صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن اشترى جارية مصراة ففيه أربعة أوجه : ( أحدها ) أنه يردها ويرد معها صاعا ; لأنه يقصد لبنها فثبت بالتدليس له فيه الخيار ، والصاع كالشاة . ( والثاني ) أنه يردها ; لأن لبنها يقصد لتربية الولد ، ولم يسلم له ذلك فثبت له الرد ولا يرد بدله ; لأنه لا يباع ولا يقصد بالعوض . ( والثالث ) لا يردها ; لأن الجارية لا يقصد في العادة إلا عينها دون لبنها . ( والرابع ) لا يردها ، ويرجع بالأرش ; لأنه لا يمكن ردها مع عوض اللبن ; لأنه ليس للبنها عوض مقصود ، ولا يمكن ردها من غير عوض ، [ ص: 271 ] لأنه يؤدي إلى إسقاط حق البائع من لبنها من غير بدل ، ولا يمكن إجبار المبتاع على إمساكها بالثمن المسمى ; لأنه لم يبذل الثمن إلا ليسلم له ما دلس به من اللبن فوجب أن يرجع على البائع بالأرش ، كما لو وجد بالمبيع عيبا وحدث عنده عيب ) .


( الشرح ) الكلام في هذا الفصل والفصل الذي بعده يحتاج إلى أصل ، وهو أن المنصوص عليه في كلام الشافعي رحمه الله حكم الإبل والغنم والبقر ، والصحيح المشهور أنه يعم جميع الحيوانات المأكولة والمصرح به من ذلك في الحديث هو الإبل والغنم ( وكثير ) من الأصحاب يجعلون حكم البقر ثابتا بالقياس وبه يشعر كلام الشافعي رحمه الله في المختصر ( ومنهم ) من يأخذه من النص في الحديث الذي لفظه { من اشترى مصراة } فإنه عام ، وقد تقدم ذلك ، واتفقوا على إثبات الحكم في البقر إما بالنص وإما بالقياس ، فإن القياس فيها ظاهر جلي وهي في معنى الإبل والغنم ، فلذلك اتفقوا على ثبوت الحكم فيها . أما ما عدا ذلك من الحيوانات كالجارية والأتان ، فلا يظهر فيهما أنهما في معنى الأصل المنصوص عليه ، وعقد المصنف رحمه الله هذا الفصل والذي بعده للكلام فيهما ، والذي تجرى أحكام المصراة عليهما فطريقه في ذلك إما القياس وإن كان ليس في الجلاء والظهور كالأول ، وإما إدراجها في عموم قوله " من اشترى مصراة " والذي لا تجري عليهما أحكام المصراة طريقه قطع القياس ويتبين أنهما غير داخلين في عموم قوله : مصراة ( إما ) بأن الاسم غير صادق عليهما عند الإطلاق ( وإما ) بإخراجهما من اللفظ بدليل ، وقد يقال : إن من جملة ما يدل على إخراج الجارية قوله في الحديث : " بعد أن يحلبها " فإن ذلك يقتضي قصر الحكم على ما يصدق عليه اسم الحلب ، وفي إطلاق الحلب على الجارية نظر .

( واعلم ) أن قاعدة مذهب الشافعي رضي الله عنه كما ذكره الإمام يدل على أن ثبوت الخيار في المصراة جار على القياس ، وإذا كان كذلك فيسوغ إلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص ، والمصنف رحمه الله وكثير من الأصحاب لم يذكروا الحديث الذي فيه صيغة [ ص: 272 ] العموم ، وإنما ذكروا النص في الإبل والغنم ، وكان ما سوى المنصوص عليه على قسمين : ( قسم ) التصرية موجودة فيه في غير الإبل والغنم ( وقسم ) فيه معنى يشبه التصرية ، فذكر المصنف رحمه الله الجارية في هذا الفصل والأتان في الذي بعده ; لأنهما ملحقان عند من يقول بالإلحاق بالإبل والغنم لشمول التصرية بالجميع ، وذلك بعد تجعيد شعر الجارية ولأنه ملحق بالتصرية فلذلك أخره وله مراتب في الظهور كتجعيد الشعر ، فيلحق والخفاء كنقطة من المداد على ثوب العبد فلا يلحق ، وبين ذلك ففيه خلاف . ونذكر هذه المراتب إن شاء الله تعالى عند كلام المصنف في تجعيد شعر الجارية ، وذكر الماوردي وجهين في التصرية في غير الإبل والبقر والغنم ، فأحد الوجهين وهو قول البصريين أنها ليست بعيب ( والثاني ) وهو قول البغداديين أن التصرية في كل الحيوان عيب .

( وأما ) تصرية الجارية الذي هو محل كلام المصنف هنا ، فقال الإمام : إن الخلاف فيه ليس من النمط المذكور ، فإن التلبيس بالتصرية في الجارية كالتلبيس بالتصرية في البهيمة ، وإنما نشأ الخلاف من أصل آخر ، وهو أن الأصل في خيار الخلف أن يترتب على الشرط والفعل والموهم المدلس الخلف بالشرط ، وهو دونه ويقوى أثره فيما يظهر توجه القصد إليه فأما ما لا يتوجه القصد إليه فلا يظهر التلبيس فيه ، قال : ويمكن أن يقال : هذا مع التقريب يلتحق بما قدمناه من مواقع الخلاف ، يعني من المرتبة التي بين الظهور والخفاء كما أشرنا إليه من قبل ، فإن الشيء إذا كان لا يقصد مما يجرى من تلبيس فيه وفاقا لا توهما ، ويمكن أن يقرب مما تقدم من وجه آخر ، وهو أن الضرع والإخلاف يعتاد معاينتها ويدرك الفرق فيها ، وليس كذلك الثدي في بنات آدم ، فإن المشاهدة لا تتعلق غالبا به وغرضنا تخريج الوفاق والخلاف على أصول ضابطة . انتهى .

ومقصود الإمام أن الثدي إذا كان لا يرى غالبا ، ولا يحصل فيه قصد التغرير غالبا ، فلم يتحقق كضرع الناقة والشاة الذي هو مرئي الغالب ، ومقصوده بما قاله أولا من أن لبن الجارية غير [ ص: 273 ] مقصود ، أي في الغالب ; لأنه لا يقصد إلا على ندور لأجل الحضانة ، فلا يلتحق بما هو مقصود في كل الأحوال ولذلك لم يغتر برؤية الحلمة وهو الثدي . إذا عرف ذلك فهل التصرية في الجارية عيب أم لا ؟ على وجهين على ما تقدم عن الماوردي . وقال الشيخ أبو حامد : إنه لا خلاف أنها عيب لأمرين : ( أحدهما ) الرغبة في رضاع الولد ( والثاني ) أن كثرة اللبن تحسن الثدي ; لأنه يعلو ولا يسترسل ، هكذا قال أبو حامد ولكن غيره مصرح بالخلاف في ذلك ، وشبهوه على أحد الوجهين بما إذا اشترى جارية فبانت أخته فلا خيار ; لأن الوطء في ملك اليمين غير مقصود . إذا عرف ذلك فقد ذكر المصنف أربعة أوجه أصلها وجهان وقيل قولان : ( أحدهما ) أنه يرد معها صاعا ، لما ذكره المصنف . وهذا قول ابن سريج وابن سلمة فيما حكاه الجوري ( والآخر ) : يردها ولا يرد بدل اللبن ; لأنه لا يعتاض عنه في الغالب ، وإن كان متقوما ، وهذا معنى قول المصنف رحمه الله : إنه لا يقصد بالعوض ، ولم يرد أنه لا يباع منفردا ; لأن مذهبنا جواز بيعه . وهذا الوجه ذكره الصيدلاني وغيره على ما حكاه الإمام ، وكلا الوجهين مذكور في الحاوي وفيما علقه سليم عن أبي حامد .

( والوجه الثاني ) أنه لا يرد . وهذا قول أبي حفص بن الوكيل على ما يقتضيه كلام الجوري ، وعلى هذا فوجهان ( أحدهما ) وهو الثالث في كلام المصنف رحمه الله أنه لا يرد ، أي ولا شيء له لما ذكره المصنف رحمه الله ، وهذا الوجه لم يذكره الرافعي ولكن ذكره القاضي أبو الطيب والقاضي حسين والماوردي وغيرهم ، وهو مفرع على أن التصرية في ذلك ليست بعيب ( والآخر ) وهو الرابع في كلام المصنف أنه لا يرد ويرجع بالأرش ، وصححه ابن أبي عصرون تفريعا على القول بعدم الرد . واختلف في مأخذه ، فالشيخ أبو حامد ذكره فيما علقه البندنيجي عنه من قوله : إنه لا خلاف في أنها عيب مستدلا بما ذكره المصنف وهو حسن . واستدل - لأنه لا يمكن ردها من غير عوض - بأنها نقصت عنده فهذا الوجه بهذا التعليل مع الوجهين الأولين ثلاثتها مفرعة [ ص: 274 ] على القولين بأن التصرية في ذلك عيب ، ولذلك ذكرها الشيخ أبو حامد مفرقة في التعليقين .

ونقل الروياني عن الدارمي أنه على القول بأنه ليس بعيب ، فإنه يرجع بالأرش ، وغلطه قال : لأن هذا القائل منع الرد ; لأنه ليس بعيب ، وقدر الداركي أنه لا يرد ; لأن الحلب عيب حادث ، فقال يرجع بالأرش ( قلت ) وينبغي أن يحمل كلام الدارمي على ما قاله الشيخ أبو حامد رحمه الله ولا يغلط ، ولا يظن به أنه فرع ذلك على أنه ليس بعيب . هذا ما ذكره الأصحاب رحمهم الله في ذلك ، وقال الإمام : إذا أثبتنا الخيار بتصرية الجارية ، وإن قدرنا التمر بقيمة اللبن فلم يكن للبن الجارية قيمة لم يجب شيء . وإن أوجبنا الصاع فههنا وجهان ، هذا إذا لم يكن اللبن متقوما ، وإن كان له قيمة فلا بد من بدله . وهل يبدل بالصاع أو بقيمته من تمر أو قوت آخر ؟ فيه وجهان . وهذا التخريج حسن ( والأصح ) من هذه الأوجه عند الرافعي وصاحب التهذيب أنه يرد ، ولا يرد بدل اللبن وهو الثاني في كلام المصنف رضي الله عنه .

قال الروياني في البحر : وهذا أقرب عندي ( والأصح ) عند القاضي أبي الطيب والجرجاني أنه يردها ويرد معها صاعا بمنزلة تصرية الإبل والغنم وقال ابن أبي عصرون : إنه الأقيس به في المرشد . وقد تقدم في باب الربا أن محمد بن عبد الرحمن الحضرمي نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه لو باع أمة ذات لبن بلبن آدمية جاز ، وهو رد ما صححه القاضي أبو الطيب هنا ; لأنه لو كان اللبن بمنزلة العين ويقابله قسط من الثمن لما صح بيعها بلبن آدمية ، كما لا يصح بيع شاة في ضرعها لبن بلبن غنم ، وعلى ما تقدم من تخريج الإمام رجع النظر إلى تحقيق مناط ، وهو أن لبن الجارية هل له قيمة أو لا ؟ فإن كان له قيمة تعين الحكم بوجوب بدله كما قال الإمام ، قال : لأن نفي البدل في هذا المقام لا يقتضيه خبر ولا يوجبه قياس .

( فرع ) حكم الخيل حكم الجارية ، وذكره الماوردي ، ولم يذكر الماوردي في الجارية الثلاثة الأوجه المذكورة أولا في كلام المصنف رحمه الله قال العبدري : لنا في تصرية لبن الجارية قولان ، وفي الأتان وجهان ، فاقتضى كلامه أن الخلاف في الجارية منصوص عليه ، [ ص: 275 ] وكذلك رددت القول فيما تقدم في ذلك هل هو وجهان أو قولان ؟ والله أعلم .

( فرع ) من جملة العلماء القائلين بأن حكم التصرية لا ينحصر في الإبل والغنم البخاري رحمه الله فإنه قال في تبويبه : باب النهي " للبائع أن لا يحفل الإبل والغنم والبقر وكل محفلة ، والمصراة التي صري لبنها وحقن فيه وجمع فلم تحلب أياما " ولم يذكر في الباب حديثا فيه صيغة عامة بنعته ، والله أعلم .

( فرع ) حكى المصنف في التنبيه وجهين ( أحدهما ) أنه لا يرد ( والثاني ) أنه يرد ولا يرد بدل اللبن ، فالثاني في التنبيه هو الثاني في المهذب ، والأول في الثاني يحتمل أن يكون هو الثالث في المهذب وهو أنه لا يردها ، ولا شيء له ، ويحتمل أن يكون هو الرابع . وهو أنه لا يرد ويأخذ الأرش ، ويحتمل أن يكون مقصوده عدم الرد الذي هو مشترك بين الوجهين ، ويكون كل من الوجهين مفرعا عليه ، وهو الأول . وقال ابن الرفعة في قول التنبيه : إنه لا يرد . قال : أي ويأخذ الأرش وقال : إن القول بأنه لا يرد ولا يرجع بالأرش هو ما ظن ابن يونس أنه القول الأول من كلام الشيخ ( قلت ) وأما تفسير ابن الرفعة لكلام الشيخ فممنوع لما تقدم ، وأما كلام ابن يونس فمحتمل ; لأنه حكى الوجهين فيحتمل أن يكون جعلهما مفرعين على الوجه الذي حكاه الشيخ ، وهو الاحتمال الذي قلت : إنه الأولى ، وحينئذ لا ينسب إلى ابن يونس حمل كلام الشيخ على أحد الوجهين دون الثاني والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية