صفحة جزء
[ ص: 74 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة ; لأن الطهارة يقين فلا يزال ذلك بالشك . وإن تيقن الحدث وشك في الطهارة بنى على يقين الحدث ; لأن الحدث بيقين فلا يزال بالشك ، وإن تيقن الطهارة والحدث وشك في السابق منهما نظرت فإن كان قبلهما طهارة فهو الآن محدث ; لأنه تيقن أن الطهارة قبلهما ورد عليها حدث فأزالها ، وهو يشك هل ارتفع هذا الحدث بطهارة بعده أم لا ؟ فلا يزال يقين الحدث بالشك وإن كان قبلهما حدث فهو الآن متطهر ; لأنه قد تيقن أن الحدث قبلهما قد ورد عليه طهارة فأزالته ، وهو يشك هل ارتفعت هذه الطهارة بحدث بعدها أم لا ؟ فلا يزال يقين الطهارة بالشك . وهل كما نقول في رجل أقام بينة بدين وأقام المدعى عليه بينة بالبراءة ، فإنا نقدم بينة البراءة ; لأنا تيقنا أن البراءة وردت على دين واجب فأزالته ، ونحن نشك هل اشتغلت ذمته بعد البراءة بدين بعدها ؟ فلا يزال يقين البراءة بالشك ) .


( الشرح ) في الفصل ثلاث مسائل : ( إحداها ) إذا تيقن الحدث وشك هل تطهر أم لا ؟ فيلزمه الوضوء بالإجماع ودليله مع الإجماع ما ذكره المصنف .

( الثانية ) تيقن الطهارة ، وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة ، ولا يلزمه الوضوء ، سواء حصل الشك ، وهو في صلاة أو غيرها ، هذا مذهبنا ، وبه قال جمهور العلماء . وحكى أصحابنا عن الحسن البصري أنه إن شك وهو في صلاة فلا وضوء عليه ، وإن كان في غيرها لزمه الوضوء ، وحكى المتولي والرافعي وجها لأصحابنا مثله وعن مالك ثلاث روايات إحداها : مثله ، والثانية : يلزمه الوضوء بكل حال ، والثالثة : يستحب ودليل الجمهور ما ذكرهالمصنف مع قوله صلى الله عليه وسلم : " { لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا } " رواه البخاري ومسلم ، وسبق في أول الباب . [ ص: 75 ] قال أصحابنا : وسواء في الشك استوى احتمالان عنده أو ترجح أحدهما فالحكم سواء . وقد قدمت بيان هذه القاعدة في باب الشك في نجاسة الماء . قال إمام الحرمين : اتفق الأصحاب على أن من تيقن الوضوء وغلب على ظنه الحدث فله الأخذ بالوضوء ، قال : وقد ذكرنا قولين للشافعي رحمه الله في أن ما يغلب على الظن نجاسته هل يحكم بنجاسته ؟ قال : وكان شيخي يقول : الفرق بينهما أن الاجتهاد يتطرق إلى تمييز الطاهر من النجس ; لأن للنجاسة أمارات بخلاف الحدث والطهارة ، قال الإمام : وعندي من هذا فضل مباحثة فأقول تمييز الحيض من الاستحاضة ، والمني من غيره ، إنما هو بالصفات وهذا اجتهاد . فإطلاق القول بأن الاجتهاد لا يتطرق إلى الأحداث غير سديد ، ثم ذكر الإمام لنفسه فرقا بعبارة طويلة حاصله أن الأسباب التي تظن بها النجاسة كثيرة جدا ، وهي قليلة في الأحداث فلا مبالاة بالنادر منها فتعين التمسك بحكم اليقين . قال أصحابنا : وإذا تيقن الطهارة وشك في الحدث استحب أن يتوضأ ، فإن توضأ ودام الإشكال فوضوءه وصلاته صحيحان مجزيان ، وإن بان كونه كان محدثا ففي أجزائه وجهان سبقا في آخر نية الوضوء .

( المسألة الثالثة ) إذا علم أنه جرى منه بعد طلوع الشمس طهارة وحدث لا يعلم أسبقهما ففيه أربعة أوجه : أحدها : أنه بضد ما كان قبل طلوع الشمس ودليله ما ذكره المصنف وهذا الوجه هو قول أبي العباس بن القاص ذكره في باب المسح على الخف من كتابه التلخيص ، وبه قطع المصنف هنا وفي التنبيه ، وهكذا قطع به جمهور المصنفين فعلى هذا لو لم يعرف ما كان قبلهما لزمه الوضوء ، صرح به الدارمي والمتولي وغيرهما ; لأنهما تعارضا ، وما قبلهما لا يعرف ، ولا بد من طهارة متيقنة أو مظنونة أو مستصحبة وليس هنا شيء فوجب الوضوء ، والوجه الثاني : أنه يتعارض الأمران ويسقطان ويكون حكمه ما كان قبلهما فإن كان قبل طلوع الشمس متطهرا فهو الآن متطهر وإلا فمحدث ، [ ص: 76 ] وهذا الوجه حكاه جماعات من الخراسانيين وحكاه الدارمي وغيره عن ابن المرزبان .

قال الدارمي وغيره - ورجع عنه ابن المرزبان إلى قول ابن القاص حين بلغه ، وهذا الوجه غلط لا شك فيه ; لأنا علمنا بطلان ما قبلهما قطعا ، فكيف نحكم ببقائه ونعمل بمقتضاه . والوجه الثالث : يعمل بما يظنه ، فإن تساويا فمحدث ، وهذا الوجه اختاره الدارمي في الاستذكار . والوجه الرابع : يلزمه الوضوء بكل حال وهذا هو الأظهر المختار حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه ، وابن الصباغ والمتولي والروياني والشاشي وآخرون ، قال القاضي أبو الطيب : هو قول عامة أصحابنا ، وأشار ابن الصباغ إلى ترجيحه واختاره الدارمي في كتابه الاستذكار وغيره ورجحه غيره ، ودليله أن الطهارة والحدث - بعد طلوع الشمس - تعارضا فليس أحدهما أولى من الآخر وما قبلهما تحققنا بطلانه ولا بد من طهارة معلومة أو مظنونة أو مستصحبة فوجب الوضوء ، ثم إن الجمهور أطلقوا المسألة ، وقال المتولي والرافعي : صورتهما فيمن عادته تجديد الوضوء ، فأما من لم يعتده فالظاهر أن طهارته تكون بعد الحدث فيكون الآن متطهرا وتباح له الصلاة والله أعلم . وأما قول المصنف : لا يزال اليقين بالشك فمعناه حكم اليقين ، وقد سبق بيان هذه العبارة في باب الشك في نجاسة الماء . وقوله " الآن " هو الزمان الحاضر وأما قياسه على مسألة البراءة من الدين ، فكذا قاسه أصحابنا لكن صورها المتولي تصويرا حسنا مشابها لمسألة الحدث ، وقال " استشهد أصحابنا ، فقالوا : لو علمنا لزيد على عمرو ألف درهم فأقام عمرو بينة بالأداء أو الإبراء فأقام زيد بينة أن عمرا أقر له بألف درهم مطلقا لم يثبت بهذه البينة شيء لاحتمال أن الألف الذي أقر به هي الألف الذي علمنا وجوبه وقامت البينة ببراءته منه ولا تشغل ذمته بالاحتمال ولهذه المسألة فروع ، وتتمات سبق بيانها ، في آخر باب الشك في نجاسة الماء ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية