صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأما زوال العقل بغير النوم فهو أن يجن أو يغمى عليه أو يسكر أو يمرض فيزول عقله فينتقض وضوءه ، لأنه إذا انتقض الوضوء بالنوم فلأن ينتقض بهذه الأسباب أولى ، ولا فرق في ذلك بين القاعد وغيره ، ويخالف النوم فإن النائم إذا كلم تكلم ، وإذا نبه تنبه ، فإذا خرج منه الخارج وهو جالس أحس به بخلاف المجنون والسكران . قال الشافعي رحمه الله : قد قيل : إنه قل من جن إلا وينزل ، فالمستحب أن يغسل احتياطا )


. [ ص: 25 ] ( الشرح ) أجمعت الأمة على انتقاض الوضوء بالجنون وبالإغماء ، وقد نقل الإجماع فيه ابن المنذر وآخرون واستدل له أصحابنا وغيرهم بحديث عائشة رضي الله عنها { : أن النبي صلى الله عليه وسلم أغمي عليه ثم أفاق فاغتسل ليصلي ، ثم أغمي عليه ثم أفاق فاغتسل } " رواه البخاري ومسلم ، واتفق أصحابنا على أن من زال عقله بجنون أو إغماء أو مرض أو سكر بخمر أو نبيذ أو غيرهما ، أو شرب دواء للحاجة أو غيرها فزال عقله انتقض وضوءه ، ولا خلاف في شيء من هذا إلا وجها للخراسانيين أنه لا ينتقض وضوء السكران إذا قلنا : له حكم الصاحي في أقواله وأفعاله . حكاه الفوراني والغزالي في البسيط ، والمتولي وصاحب العدة والروياني وغيرهم ، وهو غلط صريح ، فإن انتقاض الوضوء منوط بزوال العقل ، فلا فرق فيه بين العاصي والمطيع ، قال أصحابنا : والسكر الناقض هو الذي لا يبقى معه شعور ، دون أوائل النشوة ، وقال أصحابنا : ولا فرق في كل ذلك بين القاعد ممكنا مقعده وغيره ، ولا بين قليله وكثيره . وأما الدوار - بضم الدال وتخفيف الواو ، وهو دوار الرأس - فلا ينقض مع بقاء التمييز . ذكره إمام الحرمين ، وهو واضح . قال القاضي حسين والمتولي : حد الجنون زوال الاستشعار من القلب مع بقاء الحركة والقوة في الأعضاء ، والإغماء زوال الاستشعار مع فتور الأعضاء ، والله أعلم .

وأما قوله : قال الشافعي قد قيل : " قل من يجن إلا وينزل " فهو مشهور عن الشافعي ، ذكره في الأم وحرملة ، وأما لفظ النص فقال في الأم في آخر باب ما يوجب الغسل : " وقد قيل ما جن إنسان إلا أنزل ، فإن كان هذا هكذا اغتسل المجنون للإنزال ، وإن شك فيه أحببت له الاغتسال احتياطا ولم أوجب ذلك عليه حتى يستيقن الإنزال " . هذا نصه بحروفه ومن الأم نقلته ، وكذا نقله عن الأم جماعة من الأصحاب ، ونقله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي وجماعة [ ص: 26 ] في المغمي عليه . والذي في الأم إنما هو في المجنون كما نقلته ، واختلف الأصحاب في المسألة ، فجزم المصنف وجماعات من المحققين بأن غسل المجنون إذا أفاق سنة ولا يجب ، إلا أن يتيقن خروج المني .

وقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وجماعات من الأصحاب : إن كان الغالب من حال الذين يجنون الإنزال وجب الغسل إذا أفاق وإن لم يتحقق الإنزال ، كما نوجب الوضوء بالنوم مضطجعا للظن الغالب ، فإن لم يكن الإنزال غالبا لم يجب الغسل بالشك ونقل صاحب البحر هذا التفصيل عن الأصحاب . ونقل صاحب الحاوي عن الأصحاب أن الإغماء إن كان لا ينفك عن الإنزال وجب الغسل وإن كان قد ينفك فلا ، والصحيح طريقة المصنف ومن وافقه أنه يستحب الغسل ولا يجب حتى يتيقن خروج المني ، فإن القواعد تقتضي أن لا تنتقض الطهارة إلا بيقين الحدث ، خالفنا ذلك في النوم بالنصوص التي جاءت ، وبقي ما عداها على مقتضاه . قال أصحابنا : ويستحب للمغمى عليه الغسل إذا أفاق اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن المنذر وابن الصباغ وغيرهما : أجمع العلماء على أن الغسل لا يجب عليه ، وحكى الرافعي وجها ضعيفا شاذا أنه يجب الغسل من الجنون مطلقا ، ووجها أشذ منه أنه يجب من الإغماء أيضا . ذكره في باب الغسل ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية