنع بيعه بالحيوان .

( فرع ) نختم بها باب الربا . الهليلج والبليلج والأملج والسقمونيا [ ص: 487 ] وسائر الأدوية ربوية بلا خلاف على المذهب ; لأنها مطعوم مكيل أو موزون وطعمها لرد الصحة ، كما أن طعم غيرها لحفظ الصحة وفي التتمة حكاية وجه في السقمونيا وكل ما يهلك كثيره ويستعمل قليله والطين الأرمني ربوي على الصحيح خلافا لابن كج ، والخراساني ليس ربويا خلافا للشيخ أبي محمد ، نقله عنه الرافعي ، وحكم السيرافي حكم الخراساني ، قاله المحاملي ، والطفل المصري ليس بربوي ، قاله نصر وغيره .

( فرع ) قال القاضي أبو الطيب في الجواب عن اعتراض المالكية ، وقولهم : إن كل شيء له طعم ، قال : إنا لا نعتبر ، وإنما نعتبر ما يطعم غالبا . والاعتبار في الطعم بما يعدله في حال الاعتدال والرفاهية ، دون سني اللازم والمجاعة ، قاله في مختصر النهاية .

( فرع ) الربا يجري في دار الحرب جريانه في دار الإسلام ، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن ، وعن أبي حنيفة أن الربا في دار الحرب إنما يجري بين المسلمين المهاجرين ، فأما بين الحربيين وبين مسلمين لم يهاجروا أو أحدهما فلا ربا ، وقال : إن الذميين إذا تعاقدا عقد الربا في دار الإسلام فسخ عليهما ، فالاعتبار عنده بالدار وعندنا الاعتبار بالعاقد ، فإذا أربى الذي في بلاد الإسلام مع الذمي لم يفسخ ، كذا قال القفال في شرح التلخيص ، قال : وهكذا سائر البياعات الفاسدة : والله أعلم .

واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بحديث مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب } وبأن أموال أهل الحرب مباحة للمسلم بغير عقد ، فالعقد أولى ، ودليلنا عموم الأدلة المحرمة للربا ، فلأن كل ما كان حراما في دار الإسلام كان حراما في دار الشرك ، كسائر الفواحش والمعاصي ; ولأنه عقد فاسد فلا تستباح به العقود عليه كالنكاح . ( قلت ) وهذا الاستدلال إن كان أبو حنيفة يوافق على فساده في دار الحرب فلا دليل عنده وأما حديث مكحول فمرسل إن صح الإسناد إلى [ ص: 488 ] مكحول ، ثم هو محتمل لأن يكون نهيا ، فيكون المقصود به تحريم الربا بين المسلم والحربي كما بين المسلمين ، واعتضد هذا الاحتمال بالعمومات ، وأما استباحة أموالهم إذا دخل إليهم بأمان فممنوعة ، فكذا بعقد فاسد ، ولو فرض ارتفاع الأمان لم يصح الاستدلال ; لأن الحربي إذا دخل دار الإسلام يستباح ماله بغير عقد ولا يستباح بعقد فاسد ، ثم ليس كل ما استبيح بغير عقد استبيح بعقد فاسد ، كالفروج تستباح بالسبي ، ولا تستباح بالعقد الفاسد . ومما استدلوا به على أنه لا ربا في دار الحرب أن العباس بن عبد المطلب كان مسلما قبل فتح مكة فإن الحجاج بن غلاط لما قدم مكة عند فتح خيبر واجتمع به في القصة الطويلة المشهورة دل كلام العباس على أنه مسلم حينئذ ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح : وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب ، فدخل في ذلك الربا الذي من بعد إسلامه إلى فتح مكة ، فلو كان الربا الذي بين المسلم والحربي موضوعا لكان ربا العباس موضوعا يوم أسلم .

( والجواب ) أن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه فيكفي حمل اللفظ عليه وليس ثم دليل على أنه بعد إسلامه استمر على الربا ولو سلم استمراره عليه ; لأنه قد لا يكون عالما بتحريمه ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ .

( فرع ) جريان الربا فيما ليس بمقدر من المطعومات على القول الجديد اختلف أصحابنا هل ثبت الربا بعلة الأصل ؟ أو بعلة الاشتباه ؟ فمن متقدمي أصحابنا من قال : إنما جعل الشافعي فيه الربا بعلة الاشتباه ; لأنه قال : وإنما حرمنا غير ما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المأكول المكيل والموزون ، ; لأنه في معنى ما سمى فجعل في المكيل والموزون الربا بعد الأصل ، ثم قال بعد هذا : وما خرج من المكيل والموزون من المأكول والمشروب فقياسه على ما يؤكل ويكال أولى من قياسه على ما لا يكال ولا يؤكل ، فجعله ملتحقا بالأصل من حيث الشبه ، وقال آخرون : بل بعلة الأصل وإنما قال الشافعي ما احتج به الأولون ترجيحا للعلة .

[ ص: 489 ] قلت ) وهذا الذي قاله الآخرون هو الحق وهو مراد الشافعي إن شاء الله تعالى ، ومقصوده بذلك بيان أن المأكول الموزون لا يقاس على الذهب والفضة بعلة الوزن ، بل يقاس على المأكول المكيل ، فيكون الوزن ليس بعلة ، وذلك ظاهر لمن تأمله من نصه المذكور في باب الآجال في الصرف ، وقد صرح في باب بيع الطعام بالطعام بأن في معنى ما جاءت به السنة كل مكيل ومشروب بيع عددا ، والله أعلم .

وهذان القولان حكاهما الماوردي ، وقال الروياني : قال الماسرجسي : قال بعض أصحابنا : ما رجع الشافعي رضي الله عنه عن علته في القديم وإنما ألحق المطعومات من المعدودات بها من طريق علية الشبه ، والمسألة على قول واحد ، فأفاد كلام الروياني أن الأولين يقولون بعدم رجوع الشافعي عن علته في القديم ، بل ألحق بها شيئا آخر والله أعلم .

وقد يعتضدون في ذلك بما يقول الشافعي في المختصر عقيب مذهب ابن المسيب ، وهذا صحيح ، والظاهر أن ذلك من الجديد ; لأن المزني لم يذكر في هذا الباب أن فيه شيئا من القديم وقول ابن المسيب يشترط الكيل والوزن ، وقال ابن داود في شرح المختصر مجيبا عن ذلك أن الشافعي رضي الله عنه ما دام يجد زيادة تقريب واجتماع في المعاني بين الأصل والفرع ، قال بذلك وحديث عدم الكيل والوزن قال بعلة الطعم العام إن وجده فإن لم يجده في مثل الأدوية وغيرها قال بالطعم في الجملة على هذا التدريج .

( قلت ) وهذا كلام فاسد ، ولا يلزم عليه التعليل بعلل مختلفة لمن تأمله ، والله أعلم .

ونظيره ما قاله القاضي حسين أن المطعومات المكيلة مقيسة على الأربعة ثم نقيس المطعومات الموزونة على المطعومات المكيلة والموزونات ثم نقيس المطعومات النادرة على المطعومات العامة التي ليست بموزونة ولا مكيلة وإنما رتبنا هذا الترتيب ; لأن الشيء إنما يقاس بالشيء إذا كان بينهما مشابهة كثيرة أو مشابهة بأخص أوصافه إذ القياس تشبيه وتمثيل فنقيس المكيلات غير المنصوص عليه ; لأنها تشبهها في جميع الوجوه ، ثم نقيس عليها الموزونات ; لأنها تشبهها في أن كلا منهما مقدر شرعا ، وعلى هذا القياس [ ص: 490 ] فإن قلت : ) وهذا الكلام الذي نقلتموه على القاضي حسين وغيره يقتضي جواز القياس على الأصل الثابت بالقياس منه المعنى الذي يثبت به ويقاس غيره عليه ، وهل يجوز أن يستنبط ؟ فهل يجوز ذلك وليس ذلك مما نحن فيه ؟ ( قلت : ) قال المصنف في اللمع : إنه لا خلاف أنه يجوز أن يستنبط منه معنى غير المعنى الذي قيس به على غيره ويقاس عليه غيره ، مثل قياس الأرز على البر بعلة الطعم ثم يستنبط من الأرز أنه لا ينقطع الماء عنه فيقاس عليه النيلوفر فيه وجهان ( من أصحابنا ) من قال : يجوز ( ومنهم ) من قال : لا يجوز ، وهو قول أبي الحسن الكرخي ، وقد بصرت في التبصرة جواز ذلك ، والذي يصح عندي أنه لا يجوز ، هذا الذي قاله المصنف وهو الصواب .

وأطلق الإمام أبو علي عبد الله بن الخطيب المنع من غير تفصيل قال : لأن العلة التي يلحق بها الأصل القريب بالأصل البعيد إن كانت هي التي يلحق بها الفرع بالأصل القريب ، أمكن رد الفرع إلى الأصل البعيد ، فيصير القريب لغوا ، وإن كانت غيرها لزم تعليل الأصل القريب بعلتين ( إحداهما ) عديمة الأثر ، وهي التي ليست موجودة في الأصل البعيد ، ويمتنع التعليل سواء جوزنا التعليل بعلتين مستنبطتين أو لا ، وهذا الذي قاله صحيح في القسم الثاني ، ويصلح أن يكون مقويا لما اختاره المصنف من الوجهين ، فأما القسم الأول فهو مثال ما نحن فيه ، وقد نقل المصنف أنه لا خلاف فيه ، وقول أبي عبد الله بن الخطيب : إن ذكر القريب يكون لغوا ممنوع ، بل ذلك لقوة التقارب بينهما الذي هو المقصود في القياس ، فإن ما بين المطعوم النادر الذي لا يكال ولا يوزن وبين المطعوم غالبا المكيل أو الموزون أبعد مما بينه وبين المطعوم العام الذي لا يكال ولا يوزن ، فكان إلحاقه به أولى ، نعم ما قاله ابن الخطيب يقرر في حق المناظر الذي يقصد دفع خصمه بأقرب الطرق ، وما قلناه أقرب إلى طريقة المناظر الذي يقصد تحقيق الأشياء وتقريب المأخذ مما أمكن والله تعالى أعلم .

ثم ليس في كلام الشافعي وابن داود الشارح له ما يقتضي ورود هذا السؤال عليه ، بل مقتضاه أنه ألحق القريب من المنصوص عليه به . ثم [ ص: 491 ] ألحق البعيد بهما لا بالثابت بالقياس وحده . فإن هذه العلل ليست منصوصة ولكنها مستنبطة ، والمستنبط لا يدعي العبور على العلة قطعا ، فإلحاق المطعوم المكيل بالمنصوص عليه لا شك أنه أقوى وأشد شبها ، فيكون الظن الحاصل بثبوت الحكم فيه أتم والمطعوم غير المكيل قار فيه وصف يمكن أن يكون معتبرا وإن كان قد ترجح خلافه ، فكذلك بعد ، نعم لو كانت العلة منصوصة لم يكن لهذا الترتيب معنى بل حيث وجدت العلة المنصوصة ألحق بالمحل المنصوص فيه ، والله عز وجل أعلم .

( فائدة ) قال الروياني ( قيل ) حد ما يجري فيه الربا كل ما يباح تناوله على الإطلاق على هيئة ما يقصد تناوله تغذيا أو ائتداما أو تفكها أو تداويا وإنما اعتبرنا هذه الجهات الأربع ; لأنها تقصد لنفع البدن .

( فرع ) ما يأكله بنو آدم والبهائم جميعا قال الماوردي : الواجب أن يعتبر أغلب حاليه ، فإن كان الأغلب أكل الآدميين ففيه الربا كالشعير ; وإن كان الأغلب أكل البهائم فلا ، قال الروياني : كالرطبة ، وإن استوت حالتاه فقد اختلف فيه أصحابنا على وجهين ( الصحيح ) أن فيه الربا ولا ربا فيما تأكله البهائم كالقرظ والنوى والحشيش .

( فرع ) لا ربا في الريحان والنيلوفر والنرجس والورد والبنفسج ، إلا أن يذوب شيء منها بالسكر أو العسل ، ولا في العود والصندل والكافور والمسك والعنبر ، ولا العصفر والحناء ، ولا في القرطم عند الصيمري ، ولا في آس وإذخر ، والخضراوات التي تؤكل في الربيع ، ويثبت الربا في الأترج والليمون ، والنارنج واللبان ، والعلك والمصطكى وفيه وجه في المجر قال : وهو الأقيس ، واللوز والمر والحبة الخضراء والبلوط والقثاء ، وحب الحنظل والهليلج والبليلج ، قاله الصيمري ، والدخن والجاورس والخردل والشونيز والشهرانج والبطم والزنجبيل المربى ، والسقمونيا ، وجه حكاه الروياني أنها ليست بربوية والطربون والجزر والثوم والبصل والداه والهنسل ، وفي [ ص: 492 ] السقمونيا ونحوه ، وفي ماء الورد والزعفران والقرطم وحب الكتان والصمغ وبزر الجزر ، والبصل والفجل والسلجم والماء والأدهان المطيبة والبرد ودهن السمك وصغار السمك قاله ابن يونس والطين الذي يؤكل تفكها وهو الأرمني . وفي كلام الإمام بعض ميل إلى أن دهن السمك ربوي ; لأنه جزء من السمك مطعوم فيه ، واستشكل قول العراقيين : إنه ليس بربوي مع قولهم : إن دهن البنفسج ربوي ، فلم ينظروا إلى العادة في انصرافه عن الطعم ، قال : وهذا غامض عليهم ، قال : والوجه عندنا تخريج هذا الفرع على الخلاف ، فإنه متردد بين الأصل المأكول وبين الانصراف عن الأصل لغرض العادة ، قال الإمام : إن منعنا بلع السمكة حية فليس السمك مال ربا ، وإن جوزنا بلعها فقد تردد شيخي فيها ، قال الإمام : والوجه القطع بأنه لا ربا فيها ; لأنها لا تعد لهذا ، وفرق صاحب التهذيب بين الصغار والكبار ، فإن الصغار هي التي تبتلع ، فلذلك قصر ابن عبد السلام في الغاية الخلاف عليها ، وجزم في الكبار بأنها ليست بربوية ، وهو مفهوم كلام الإمام .

وجزم صاحب التتمة في السمك الصغير إذا جوزنا ابتلاعه وفي الجراد الحي بجريان الربا فيهما ، قال الروياني : وكذلك جرادة بجرادة يعني فيه وجهان ، قال : ورأيت في الحاوي ما يدل على الوجهين في السمك الكبار أيضا ; لأن حي السمك في حكم ميته ، وفي الزعفران وجهان ( أصحهما ) كما رأيته في الحاوي في القرطم وحب الكتان أنه ربوي ، وكذلك في البذور الأربعة وفي ماء الزنجبيل وجهان في البحر ونقل في البحر عن الحاوي أن الأصح لا ربا في القرطم وحب الكتان وفي الزنجبيل ، قال في البحر : وعندي الأصح في حب الكتان جريان الربا ; لأنه يؤكل عادة وليست كالصمغ وقال في البحر : الأظهر أن الصمغ ربوي . قال الصيمري ، لا ربا في دهن القرطم والقرع والبان والمحلب والآس ; لأن أصولها لا ربا فيها ( قلت ) : أما القرطم فقد تقدم عن الماوردي أن الأصح كونه ربويا ( وأما ) القرع فإنه مأكول ، فالذي ينبغي القطع بأنه [ ص: 493 ] ربوي على الجديد وقد تقدم عده في الربويات عند الكلام على بيع ما لا يدخر يابسه ، وقد جزم الصيمري في موضع آخر بأنه ليس بربوي صريحا وهو مشكل ، وفي الطين الذي يؤكل تفكها تردد للشيخ أبي محمد ، وقال صاحب التقريب : دهن البنفسج ربوي ، وفي دهن الورد وجهان قال الإمام : ولست أفهم الفرق بينهما قال ابن الرفعة : لعله ; لأن دهن البنفسج يترك ضنة بخلاف دهن الورد لا يترك للضنة ، وقد يقال : إن مراده بدهن البنفسج المعلوف الذي يطبق بالسمسم ويعصر ، وبدهن الورد الذي يلقى فيه الورد ويمتزج به ، والحق التسوية .

وقال ابن أبي الدم في شرح الوسيط بعد أن نقل قول الإمام : ولست أفهم الفرق بينهما ، قال : لا يتجه بينهما فرق إلا بالنظر إلى العادة ، فلعل العادة في بعض الأقطار وعرف الناس فيه أن دهن البنفسج يؤكل ، أو يستصلحونه للأكل ثم يتركون أكله ضنة به ، فلهذا كان ربويا عند صاحب التقريب ، والعادة في دهن الورد مضطربة أو ليس مأكولا عند غالب الناس ، فلهذا تردد فيه ، قال ابن أبي الدم : وهذا الخلاف قريب من الخلاف المذكور فيما يحرم على المحرم من استعمال الطيب ، فإنا ذكرنا خلافا في دهن البنفسج ودهن الورد ، ومنهم من رتب الخلاف وفرق بعادة الناس . قال : وذكر الإمام وجهين في اللبان ودهنه ، وقطع العراقيون بأن دهن اللبان ليس بربوي والظاهر ما قالوه .

( فرع ) الوزن عندنا ليس بعلة للربا ، فيجوز عندنا بيع رطل حديد برطلين ، وثوب بثوبين ، ورطل نحاس برطلين ، وحيوان بحيوانين نقدا ونسئا ، ولا يشترط أن يكون بينه وبين المسلم فيه وبين رأس السلم تفاوت على الصحيح من المذهب ، فيجوز أن يسلم ثوبا في ثوب مثله ، قاله في التهذيب .

( فرع ) هل يحرم أكل الطين ؟ قال الروياني : اختلف أصحابنا منهم من قال : يحرم الطين قليله وكثيره ، وهو اختيار مشايخ طبرستان ، الإمام أبي عبد الله الحناطي ، وأبي علي الزجاجي ، والإمامين جدي ووالدي - رحمهم الله - واختاره القفال المروزي ، ومنهم من قال : لا يحرم ولكن يكره ، وهو [ ص: 494 ] اختيار مشايخ خراسان ، وهذا إذا لم يضر لقلته ، فإن كان كثيرا يضر فهو حرام وبه أفتي ، وسمعت الشيخ الحافظ البيهقي بنيسابور يقول : لم يصح نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم قليله ، وهذا هو الصحيح عندي . انتهى كلام الروياني في البحر .

وذكر الأولون حديثا لم أستحسن نقله لنكارته ، ثم بدا لي أن أقوله وأنبه عليه قال : احتجوا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أكل الطين حرام على أمتي } وروي : { إذا أبغض الله عبدا ألهمه أكل الطين ، ونتف اللحية } .

فائدة أربع مسائل خلافية ترجع إلى أصل واحد بيننا وبين أبي حنيفة بيع كف حنطة بكفي حنطة ، وسفرجلة بسفرجلتين ، والجص بالجص متفاضلا ، والحديد بالحديد متفاضلا ، والمسألتان الأوليان ممتنعتان عندنا جائزتان عنده ، والأخريان بالعكس وذلك أن العلة عنده في النقدين قيم الوزن وفي الأربع الكيل ، فيتعدى إلى كل موزون ومكيل ، وعندنا العلة في النقدين كونهما قيم الأشياء غالبا ; فلا يتعدى إلى غيرهما وفي الأربعة الباقية الكيل فتعدت إلى المطعوم دون المكيل والله أعلم .

( فرع ) الشعير في سنبله لا يقدر ، فإذا فرعنا على القديم قال الإمام : الوجه عندي منع بيع بعضه ببعض ، فإنه من جنس ما يقدر ، ولا ينظر إلى حالة هذه ، وليس كالجوز ما دام صحيحا ، وهذا تفريعا على القديم ، وأما على الجديد ، فكل مطعوم وإن كان لا يقدر يمتنع بيع بعضه ببعض عددا ، وهل يجوز وزنا ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) وهو ظاهر المذهب أنه لا يجوز ، وهذان الوجهان هما اللذان ذكرهما الشيخ في التنبيه ( الأصح ) كما قال الإمام : لا يجوز بيع بعضه ببعض ، فلو خيف ففيه خلاف مشهور ، وقد تقدم .

فوائد : قد تقدم عن الإمام النووي رضي الله عنه أن الخلاف في علة الربا على مذاهب ، ويرجع حاصل القول في النقدين والأشياء الأربعة إلى أن العلة في تحريم ربا الفضل في الأشياء الستة ما هو مقصود من كل صنف ، [ ص: 495 ] والأربعة مجتمعة في مقصود الطعم على القول الجديد عندنا ، والنقدان مجتمعان في جوهر النقدية وإنما ذكرنا جوهر النقدية ; لأن التبر ليس نقدا في عينه ، وكذلك الحلي والأواني فإن الربا جار فيها لنصه صلى الله عليه وسلم على الذهب والفضة ، وهو يعم المطبوع وغير المطبوع وعبارة القاضي حسين في ذلك أحسن ، قال : لخصت منها عبارة جامعة للكل وهو أن العلة في النقدين جوهر يطبع منه قيم الأشياء . قال صاحب التتمة : وقد قال طائفة من أصحابي : إن الذهب والفضة ليسا بمعللين ، والربا فيهما لعينهما ، لا لعلة فيهما ، وتعليل الشافعي رضي الله عنه بالثمنية إشارة إلى هذا ; لأن الثمنية لا تعدوهما ، وقد تقدم أن الربا ثلاثة أقسام ، وزاد صاحب التتمة ربا رابعا وهو كل قرض جر نفعا .

( فائدة ) تعلق من قال : إن العلة الوزن في الموزون ، والكيل في المكيل ، بما روي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم { استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب } فذكر الحديث إلى أن قال : وقال في الميزان مثل ذلك ، وفي رواية : { وكذلك التمر إن قالوا : أراد الموزون } ( والجواب ) أن المراد بذلك استواء الوزن في الأشياء التي بين الربا فيها في أحاديث أخر ، وورد في رواية : { وكذلك كل ما يكال أو يوزن } " بسند ضعيف قد تقدم الكلام . ا هـ . وروى الدارقطني من حديث عبادة وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا ، وما كيل فمثل ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به } ولكنه ضعيف ، قال الدارقطني : لم يروه عن أبي بكر عن الربيع هكذا ، وهو ابن صبيح هكذا ، وخالفه جماعة فرووه عن الربيع عن ابن سيرين عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ غير هذا اللفظ والربا بكسر الراء مقصور ، وعن القلعي أنه يفتح ويمد . قال ابن الرفعة : الربا في الشرع أخذ مال مخصوص بغير مال بإزائه ، ولا تقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، ولا إلى الخلق ، قال : فأخرجنا بخصوص ما ليس من أموال الربا بلا تقرب إلى الله تعالى الصدقة ، وإلى الخلق الهدية [ ص: 496 ] والهبة ( قلت : ) وهذا يرد عليه القمار ، بل هذا هو حد القمار ، فإنهم ذكروا الفرق بين القمار وبين البيع أن القمار لا بدل فيه وإنما الحد الصحيح للربا في الشرع ما نقله الروياني في البحر ، وقد كتبته في غير هذا . والجاورس - بالجيم - والسين المهملة الحب الذي يعصر مثل الدخن وهو خير من الدخن في جميع أحواله ، هو ثلاثة أصناف وهو معرب كاورس ، حكى ذلك عن مجمع البحرين الفرغاني .

( فائدة ) اشتهر عن مذهبنا التعليل بالعلة القاصرة ، ومن أمثلتها تعليل تحريم الربا في النقدين بالنقدية ، وقال إمام الحرمين في البرهان : إن كان كلام الشارع نصا لا يقبل التأويل ، فلا يرى للعلة القاصرة وقعا ، ولكن يمتنع عن الحكم بفسادها ، وإنما تقيد إذا كان قول الشارع ظاهرا يتأتى تأويله ، ويمكن تقدير حمله على الكثير مثلا دون القليل فإذا سحبت عليه توافق الظاهر عصمته من التخصيص بعلة أخرى ، لا تنزل مرتبتها عن المستنبطة القاصرة ، ثم فيه ريب وهو أن الظاهر كان متعرضا للتأويل ، ولو أول لخرج بعض المسميات ، ولأزيل الظاهر إلى ما هو نص فيه فالعلة في محل الظاهر كأنها ثابته في مقتضى النص منه ، متعدية إلى ما اللفظ ظاهر فيه ، عاصمة له عن التخصيص والتأويل ، فكان ذلك إفادة وإن لم يكن تعديا حقيقيا ، ولا يتجه غير ذلك في العلة القاصرة . ثم قال : ( فإن قيل : ) قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تبيعوا الورق بالورق } الحديث نص أو ظاهر ، فإن زعمتم أنه نص بطل التعليل بالنقدية ، وإن كان ظاهرا فالأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير فقد صار بقرينة الإجماع نصا ( قلت ) أما الحظ الأصولي فقد وفينا به والأصول لا تصح على الفروع فإن تخلفت مسألة فليمتحن بحقيقة الأصول فإن لم يصح فليطرح . هذا كلام الإمام .

واعترض عليه الأنباري الشارح وقال : إن القاصرة مقيدة مطلقا ، سواء كانت مستنبطة من ظاهر أو من نص ، وقول الإمام يلزم منه أن المتقدمة المقتضية للتخصيص لا تقدم على القاصرة إلا إذا كانت مترقية في الرجحان عن [ ص: 497 ] رتبتها وهذا غير ما يهيأ لأن تكون معارضة للمتعدية والحق أن القاصرة مقيدة مطلقا ، كما أشار إليه الشارح وقد ذكر الأصحاب من الأصوليين والفقهاء من قواعد العلة القاصرة الوقوف على حكمة النص وكون حكمها متعديا إلى غيرها ، وأنه ربما حدث ما يشاركه في المعنى ، فيتعدى الحكم إليه فهذه ثلاث فوائد والذي قاله الإمام في منعها التخصيص في الظاهر فائدة أخرى جليلة لكنا نقول : لا تنحصر الفائدة فيها . ( وقوله : ) إن الأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير فصار كالنص ( يمكن ) أن يقال إن القليل إذا انتهى في القلة إلى حد لا يوزن لا تجمع الأمة عليه ، بل أبو حنيفة يخالف فيه كمخالفته في بيع تمرة بتمرتين ، فيجوز عندهم بيع درة بدرة من الذهب والفضة ، كذا قال الفرغاني في شرح الهداية من كتبهم ، فيمكن استعمال العلة وهي جنس الأثمان في ذلك ، ومنع تخصيص العموم فيه ، وتحصيل الفائدة التي حاولها الإمام وإلا فآخر كلام المذكور في البرهان يشير إلى الامتناع من الحكم بصحة العلة المذكورة لعدم الجريان على القانون الذي مهده ، وهو مع ذلك لا يرى أن يضيف الحكم إلى العلة المتعدية ، وهي الوزن كما يقوله أبو حنيفة رضي الله عنه ; لأن التعليل بالوزن باطل بوجوه تخصه .

( منها ) أنه طرد لا مناسبة فيه ( ومنها ) جواز إسلام الدراهم والدنانير في الموازنات ، فليس بطلان المتعدية هنا بمعارضة القاصرة لها ( وأما ) في غير هذا الموضع فالأستاذ أبو إسحاق يرجح القاصرة على المتعدية لمعارضة النص ، والجمهور يرجحون المتعدية وامتنع آخرون من الترجيح من جهة التعدي والقصور قال الأنباري وهو الصحيح ، وهو اختيار القاضي . وإنما ترجح العلل بقوتها في نفسها ، واضطرب كلام الإمام في الربويات ، فتارة يميل إلى التعبد وإبطال التعليل ، وأخذ الربا في كل المطعومات من قوله : { لا تبيعوا الطعام والطعام } وتارة يميل إلى القياس ، وكلامه في ذلك مضطرب ، وكأنه شوش عليه عدم ظهور فائدة العلة القاصرة في هذا المحل ، وقد أبديناه في محل الاختلاف والله أعلم .

[ ص: 498 ] ( فائدة ) قال الرافعي - رحمه الله - : وعن الأودني من أصحابنا أنه تابع ابن سيرين في أن العلة الجنسية حتى لا يجوز بيع مال بجنسه متفاضلا ، وقال النووي رحمه الله في الروضة : قال الأودني من أصحابنا : لا يجوز بيع مال بجنسه متفاضلا ولا يشترط الطعم . انتهى ما قالاه . وأنا أخشى أن يكون غلطا فإن الذي نقله القاضي حسين عن الأودني أن العلة هي الجنسية ، والطعم شرطها ، وجعل ذلك مقابلا لما قاله الحليمي وصححه القاضي من أن العلة الطعم ، والجنس محلها والشرط عدم التساوي ، والمعلوم فساد العقد ، ولما قاله بعض الأصحاب من أن العلة الطعم والشرط عدم التساوي والمعلول الفضل فلعل من نقل عن الأودني اقتصر من قوله على أن الجنس علة وهو صحيح ثم توهم من وقف على هذا الكلام بمجرده أنه لا يشترط الطعم وأنه موافق لابن سيرين والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية