صفحة جزء
[ ص: 3 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( باب الأحداث التي تنقض الوضوء ) ( الأحداث التي تنقض الوضوء خمسة : الخارج من السبيلين ، والنوم ، والغلبة على العقل بغير النوم ، ولمس النساء ، ومس الفرج . فأما الخارج من السبيلين فإنه ينقض الوضوء لقوله تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ولقوله صلى الله عليه وسلم " { : لا وضوء إلا من صوت أو ريح } " ) .


( الشرح ) قال الله تعالى { : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } اختلف العلماء في ( أو ) هذه فقال الأزهري : هي بمعنى الواو . قال : وهي واو الحال ، وأنشد فيه أبياتا . قال : ولا يجوز في الآية غير معنى الواو حتى يستقيم التأويل على ما أجمع عليه الفقهاء . وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه في مسألة ملامسة المرأة : في الآية تقديم وتأخير ذكره الشافعي عن زيد بن أسلم ، تقديرها : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم ، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وإن كنتم جنبا فاطهروا ، وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا . قال : وزيد بن أسلم من العالمين بالقرآن .

والظاهر أنه قدر الآية توقيفا مع أن التقدير في الآية لا بد منه ، فإن نظمها يقتضي أن المرض والسفر حدثان يوجبان الوضوء ، ولا يقوله أحد . وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " { لا وضوء إلا من صوت أو ريح } " فحديث صحيح . رواه الترمذي وغيره بهذا اللفظ بأسانيد صحيحة من رواية [ ص: 4 ] أبي هريرة رضي الله عنه ورواه مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه بقريب من معناه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا ؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا } " . وثبت عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال : { شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة . فقال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا } " رواه البخاري ومسلم . ومعنى " يجد ريحا " يعلمه ويتحقق خروجه ، وليس المراد يشمه ، والأحاديث في الدلالة على الذي ذكره كثيرة مشهورة .

( أما حكم المسألة ) فالخارج من قبل الرجل أو المرأة أو دبرهما ينقض الوضوء ، سواء كان غائطا أو بولا أو ريحا أو دودا أو قيحا أو دما أو حصاة أو غير ذلك ولا فرق في ذلك بين النادر والمعتاد ، ولا فرق في خروج الريح بين قبل المرأة والرجل ودبرهما . نص عليه الشافعي رحمه الله في الأم ، واتفق عليه الأصحاب .

قال أصحابنا : ويتصور خروج الريح من قبل الرجل إذا كان آدر - وهو عظيم الخصيين - وكل هذا متفق عليه في مذهبنا . ولا يستثنى من الخارج إلا شيء واحد وهو المني ، فإنه لا ينقض الوضوء على المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور . قالوا : لأن الخارج الواحد لا يوجب طهارتين ، وهذا قد أوجب الجنابة فيكون جنبا لا محدثا . قال الرافعي : لأن الشيء مهما أوجب أعظم الأثرين بخصوصه لا يوجب أوهنهما بعمومه ، كزنا المحصن يوجب أعظم الحدين دون أخفهما . وحكى جماعة منهم صاحب البيان عن القاضي أبي الطيب أنه ينقض الوضوء فيكون جنبا محدثا . وقد وافق القاضي أبو الطيب الجمهور في تعليقه فقال ( في مسألة من وجب عليه وضوء وغسل ) : أنه يكون جنبا لا محدثا ، وهناك ذكر عن الجمهور المسألة . [ ص: 5 ] وأما قول الغزالي رحمه الله : الخارج من السبيلين ينقض الوضوء ، طاهرا كان أو نجسا ، فمراده بالطاهر الدود والحصا وشبههما مما هو طاهر العين ، وإنما ينجس بالمجاورة . قال الرافعي : ولا يغتر بتعميم الأئمة القول في أن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء ، فإن هذا ظاهر يعارضه تصريحهم في تصوير الجنابة المفردة عن الحدث على أن من أنزل بمجرد النظر فهو جنب غير محدث . وأما أدلة الانتقاض بكل خارج من السبيلين غير المني فكلها صحيحة ظاهرة . أما الغائط فبنص الكتاب والسنة والإجماع . وأما البول فبالسنة المستفيضة ، والإجماع ، والقياس على الغائط . وأما الريح فبالأحاديث الصحيحة التي قدمناها وهي صريحة تتناول الريح من قبلي الرجل والمرأة ودبرهما ، وأما المذي والودي والدود وغيرها من النادرات فسنذكر دليلها في فرع مذاهب العلماء والله أعلم .

( فرع ) ذكر المصنف أن نواقض الوضوء خمسة ، وهكذا ذكرها جمهور الأصحاب ، وبقي من النواقض ثلاثة أشياء : أحدها متفق عليه ، والآخران مختلف فيهما فالمتفق عليه انقطاع الحدث الدائم كدم الاستحاضة وسلس البول والمذي ونحو ذلك ، فإن صاحبه إذا توضأ حكم بصحة وضوئه ، فلو انقطع حدثه وشفي انتقض وضوءه ووجب وضوء جديد ، كما سنوضحه في باب الحيض إن شاء الله . والمختلف فيه نزع الخف ، وفيه خلاف تقدم واضحا . والأصح أن مسح الخف يرفع الحدث ، فإذا نزعه عاد الحدث . وهل يعود إلى الأعضاء كلها أم إلى الرجلين فقط ؟ فيه القولان . والثالث : الردة وفيها ثلاثة أوجه ، أصحها أنها تبطل التيمم دون الوضوء . والثاني تبطلهما . والثالث لا تبطل واحدا منهما . حكاها البندنيجي في آخر باب التيمم - وآخرون . وممن ذكر مسألة الخف وانقطاع الحدث الدائم من النواقض في هذا الباب المحاملي في ( اللباب ) ولعل الأصحاب لم يذكروهما هنا ; لكونهما موضحتين في بابيهما . وأما مسألة الردة فالنقض في الوضوء وجه ضعيف لم [ ص: 6 ] يعرجوا عليه هنا ، وقد قطع المصنف ببطلان التيمم بالردة ذكره في باب التيمم . واحتج لإبطال الوضوء والتيمم بأن الطهارة عبادة لا تصح مع الردة ابتداء ، فلا تبقى معها دواما كالصلاة إذا ارتد في أثنائها . ولعدم الإبطال بأنها ردة بعد فراغ العبادة فلم تبطلها كالصوم والصلاة بعد الفراغ منهما . وللفرق بين الوضوء والتيمم بقوة الوضوء وضعف التيمم .

وأما إذا اغتسل ثم ارتد ثم أسلم فالمذهب أنه لا يجب إعادة الغسل ، وبه قطع الأصحاب ، وفيه وجه أنه يجب ، حكاه الرافعي ، وهو شاذ ضعيف . ولو ارتد في أثناء وضوئه ثم أسلم فإن أتى بشيء منه في حال الردة لم يصح ما أتى به في الردة ، كذا قطع به إمام الحرمين وغيره ، ويجيء فيه الوجه الشاذ الذي سبق في باب نية الوضوء عن حكاية المحاملي أنه يصح من كل كافر كل طهارة ، وإن لم يأت بشيء فقد انقطعت النية ، فإن لم تجدد نية لم يصح وضوءه ، وإن جددها بعد الإسلام - وقلنا : لا يبطل الوضوء بالردة - انبنى على الخلاف في تفريق النية ، والأصح أنه لا يضر كما سبق بيانه في باب نية الوضوء . فإن قلنا : يضر ، استأنف الوضوء ، وإلا فإن كان الفصل قريبا بنى ، وإلا ففيه القولان في الموالاة ، والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في الخارج من السبيلين قد سبق أن مذهبنا أن الخارج من أحد السبيلين ينقض ، سواء كان نادرا أو معتادا وبه قال الجمهور . قال ابن المنذر : أجمعوا أنه ينتقض بخروج الغائط من الدبر ، والبول والمذي من القبل ، والريح من الدبر . قال : ودم الاستحاضة ينقض في قول عامة العلماء إلا ربيعة . [ ص: 7 ] قال : واختلفوا في الدود يخرج من الدبر ، فكان عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وحماد بن أبي سليمان وأبو مجلز والحكم وسفيان الثوري والأوزاعي وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور يرون منه الوضوء ، وقال : قتادة ومالك : لا وضوء فيه .

وروي ذلك عن النخعي وقال مالك : لا وضوء في الدم يخرج من الدبر . هذا كلام ابن المنذر . ونقل أصحابنا عن مالك أن النادر لا ينقض ، والنادر عنده كالمذي يدوم لا بشهوة ، فإن كان بشهوة فليس بنادر . وقال داود : لا ينقض النادر وإن دام إلا المذي للحديث . واحتج لمن قال لا ينقض النادر بقوله صلى الله عليه وسلم : " { لا وضوء إلا من صوت أو ريح } " وهو حديث صحيح كما سبق ، وبحديث صفوان بن عسال المتقدم في أول باب مسح الخف . وقوله : لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة ، لكن من غائط وبول ونوم ولأنه نادر فلم ينقض ، كالقيء ، وكالمذي الخارج من سلس المذي . واحتج أصحابنا بحديث علي رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المذي : يغسل ذكره ويتوضأ } " وفي رواية " الوضوء فيه " وفي رواية : " يتوضأ وضوءه للصلاة " رواه البخاري ومسلم . وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم قالا : " في الودي الوضوء " رواه البيهقي ، ولأنه خارج من السبيل فنقض كالريح والغائط ، ولأنه إذا وجب الوضوء بالمعتاد الذي تعم به البلوى فغيره أولى . وأما الجواب عن حديثهم الأول فهو أنا أجمعنا على أنه ليس المراد به حصر ناقض الوضوء في الصوت والريح ، بل المراد نفي وجوب الوضوء بالشك في خروج الريح ، كما قدمناه . وأما حديث صفوان فبين فيه جواز المسح وبعض ما يمسح بسببه ، ولم يقصد بيان جميع النواقض ; ولهذا لم يستوفها . ألا تراه لم يذكر الريح [ ص: 8 ] وزوال العقل ، وهما مما ينقض بالإجماع ، وأما القيء فلأنه من غير السبيل فلم ينقض كالدمع ، وأما سلس المذي فللضرورة ; ولهذا نقول هو محدث ، ولا يجمع بين فريضتين ولا يتوضأ قبل الوقت فهذا ما نعتمده في المسألة دليلا وجوابا . وأما ما احتج به بعض أصحابنا " { الوضوء مما خرج } " فقد رواه البيهقي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم ، قال : وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت ، والله أعلم .

. ( فرع ) قد ذكرنا أن خروج الريح من قبلي الرجل والمرأة ينقض الوضوء ، وبه قال أحمد ومحمد بن الحسن ، وقال أبو حنيفة : لا ينقض .

التالي السابق


الخدمات العلمية