صفحة جزء
[ ص: 144 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وإن بدا صلاحها جاز بيعها بشرط القطع ; لحديث ابن عمر رضي الله عنه ولأنه إذا جاز بيعه بشرط القطع قبل بدو الصلاح ، فلأن يجوز بعد بدو الصلاح أولى ، ويجوز بيعها مطلقا للخبر ; ولأنه أمن من العاهة فجاز بيعها مطلقا كسائر الأموال ، ويجوز بيعها بشرط التبقية إلى الجذاذ للخبر ; ولأن إطلاق البيع يقتضي التبقية إلى أوان الجذاذ . فإذا شرط التبقية فقد شرط ما يقتضيه الإطلاق فجاز ) .


( الشرح ) القسم الرابع من الأقسام المتقدمة : وإن شئت قلت : الثاني : أن يبيع الثمار بعد بدو الصلاح ، فإنه يجوز مطلقا . وقسمه الأصحاب أيضا باعتبار شرط القطع والتبقية والإطلاق إلى ثلاثة أحوال لأحكام تترتب على ذلك . ( الحالة الأولى ) : أن يبيعها بشرط القطع فهذا جائز إجماعا ، وممن ادعى الإجماع فيه الماوردي ، ومستنده ، أما مفهوم حديث ابن عمر وشبهه من الأحاديث المتقدمة المتضمنة النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ، فإن مفهوم الغاية يقتضي جواز بيعها عند بدو الصلاح ، عند القائلين بالمفهوم ، وأما زوال الحالة المقتضية للتحريم ، فيرجع إلى أصل حل البيع عند من لا يقول بالمفهوم ، وهذا لا بد من الاعتضاد به ، فإن في التمسك بالمفهوم في الأحوال الثلاثة بحثا من جهة : أن المفهوم له عموم أو لا . قال شارح البرهان في أصول الفقه : إن استند المفهوم إلى طلب فوائد التخصيص لم يعم ، وإن استند إلى أن ذلك من جهة اللفظ عم ، وعزى الأول إلى الشافعي ، لكنا قدمنا عن الشافعي ما يقتضي خلاف ذلك ، فإن صح ما قدمناه عن الشافعي اتجه استدلال المصنف على مذهبه في الخبر في الحالتين ، ولا احتياج إلى الاعتضاد بالأصل المذكور ، والقياس الذي ذكره المصنف - رحمه الله تعالى - على ما قبل بدو الصلاح ، وقد تقدم الكلام في البيع بشرط القطع قبل بدو الصلاح ، والله أعلم .

وفي هذه الحالة هل إذا شرط القطع يجب ؟ قد تقدم فيما قبل بدو الصلاح : أنه يجب ، ولو تراضيا على الترك جاز ، وكذلك يأتي [ ص: 145 ] ههنا بطريق أولى ، قال الإمام : ولا شك أن هذا - يعني جواز البيع بشرط القطع بعد بدو الصلاح - مطرد في ابتياع الشجرة على شرط القطع من المغرس ، وابتياع البناء كذلك .

( الحالة الثانية ) : أن يبيعها مطلقا فيجوز أيضا بلا خلاف للخبر ، وقد تقدم ما في ذلك ، وبالقياس الذي ذكره المصنف ، قال الشافعي رضي الله عنه والأصحاب : وفي هذه الحالة للمشتري تركها إلى أوان الجذاذ ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يجب على المشتري قطعها في الحال بناء على أصله في أن إطلاق العقد يقتضي القطع . وإطلاقه عندنا يقتضي التبقية بالعرف وبقوله صلى الله عليه وسلم في بيع الثمرة قبل بدو الصلاح : { أرأيت إذا منع الله تعالى الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ } قال القاضي أبو الطيب : هذا التعليل يدل على أن بيع الثمرة مطلقا يوجب تبقيتها إلى أوان البلوغ ; لأنه لو وجب قطعها في الحال لم تكن تعرض للجائحة والتلف .

وقال الحنفية : إن هذا كمن قال : بعتك هذا بألف ولم يتعرض لدراهم ولا لدنانير . وكانت قيمته في العرف ألف درهم ، فالعرف يقتضي أن العاقد لا يشتريه بألف دينار ، ومع ذلك العقد باطل . وأجاب أصحابنا : بأن في العرف من أطلق الألف اتكالا على العرف لمن ينسب إلى الجهل . ومن اشترى ثمرة ولم يتعرض للإبقاء وطمع في الإبقاء لا ينسب إلى الجهل ولا يعد مقصرا بتركه .

( الحالة الثالثة ) : أن يبيعها بشرط التبقية فيصح عندنا ، وبه قال محمد بن الحسن ومالك وأحمد وداود ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله - : لا يصح تمسكا بأن ذلك ينافي مقتضى هذا العقد الخاص للتبقية ، وعن الثاني بما إذا اشترى دارا وللبائع فيها متاع ، فإنه ينقله على حسب العادة وتمسك المصنف وأصحابنا في ذلك بالخبر ومفهوم الغاية فيه . وقد تقدم ما في ذلك لا سيما وأبو حنيفة ينكر مفهوم الغاية ، وإن اعترف به بعض المنكرين للمفهوم ، والتمسك بالقياس مبني على اقتضاء العرف لذلك ، والله عز وجل أعلم .

( فرع ) أطلق المصنف : أنه إذا بدا صلاحها جاز بيعها . ومراده بذلك : أن المنع الذي كان قبل بدو الصلاح يرتفع فيجوز البيع بشروطه [ ص: 146 ] المذكورة في مواضعها ، فالشعير يجوز بيعه لأنه مشاهد في سنبله . وكذلك كل ثمرة بارزة كالتفاح والمشمش والخوخ والكمثرى ، أو زرع بارز حبه في غير كمام ، كالشعير والذرة . وكذلك ما كان مستورا بقشرة واحدة ومصلحته في بقائه فيها كالرمان والباذنجان والأرز على خلاف فيه . وأما ما عليه قشرة يتحفظ بغيرها كالقطن والسمسم والعدس . أو قشرتان إما كالفستق والبندق والجوز ، وإما كالباقلاء واللوز والرطب فلا يجوز . وقد ذكر المصنف بيع الباقلاء وبيع الحنطة في سنبلها في باب ما نهي عنه من بيع الغرر ، فلا حاجة إلى إعادة شرحه ، والله أعلم .

وما أشرت إليه من المعنى بقولي : إن المنع الأول ارتفع ببدو الصلاح ، جواب على تمسك الخصم بالمفهوم ، وإن قلنا : إن له عموما فإنه يقتضي ارتفاع ذلك النهي ، أما ارتفاع النهي بسبب آخر فلا . كقوله : " ألا لا توطأ حامل حتى تضع " فهي إذا وضعت يرتفع النهي الذي لأجل النسب ، ويبقى النهي لأجل الأذى حتى تغتسل .

( فرع ) قال القاضي حسين : بيع الزرع وحده إن كان بذرا لم يصح على الصحيح ، وقصيلا جاز بشرط القطع . أو بعد الاشتداد بارزا كان كالشعير والجاورس والدخن . أو متسنبلا في كمام ، فقولا بيع الغائب ، فإن باع الأرض مع الزرع - فإن كان أخضر - صح فيهما . أو مشتد الحبات بارزا فكذلك ، أو مستترا - فإن أبطلنا البيع فيه عند الانفراد - بطل ههنا فيه . وفي الأرض قولا تفريق الصفقة ، وإن صححنا فيه الانفراد ، ولكن نثبت خيار الرؤية ، فههنا قولا الجمع بين مختلفي الحكم .

( فرع ) قصب السكر صلاحه في بقائه في قشره ، كالجوز في قشره ، في قشره الأسفل ، وقد صرح الماوردي بجواز بيعه إذا بدت فيه الحلاوة ، قال ابن الرفعة : ولولا جواز بيعه في قشره لما جاز بيعه عند بدو صلاحه ، ويبقى إلى أوان قطعه .

( فرع ) الكتان إذا بدا صلاحه ، قال ابن الرفعة : يظهر جواز بيعه ; لأن ما يغزل منه ظاهر مرئي والشاش في باطنه كالنوى في التمر [ ص: 147 ] ونحوه ، لكن هذا لا يتميز في رأي العين بخلاف التمر والنوى ، والله أعلم .

( فرع ) البقل إذا بيع مع الأصول ، قال الغزالي : لا يشترط القطع ، فإنه لا يتعرض لعاهة ، وقال صاحب التهذيب : لا يجوز بيع القت والبقول في الأرض دون الأرض إلا بشرط القلع أو القطع ، سواء كان مما يجذ مرارا أو لا يجذ إلا مرة واحدة ، غير أنه إذا باع ما يجذ مرارا بشرط القطع لا يجوز قلعه ; لأنه لم يملك الأصل ، وما لم يجذ إلا مرة واحدة يجوز ، وقال القاضي حسين : إذا باع أصل الكراث مع الكراث صح ، ويؤمر بالقلع ، ولو باع العروق بدون الكراث لم يصح ، ويكون بيع الغائب ، ولو باع الأرض التي فيها الكراث أو الرطبة فأصولها تدخل في العقد كأصول الأشجار ، وما ظهر لا يدخل ويؤمر البائع بجذه في الحال ، وكذلك القصب الفارسي وما يتكرر قطعه حكمه حكم الكراث .

والفرق على رأي الغزالي بين البقل حيث قال : إنه لا يجوز بيعه بأصوله إلا بدون شرط القطع ، وبين البطيخ حيث قال : إنه لا يجوز بيعه مع أصوله إلا بشرط القطع : أن ما ظهر من أصول البطيخ هو الذي تتكرر ثمرته دون ما بطن من عروقه ، ولهذا إذا قطع الظاهر لم يخلف ، وإذا كان كذلك فالآفة متعرضة لما ظهر من أصوله كتعرضها لنفس البطيخ ، ولهذا يؤثر فيها الحر والصقيع ونحوهما كما يؤثر في البطيخ ، فلذلك استويا في الحكم ، ولا كذلك ما يخلف من أصول البقول ونحوه ، فإنه الذي في الأرض ولا يخشى عليه تلك الآفات التي تخشى على أصول البطيخ ، والله أعلم .

وإن بيع البقل دون الأصول ، قال الغزالي : يدل على القطع ، يعني ; لأن العرف يقتضيه ، ولا يحتاج إلى شرط القطع بخلاف الزرع الأخضر ، فإن العرف فيه الإبقاء لو لم يشترط القطع ، ومن الناس من رأى التسوية في ذلك ، واعترض على الغزالي في كلامه : بأن شرط القطع في ذلك ليس بواجب ، قال ابن الرفعة : والأشبه أنه إن لم ينته إلى الحالة التي يجذ فيها ، فلا يجوز بيعه إلا بشرط القطع ، وإن انتهى [ ص: 148 ] جاز ، وعليه يحمل كلام الغزالي ، وظاهر نصه في الأم يدل على ذلك .

( فرع ) فإن باع الثمرة بعد بدو الصلاح مع الأصول والزرع بعد أن اشتد حبه مع الأرض نظرت - فإن كانت الثمرة ظاهرة أو كان الزرع كالشعير والذرة ونحوها والقطن إذا ظهر جميعه - جاز : لأنه مبيع مشاهد ، وإن كانت الثمرة غير ظاهرة كالجوز واللوز والرانج في قشره ، وكان الحب غير ظاهر كالحنطة والفول والحمص وما أشبهه ، ( فإن قلنا ) : يجوز بيعها مفردا جاز مع الشجر والأرض ، ( وإن قلنا ) : لا يجوز لم يصح البيع فيها ; لأنه مبيع مجهول مقصود في نفسه ، وهل يصح البيع في الشجرة والأرض ، يبنى على القولين في تفريق الصفقة ، ( فإن قلنا ) : لا تفرق أو تفرق ولكن يجوز بالقسط بطل في الجمع ، ( وإن قلنا ) : يجوز بكل الثمن صح البيع في الشجر والأرض ، وللمشتري الخيار بين أن يمسك الأصل بجميع الثمن ، وبين أن يرده ويأخذ ما دفع ، وقد تقدم هذا التفصيل كله في بيع الزرع من كلام الماوردي .

( فرع ) في مذاهب العلماء ، وافقنا مالك وأحمد على جواز البيع بشرط التبقية بعد بدو الصلاح . وقال أبو حنيفة : لا يجوز ، واحتج له بأنه بيع وإجارة مجهولة ، فأشبه اشتراط ترك القماش في الدار ( قلنا ) : الشجرة لا تؤجر . ولا أجرة لها بخلاف الدار .

التالي السابق


الخدمات العلمية