صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإذا أراد الاستنجاء نظرت فإن كانت النجاسة بولا أو غائطا ولم تجاوز الموضع المعتاد جاز الماء والحجر ، والأفضل أن يجمع بينهما لأن الله تعالى أثنى على أهل قباء ، فقال سبحانه وتعالى { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عما يصنعون ، فقالوا نتبع الحجارة الماء . فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل ; لأنه أبلغ في الإنقاء ، وإن أراد الاقتصار على الحجر جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت " { بال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عمر خلفه بكوز من ماء ، فقال ما هذا يا عمر ؟ قال ماء نتوضأ به ، فقال ما أمرت ، كلما بلت أن أتوضأ ، ولو فعلت لكان سنة } " ولأنه قد يبتلى بالخارج في مواضع لا يلحق الماء فيها ، فسقط وجوبه ) .


( الشرح ) أما حديث عائشة فرواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي في سننهم ، وهو حديث ضعيف ، والمراد بالوضوء هنا الاستنجاء بالماء . وقوله : لكان سنة أي واجبا لازما . ومعناه : لو واظبت على الاستنجاء بالماء لصار طريقة لي يجب اتباعها . وأما حديث أهل قباء فروي فيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " { نزلت هذه الآية في أهل قباء { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } وكانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية } " . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم ولم يضعفه أبو داود لكن إسناده ضعيف فيه يونس بن الحارث قد ضعفه الأكثرون وإبراهيم بن أبي ميمونة . وفيه جهالة . [ ص: 116 ] وعن عويم بن ساعدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال " { إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ قالوا والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود يغسلون أدبارهم فغسلنا كما غسلوا } " رواه أحمد بن حنبل في مسنده وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في صحيحه . وعن جابر وأبي أيوب وأنس رضي الله عنهم قالوا : { نزلت هذه الآية { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار قد أثنى الله عليكم في الطهور فما طهوركم ؟ قالوا : نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء . فقال هو ذلك فعليكموه } " رواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي رواية للبيهقي " فما طهوركم ؟ قالوا نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهل مع ذلك غيره ؟ قالوا لا ، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء قال : هو ذاك فعليكموه " وإسناد هذه الرواية ورواية ابن ماجه وغيره إسناد صحيح إلا أن فيه عتبة بن أبي حكيم وقد اختلفوا في توثيقه فوثقه الجمهور ، ولم يبين من ضعفه سبب ضعفه ، والجرح لا يقبل إلا مفسرا ، فيظهر الاحتجاج بهذه الرواية ، فهذا الذي ذكرته من طرق الحديث هو المعروف في كتب الحديث أنهم كانوا يستنجون بالماء ، وليس فيها ذكر الجمع بين الماء والأحجار . وأما قول المصنف : قالوا نتبع الحجارة الماء ، فكذا يقوله أصحابنا وغيرهم في كتب الفقه والتفسير . وليس له أصل في كتب الحديث ، وكذا قال الشيخ أبو حامد في التعليق : إن أصحابنا رووه . قال : ولا أعرفه . فإذا علم أنه ليس له أصل من جهة الرواية فيمكن تصحيحه من جهة الاستنباط ، لأن الاستنجاء بالحجر كان معلوما عندهم يفعله جميعهم ، وأما الاستنجاء بالماء فهو الذي انفردوا به فلهذا ذكر ولم يذكر الحجر لأنه مشترك بينهم وبين غيرهم ولكونه معلوما . فإن المقصود بيان فضلهم الذي أثنى الله تعالى عليهم بسببه ، ويؤيد هذا قولهم : إذا خرج أحدنا من الغائط أحب أن يستنجي بالماء ، فهذا يدل على أن استنجاءهم بالماء كان بعد خروجهم من الخلاء ، والعادة جارية بأنه لا يخرج من الخلاء إلا بعد التمسح بماء أو حجر ، وهكذا [ ص: 117 ] المستحب أن يستنجي بالحجر في موضع قضاء الحاجة ويؤخر الماء إلى أن ينتقل إلى موضع آخر والله أعلم . وقباء - بضم القاف : يذكر ويؤنث وفيه لغتان المد والقصر . قال الخليل : مقصور ، وقال الأكثرون : ممدود ، ويجوز فيها أيضا الصرف وتركه ، والأفصح الأشهر مده وتذكيره وصرفه وهو قرية على ثلاثة أميال من المدينة وقيل أصله اسم بئر هناك ، وثبت في الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء كل سبت راكبا وماشيا ويصلي فيه } والله أعلم .

( وأما حكم المسألة ) فقال أصحابنا : يجوز الاقتصار في الاستنجاء على الماء ويجوز الاقتصار على الأحجار ; والأفضل أن يجمع بينهما فيستعمل الأحجار ثم يستعمل الماء فتقديم الأحجار لتقل مباشرة النجاسة واستعمال الماء ، ثم يستعمل الماء ليطهر المحل طهارة كاملة فلو استنجى أولا بالماء لم يستعمل الأحجار بعده لأنه لا فائدة فيه ، صرح به الماوردي وآخرون وهو واضح ، وإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لأنه يطهر المحل ، ولا فرق في جواز الاقتصار على الأحجار بين وجود الماء وعدمه ، ولا بين الحاضر والمسافر ، والصحيح والمريض . هذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم . وحكى ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص وحذيفة وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم كانوا لا يرون الاستنجاء بالماء ، وعن سعيد بن المسيب قال ما يفعل ذلك إلا النساء وقال عطاء : غسل الدبر محدث . قال القاضي أبو الطيب وغيره قالت الزيدية والقاسمية من الشيعة : لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء . فأما سعيد وموافقوه فكلامهم محمول على أن الاستنجاء بالماء لا يجب ، أو أن الأحجار عندهم أفضل ; وأما الشيعة فلا يعتد بخلافهم ومع هذا فهم محجوجون بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء بالأحجار وأذن فيه وفعله ، وقد سبقت جملة من الأحاديث وسنذكر الباقي في مواضعها إن شاء الله تعالى .

[ ص: 118 ] وأما الدليل على جوازه بالماء فأحاديث كثيرة صحيحة مشهورة منها حديث أنس { كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الخلاء فأتبعه أنا وغلام بإداوة من ماء فيستنجي بها } " رواه البخاري ومسلم . وعن عائشة أنها قالت لنسوة " { مرن أزواجكن أن يستنجوا بالماء فإني أستحييهم وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله } " حديث صحيح رواه أحمد والترمذي والنسائي وآخرون ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وعن أبي هريرة : { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة فاستنجى ثم مسح يده على الأرض ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ } " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي ، ولم يضعفه أبو داود ولا غيره وإسناده صحيح إلا أن فيه شريك بن عبد الله القاضي وقد اختلفوا في الاحتجاج به وفي المسألة أحاديث كثيرة غير ما ذكرنا . قال الخطابي : وزعم بعض المتأخرين أن الماء مطعوم فلهذا كره الاستنجاء به سعد وموافقوه ، وهذا قول باطل منابذ للأحاديث الصحيحة والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية