صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن تراضيا على دفع الأرش لأسقاط الخيار ففيه وجهان ( أحدهما ) يجوز وهو قول أبي العباس ; لأن خيار الرد يجوز أن يسقطها إلى المال ، وهو إذا حدث عند المشتري عيب فجاز إسقاطه إلى المال بالتراضي ، كالخيار في القصاص ( والثاني ) لا يجوز وهو المذهب ; لأنه خيار فسخ فلم يجز إسقاطه بمال كخيار الشرط وخيار الشفعة ، فإن تراضيا على ذلك وقلنا : إنه لا يجوز فهل يسقط خياره ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) أنه يسقط ; لأنه رضي بإمساك العين مع العيب ( والثاني ) لا يسقط وهو المذهب ; لأنه رضي بإسقاط الخيار بعوض ولم يسلم له العوض فبقي الخيار ) .


( الشرح ) الوجهان في جواز التراضي على إسقاط الخيار إلى بدل ، سواء أكان ذلك البدل جزءا من الثمن أم غيره ، اتفقت الطرق على حكايتها . والجواب منسوب إلى أبي العباس بن سريج وعنه أنه حكاه عن القديم ، وبه قال أبو حنيفة ومالك ، والمنع قال القاضي حسين : إنه المنصوص ، وقال الإمام : إنه ظاهر النص والمصنف في قوله : إنه المذهب تابع للشيخ أبي حامد وقال القاضي أبو الطيب : إنه ظاهر المذهب ، والماوردي وهو الذي صححه البغوي والرافعي [ ص: 363 ] وغيرهما وفيه نظر ، فإنهم قاسوه على خيار الشرط والشفعة . والفرق بينه وبين خيار الشرط والشفعة أن ههنا يأخذ الأرش في مقابلة ما فات من المال ، ويسقط إلى مال ، كما قال المصنف رحمه الله تعالى فهذان معنيان ليسا في خيار الشفعة والشرط ، والمعنى الأول أحسن . وصورة المسألة إذا لم يكن مانع من الرد ، ولا تأخر مسقط ، إما بأن يجهلا فورية الخيار ، أو يكون في خيار المصراة على القول بامتداده ، أو أن التشاغل بالاتفاق على الأرش لا يعد إعراضا عن الرد . ونظر القاضي حسين وغيره هذه المسألة بحق الشفعة لا تصح المصالحة عنه على أصح الوجهين ، خلافا لأبي إسحاق المروزي ، وقد عرفت ما فيه . قال القاضي حسين : وقال أبو إسحاق : ثلاث مسائل أخالف فيها أصحابي ، حد القذف ، وحق الشفعة ، ومقاعد الأسواق ، أجوز الصلح عنها ، ومنعها سائر الأصحاب لأنها ليست بمال وإنما يصح الاعتياض عما هو مال ، فأما إذا كان حقا مجردا فلا . انتهى .

وقد عرفت أن جواز المصالحة هنا أولى من جوازها في المسائل الثلاث للفرق المذكور . ولذلك ابن سريج لم ينقل عنه موافقة أبي إسحاق إذا خالف في المسائل الثلاث يخالف في حق الرد بالعيب ، فإنه لا فرق بينهما ، أو الرد بالعيب أولى كما تقدم . واكتفوا بنسبة الخلاف هنا إلى ابن سريج . وإنما قلت : إن المصالحة هنا أولى بالصحة من المسائل الثلاث ، لما أشار إليه المصنف من أن خيار الرد يجوز أن يسقط إلى المال في حال ، ولا كذلك الحقوق الثلاثة . ولأن الأرش مأخوذ في مقابلة حال نائب ولا جرم . قال القاضي أبو الطيب هنا : إنه لا يصح المصالحة عن الشفعة قولا واحدا . ولم يحك خلاف أبي إسحاق مع حكايته للخلاف هنا . وهو مقتضى كلام المصنف رحمه الله تعالى هنا ، فإنه جعل الشفعة أصلا مقيسا . وقول المصنف في تعليل الثاني خيار فسخ يحترز بالفسخ عن القصاص والوصف حاصل في الأصل ، وهو خيار الشرط والشفعة فإن فيهما فسخ وإبطال حق المشتري للتنقص . لكن هذا القياس لا يكفي بدون إلغاء الفرق المتقدم . والأصحاب يقولون : الأرض جزء من الثمن في مقابلة الجزء الثابت كما سيأتي ومقتضى ذلك [ ص: 364 ] أن يجوز والمصالحة عنه كما قال ابن سريج ، فإنه ليس في مقابلة حق مجرد ولا سلطة الرد ولذلك اتفقوا على جوازه عند حدوث عيب جديد .

( التفريع ) وهو مذكور في الكتاب ( إن قلنا ) بالصحيح ، وهو أنه لا يجوز فتراضيا على ذلك ، فإن كان المشتري عالما ببطلان المصالحة بطل حقه قطعا ، وإن ظن صحتها ، وعليه يحمل كلام المصنف ( فوجهان ) حكاهما الإمام عن نقل العراقيين ، وتعليلهما ما ذكره المصنف والمذهب عدم السقوط كما قال وممن صححه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والقاضي حسين والبغوي والرافعي ومن التفريع أيضا أنا ( إن قلنا ) بجواز المصالحة سقط الخيار ، ويثبت الأرش أو ما اتفقا عليه على البائع ، وإلا فلا ، فإن كان أخذه وجب عليه رده ، ولو صالح عن العيب على مال وجوزنا فزال العيب لا يجب رد المال لأنه أخذ على جهة المعاوضة ، قاله البغوي ، ولا فرق في جواز المصالحة بين أن يكون الثمن ذهبا فيصطلحان على ذهب أو فضة أو حالا أو مؤجلا ، قاله الجوري .

( فائدة ) الأرش في اللغة أصله الهرش أبدلت الهاء همزة ، وأرش الجراحة ديتها ، وذلك لما يكون فيه من المنازعة ، وأرشت الجرب والنار إذا أرثتهما ، والنار من بين القوم الإفساد بينهم ، وأما في الشرع فقال بعضهم : هو عبارة عن الشيء المقدر الذي يحصل به الجبر عن الفائت وقال الرافعي : هو جزء من الثمن نسبته إليه نسبة ما ينقص العيب من قيمة المبيع لو كان سليما إلى تمام القيمة .

( فرع ) لنا صورة يرضى المشتري فيها بالعيب ، ولا يكون له مانع من الرد إذا اطلع على ذلك في مرض موته ، ولا تنقطع مطالبة الورثة عن البائع على أحد الوجهين . وسنذكره عند الكلام في الأرش .

التالي السابق


الخدمات العلمية