صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن اشترى أتانا مصراة ، فإن قلنا بقول الإصطخري : إن لبنها طاهر ، ردها ورد معها بدل اللبن كالشاة ( وإن قلنا ) بالمنصوص : إنه نجس ففيه وجهان ( أحدهما ) أنه يردها ولا يرد بدل اللبن ; لأنه لا قيمة له ، فلا يقابل ببدل ( والثاني ) يمسكها ويأخذ الأرش ; لأنه لا يمكن ردها مع البدل ; لأنه لا بدل له ولا ردها من غير بدل لما فيه من إسقاط [ ص: 276 ] حق البائع من لبنها ، ولا إمساكها بالثمن ; لأنه لم يبذل الثمن إلا لتسلم له الأتان مع اللبن ولم تسلم ، فوجب أن تمسك ويأخذ الأرش ) .


( الشرح ) الأتان الأنثى من الحمر ، وقول الإصطخري رحمه الله بطهارة لبنها معروف مشهور ، وهو يقول بطهارته وحل تناوله ، وعده الإمام من هفوات بعض الأئمة . وحكى الإمام أن من أصحابنا من حكم بطهارة لبنها وحرمته وهذا بعيد ، والمذهب نجاسته وقد تقدم أن تصرية الأتان هل هي عيب أم لا ؟ على وجهين ، وقال الشيخ أبو حامد : إنه لا خلاف في أنها عيب كما تقدم أنه مثل ذلك في الجارية ، إذا عرف ذلك ففي حكم تصرية الأتان طرق . ( إحداها ) ما ذكره المصنف رحمه الله أنه إن قلنا بطهارة لبنها ردها ، ورد بدل اللبن ( وإن قلنا ) بنجاسته فقيل : يردها ولا يرد معها شيئا . وقيل ، يمسكها ويأخذ الأرش ، وممن ذكر هذه الطريقة الشيخ أبو حامد .

( الطريقة الثانية ) التي ذكرها الماوردي من العراقيين ، والقاضي حسين من الخراسانيين : أنه هل يرد أو لا يرد ؟ في المسألة وجهان ( فإن قلنا ) بنجاسة لبنها ردها ولا يرد معها شيئا ( وإن قلنا ) بطهارة لبنها . وهو قول الإصطخري . فهل يرد معها صاعا من تمر ؟ على وجهين كالجارية وإناث الخيل . وهذه عكس ما ذكره المصنف رحمه الله ( والطريقة الثالثة ) التي ذكرها الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب الجزم بردها وتخريج رد بدل اللبن على الخلاف ( فإن قلنا ) بطهارته رد بدله صاعا من تمر ( وإن قلنا ) بنجاسته لا يرد ; لأن النجس لا بدل له ولا قيمة ، وهذه تخالف طريقة الماوردي فإن الماوردي يتردد في رد بدل اللبن على القول بطهارته ، وأبو حامد وأبو الطيب جازمان به ، وتخالف طريقة المصنف رحمه الله في قوله : إنه يمسكها ويأخذ الأرش ، وقد نقل الشاشي عن القاضي أبي الطيب أن الأوجه التي في الجارية في الأتان على قول الإصطخري فهذه الطرق الثلاثة في طريقة العراقيين وبعضها في كلام الخراسانيين كما تقدم . ( والطريقة الرابعة ) التي ارتضاها الإمام أنه إن قلنا : اللبن نجس فلا يقابل بشيء ، ولكن لا يبعد إثبات الخيار ; إذ قد يقصد [ ص: 277 ] غزارة لبنها لمكان الجحش ، فيلتحق هذا الخيار بقبول التردد ، وإن حكمنا بأنه طاهر فكذلك ، فإن اللبن المحرم لا يتقوم وإن حكمنا بحله فالقول في تصرية الأتان كالقول في تصرية الجارية ، وقد تقدم كلامه في الجارية ، وهذه الطريقة توافق طريقة الماوردي في إلحاقها بالجارية على قول طهارة اللبن وحله ، وتخالفها في أن الماوردي لم يحك القول بتحريم اللبن مع طهارته ولا التفريع عليه ، وفي أن الماوردي لم يبن الخلاف في الرد على الخلاف في النجاسة ، وإنما حكى الخلاف في الرد وفي سائر الحيوانات غير الإبل والبقر والغنم . ( فإن قلنا : ) بشمول الحكم للجميع فالماوردي جازم على قولنا بنجاسة اللبن ، يرد الأتان ولا شيء معها ، والإمام مقتضى كلامه التردد في ردها وطريقة الإمام تخالف طريقة المصنف رحمه الله أيضا ، ولأن الإمام لم يتعرض لإمساكها بالأرش ، والمصنف لم يتعرض لطهارة اللبن مع تحريمه ، والله أعلم .

ولم يتعرض ابن عبد السلام في اختصار النهاية لما أشار إليه الإمام من التردد في ثبوت الخيار ، فتخلص من هذه الطرق أربعة أوجه : ( أحدها ) أنه يردها ويرد معها بدل اللبن . ( والثاني ) أنه يردها ولا يرد معها شيئا . وهذا هو الصحيح عند الرافعي وغيره . وهو الذي جزم به المصنف رحمه الله في التنبيه . ( والثالث ) أنه لا يردها ويأخذ الأرش . ( الرابع ) الذي دل عليه كلام الإمام أنه لا يردها ولا شيء له ; لأنه جعل ذلك من صور الخلاف . ومراده به إلحاقه بالمرتبة المتوسطة بين المراتب الثلاث التي تقدمت الإشارة إليها ، ويأتي ذكرها إن شاء الله تعالى عند كلام المصنف رحمه الله في تجعيد شعر الجارية . وإذا كان كذلك فيقتضي كلام الإمام المذكور إثبات وجه كما قلناه أنه لا خيار له . وكذلك يقتضيه كلام الماوردي حيث ألحق الأتان بالجارية . وحيث حكى الخلاف في سائر الحيوان مطلقا غير الإبل والبقر والغنم . كما تقدم عن البصريين والبغداديين في أن التصرية فيها عيب . أو ليست بعيب . وكلام غيره أيضا . وهذا الوجه ليس مذكورا في كلام المصنف [ ص: 278 ] رحمه الله .

والأوجه الثلاثة التي ذكرها المصنف ذكرها الشيخ أبو حامد أيضا مع قوله أن لا خلاف في أنها عيب . والوجه الرابع القائل بعدم الخيار مستمد من الوجه الذي تقدم عن البصريين أن التصرية في ذلك ليست بعيب . فيجوزون الأوجه الأربعة ، وهي نظير الأوجه الأربعة التي ذكرها المصنف رحمه الله في الجارية وإن كانت المآخذ مختلفة . وقال ابن أبي عصرون على قول الإصطخري بعد أن حكى كلام الأصحاب . وقولهم في التفريع عليه : إنه يرد مثل بدل لبن الشاة قال : وعندي ينبغي أن يرد الأرش ; لأن لبنها لا يساوي لبن الأنعام ولا يلحق به في تقدير بدله . كما أن جنين البهيمة لما لم يساو جنين الآدمية ضمن بها ويقضي من قيمة الأم . وهذا الذي ذكره لو ثبت كان زائدا على الأوجه الأربعة لكنه بعيد ; لأنه على القول بطهارته وجعله مما يقابل بالعوض لا يفارق لبن الأنعام وإن كانت أنقص قيمة منها فإن بعض الأنعام لبنها أنقص قيمة من بعض ، ولا اعتبار بذلك ويلزمه أن يقول بذلك في الجارية ، ولم يقل به هناك ، بل قال : إن الأقيس أنه يجب رد بدله ، والله أعلم .

( فرع ) قول المصنف رحمه الله " لم يبذل الثمن إلا لتسلم له الأتان مع اللبن " وكذا قوله فيما تقدم في الجارية " ولم يبذل الثمن إلا ليسلم له ما دلس به من اللبن " رأيتها مضبوطة في بعض النسخ - بضم التاء وفتح السين وتشديد اللام المفتوحة - والأحسن أن يقرأ - بفتح التاء وإسكان السين وفتح اللام المخففة - فإن البائع سلم الأتان مع اللبن ، ولكن حصلت في ذلك السلامة للمشتري .

( فرع ) جزم المصنف في التنبيه بأنه يرد الأتان ، ولا يرد بدل اللبن وتردد في رد الجارية مع الجزم فيها بأنه لا يرد بدل اللبن ، فأما جزمه برد الأتان وتردده في رد الجارية فلأن لبن الأتان مقصود ولا يساويه لبن الجارية في ذلك ، وعلى قوله في المهذب : إنه لا يرد قال : إنه بأخذ الأرش يكون اللبن في الأتان مقصودا فلم يتردد قوله لا في المهذب ولا في التنبيه في أن لبن الأتان مقصود ، ولكن امتناع رد بدله على الصحيح لأجل نجاسته وإن كنا قد حكينا عن غير [ ص: 279 ] المصنف رحمه الله وجها رابعا بعدم الرد مطلقا وذلك يلزم منه القول بأنه غير مقصود . وأما جزمه في التنبيه بأنه لا يرد بدل لبن الأتان ، فإنه تفريع على المذهب في نجاسته ، وزعم ابن الرفعة أن ذلك سواء قلنا بنجاسته أو بطهارته كما ذهب إليه الإصطخري ، قال : وقيل على القول بطهارته يجب الصاع ، وهذا الذي قاله ابن الرفعة وإن كان الخلاف ثابتا فيه كما تقدم ، لكن لا يحسن أن نشرح به كلام التنبيه ; لأن صاحبه في المهذب جازم على قول الإصطخري : يرد بدل اللبن ، فيجب حمل كلامه في التنبيه على المذهب ، فيكون موافقا لذلك ، ليس ذلك مما اختلفت فيه الطريقان حتى يحمل كلامه في التنبيه على طريقة وكلامه في المهذب على طريقة أخرى ، وقد تبين لك الطرق المذكورة في ذلك ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية