صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( والمستحب أن لا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة لما روي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه ، فإن عامة الوسواس منه } " ) .


( الشرح ) هذا الحديث حسن رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بإسناد حسن ، وروى حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة رضي الله عنه قال " { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله } " رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وإسناده صحيح . قال الخطابي : المستحم المغتسل سمي مستحما مشتقا من الحميم وهو الماء الحار الذي يغتسل به . وعبد الله بن مغفل ، بغين معجمة مفتوحة ثم فاء مشددة مفتوحة كنيته أبو سعيد ، وقيل أبو عبد الرحمن ، وقيل أبو زياد وهو ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة بيعة الرضوان توفي سنة ستين رضي الله عنه . واتفق أصحابنا على أن المستحب أن لا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة لئلا يترشش عليه وهذا في غير الأخلية المتخذة لذلك . أما المتخذ لذلك كالمرحاض فلا بأس فيه لأنه لا يترشش عليه ولأن في الخروج منه إلى غيره مشقة ، وقول المصنف والأصحاب : لا يستنجي بالماء في موضعه ، احتراز من الاستنجاء بالأحجار . فإن شرطه أن لا ينتقل عن موضعه كما سنوضحه إن شاء الله تعالى

[ ص: 108 ] فرع ) في مسائل تتعلق بآداب قضاء الحاجة ( إحداها ) قال أصحابنا لا بأس بالبول في إناء لما روت عائشة رضي الله عنها قالت " { يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي رضي الله عنه لقد دعا بالطست يبول فيها فانخنس فمات ، وما أشعر به } " هذا حديث صحيح رواه النسائي وابن ماجه والبيهقي في سننهم ، والترمذي في كتاب الشمائل هكذا ، ورواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بمعناه ، قالا : قالت فدعا بالطست ، ولم تقل ليبول فيها وهو محمول على الرواية الصحيحة الصريحة في البول ، والطست بالسين المهملة وهي أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت " { كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت السرير } " رواه أبو داود والنسائي والبيهقي ولم يضعفوه وأميمة ورقيقة ، بضم أولهما ، ورقيقة بقافين . وقولها : من عيدان هو - بفتح العين المهملة - وهي النخل الطوال المتجردة الواحدة عيدانة .

الثانية : يحرم البول في المسجد في غير إناء ، وأما في الإناء ففيه احتمالان لابن الصباغ ذكرهما في باب الاعتكاف . أحدهما : الجواز كالفصد والحجامة في إناء . والثاني : التحريم لأن البول مستقبح فنزه المسجد منه ، وهذا الثاني هو الذي اختاره الشاشي وغيره ، وهو الأصح المختار وجزم به صاحب التتمة في باب الاعتكاف ، ونقله العبدري في باب الاعتكاف عن الأكثرين .

الثالثة : يحرم البول على القبر ويكره البول بقربه . الرابعة : قال أصحابنا : يكره البول في الماء الراكد قليلا كان أو كثيرا لحديث جابر رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الراكد } " رواه مسلم . وفي الصحيحين نحوه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه . [ ص: 109 ] وأما الجاري فإن كان قليلا كره ، وإن كان كثيرا لا يكره ، هكذا قاله جماعة من أصحابنا وفيه نظر ، وينبغي أن يحرم البول في القليل مطلقا لأنه ينجسه ويتلفه على نفسه وعلى غيره ، وأما الكثير الجاري فلا يحرم لكن الأولى اجتنابه ، ومما ينهى عنه التغوط بقرب الماء ، صرح به الشيخ نصر في الانتخاب ، والكافي وهو واضح داخل في عموم النهي عن البول في الموارد .

الخامسة : قال أصحابنا : يكره استقبال الريح بالبول لئلا يرده عليه فيتنجس بل يستدبرها ، هذا هو المعتمد في كراهته ، وأما الحديث المروي عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره البول في الهواء } فضعيف بل قال الحافظ أبو أحمد بن عدي : إنه موضوع ، وجاء عن حسان بن عطية التابعي قال : يكره للرجل أن يبول في هواء وأن يتغوط على رأس جبل .

السادسة : قال أصحابنا يستحب أن يهيئ أحجار الاستنجاء قبل جلوسه ، لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " { إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار } " حديث حسن رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وغيرهم . قال الدارقطني : إسناده حسن صحيح . فهذا هو المعتمد ، وأما ما احتج به جماعة من أصحابنا من حديث " { اتقوا الملاعن وأعدوا النبل } " فليس بثابت فلا يحتج به ، والنبل - بضم النون وفتح الباء الموحدة - الأحجار الصغار .

السابعة : لا يجوز أن يبول على ما منع الاستنجاء به لحرمته كالعظم ، وسائر المطعومات .

الثامنة : قال إمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون : يستحب أن لا يدخل الخلاء مكشوف الرأس ، قال بعض أصحابنا فإن لم يجد شيئا وضع كمه على رأسه ، ويستحب أن لا يدخل الخلاء حافيا ، ذكره جماعة منهم أبو العباس بن سريج في كتاب الأقسام . وروى البيهقي بإسناده حديثا مرسلا ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء لبس حذاءه وغطى رأسه } " وروى البيهقي أيضا عن [ ص: 110 ] عائشة " { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء غطى رأسه وإذا أتى أهله غطى رأسه } " لكنه ضعيف ، قال البيهقي : وروي في تغطية الرأس عند دخول الخلاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو صحيح عنه ، قلت : وقد اتفق العلماء على أن الحديث المرسل والضعيف والموقوف يتسامح به في فضائل الأعمال ويعمل بمقتضاه وهذا منها .

التاسعة : قال صاحب البيان وغيره : يستحب لمن هو على قضاء الحاجة أن لا ينظر إلى فرجه ولا إلى ما خرج منه ولا إلى السماء ولا يعبث بيده . العاشرة : قال المصنف في التنبيه وكثيرون من أصحابنا يستحب أن لا يستقبل الشمس ولا القمر ، واستأنسوا فيه بحديث ضعيف ، وهو مخالف لاستقبال القبلة في أربعة أشياء . أحدها : أن دليل القبلة صحيح مشهور ، ودليل هذا ضعيف بل باطل ، ولهذا لم يذكره المصنف ، ولا كثيرون ولا الشافعي ، وهذا هو المختار ; لأن الحكم بالاستحباب يحتاج إلى دليل ، ولا دليل في المسألة . الثاني : يفرق في القبلة بين الصحراء والبناء كما سبق ، ولا فرق هنا ، صرح به المحاملي وآخرون . الثالث : النهي في القبلة للتحريم وهنا للتنزيه . الرابع : أنه في القبلة يستوي الاستقبال والاستدبار ، وهنا لا بأس بالاستدبار وإنما كرهوا الاستقبال ، هذا هو الصحيح المشهور ; وبه قطع المصنف في التنبيه والجمهور وقال الصيمري وأبو العباس الجرجاني في كتابه الشافي : يكره الاستدبار أيضا والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية