صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن أراد الاقتصار على الحجر لزمه أمران : ( أحدهما ) أن يزيل العين حتى لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء ( والثاني ) أن يستوفي ثلاث مسحات لما روي { أن رجلا قال لسلمان رضي الله عنه ( أنه علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة ؟ قال : أجل نهانا أن نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار } ) فإن استنجى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه لأن القصد عدد المسحات وقد وجد ذلك ) .


( الشرح ) حديث سلمان رواه مسلم في صحيحه ووقع في المهذب " نهانا أن نجتزئ " والذي في مسلم نستنجي بدل " نجتزئ " وفي رواية لمسلم قال : " { ولا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار } " وقوله الخراءة - هي بكسر الخاء وبالمد . قال الخطابي : هي أدب التخلي والقعود عند الحاجة وسلمان الراوي هو أبو عبد الله سلمان الفارسي الأصبهاني ، من فضلاء الصحابة وفقهائهم وزهادهم وعبادهم ومناقبه أكثر من أن تحصر وهو مولى النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 119 ] توفي بالمدائن سنة ست وثلاثين ، وقيل سبع ، وعمر عمرا طويلا جدا ، واتفقوا على أنه عاش مائتين وخمسين سنة . واختلفوا في الزيادة عليها فقيل ثلثمائة وخمسين . وقيل غير ذلك والله أعلم .

( وأما حكم المسألة ) فمن اقتصر على الحجر لزمه أمران : أحدهما : أن يزيل العين حتى لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء ، هكذا نص عليه الشافعي في الأم ومختصر المزني بهذا اللفظ ، وكذا قاله الأصحاب في كل الطرق إلا الصيمري وصاحبه صاحب الحاوي فقال : إذا بقي ما لا يزول بالحجر ويزول بصغار الخزف والخرق ففيه وجهان . أحدهما : وهو ظاهر مذهب الشافعي . وقول أكثر الأصحاب تجب إزالته لأنها ممكنة بغير الماء . والثاني : وهو قول بعض المتقدمين لا يجب لأن الواجب الإزالة بالأحجار وقد أزال ما يزول بالأحجار ، ورجح الروياني هذا الثاني وهو الصواب ، لأن الشرع لم يكلفه غير الأحجار ، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة المصرحة بإجزاء الأحجار .

( الثاني ) أنه يلزمه ثلاث مسحات وإن حصل الإنقاء بمسحة واحدة ، نص عليه الشافعي في الأم ، واتفق عليه جماهير الأصحاب في كل الطرق .

وحكى الحناطي - بالحاء المهملة والنون - وصاحب البيان والرافعي وجها أنه إذا حصل الإنقاء بحجر كفاه وهذا شاذ ضعيف ، والصواب وجوب ثلاث مسحات مطلقا ، ثم هو مخير بين المسح بثلاثة أحجار أو بحجر له ثلاثة أحرف ، هكذا نص عليه الشافعي في الأم وغيره ، واتفق عليه الأصحاب وفرقوا بينه وبين من رمى الجمار في الحج ، بحجر له ثلاثة أحرف فإنه لا يحسب له إلا حجر واحد لأن المقصود هناك عدد الرمي ، والمقصود هنا عدد المسحات . قال الشافعي والأصحاب : والمسح بثلاثة أحجار أفضل من أحرف حجر ، للحديث " { وليستنج بثلاثة أحجار } " . [ ص: 120 ] وقال المحاملي وغيره : ولو بال وتغوط فالمستحب أن يمسح بستة أحجار فإن مسحهما بحجر له ستة أحرف ست مسحات أجزأه لحصول المسحات . قال ابن الصباغ وغيره : وكذا الخرقة الغليظة التي إذا مسح بأحد وجهيها لا يصل البلل إلى الجانب الآخر يجوز أن يمسح بوجهيها ، ويحسب مسحتين . وحكى الدارمي في الاستذكار عن ابن جابر أنه لا يجزئه حجر له ثلاثة أحرف وأظنه أراد بابن جابر : إبراهيم بن جابر من أصحابنا ، وحينئذ يكون وجها شاذا في المذهب وهو رواية عن أحمد بن حنبل واختاره ابن المنذر للحديث . قال أصحابنا : وإذا حصل الإنقاء بثلاثة أحجار بلا زيادة ، فإن لم يحصل بثلاثة وجب رابع . فإن حصل به استحب خامس ولا يجب ، فإن لم يحصل وجب خامس . فإن حصل به فلا زيادة وإلا وجب سادس . فإن حصل به استحب سابع ولا يجب وإلا وجب ، وهكذا أبدا متى حصل بثلاثة فما فوقها لم تجب زيادة . وأما الاستحباب فإن كان حصول الإنقاء بوتر لم يستحب الزيادة وإلا استحب الإيتار لقوله صلى الله عليه وسلم " { من استجمر فليوتر } " رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة ، وحكى صاحب البيان وجها أن الإيتار بخامس واجب لعموم الأمر بالإيتار ، وهذا الوجه شاذ ، فإن الأمر بالإيتار بعد الثلاث للاستحباب والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في عدد الأحجار ، قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب ثلاث مسحات ، وإن حصل الإنقاء بدونها ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور ، وقال مالك وداود : الواجب الإنقاء ، فإن حصل بحجر أجزأه وهو وجه لنا كما سبق ، وحكاه العبدري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال أبو حنيفة حيث أوجب الاستنجاء . واحتجوا بحديث أبي هريرة السابق " { من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج } " قالوا : ولأن المقصود الإنقاء لأنه لو استنجى بالماء لم يشترط عدد فكذا الحجر . [ ص: 121 ] واحتج أصحابنا بحديث سلمان . وهو صريح في وجوب الثلاث ، وبحديث أبي هريرة : " { وليستنج بثلاثة أحجار } " وهما صحيحان ، سبق بيانهما ، وبحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " { إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن ، فإنها تجزئ عنه } " وهو صحيح - سبق بيانه في مسألة وجوب الاستنجاء . وبحديث أبي هريرة " { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة } " رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة ( الرمة ) بكسر الراء : العظم البالي - وبحديث خزيمة { سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة فقال : بثلاثة أحجار } " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي ولم يضعفه أبو داود ولا غيره .

وبحديث ابن مسعود " { أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط ، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار ، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد ، فأخذت روثة فأتيته بها ، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال إنها ركس } " رواه البخاري هكذا ، ورواه أحمد والدارقطني والبيهقي ، في بعض رواياته زيادة " فألقى الروثة وقال ائتني بحجر ، يعني ثالثا " وفي بعضها " ائتني بغيرها " وبحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { من استجمر فليوتر } " رواه مسلم ، وفي رواية لأحمد والبيهقي : " { وإذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثا } " قال البيهقي : هذه الرواية تبين أن المراد بالإيتار في الرواية الأولى ما زاد على الواحد .

واحتجوا من القياس بأشياء كثيرة ، منها قياس القاضيين أبي الطيب وحسين في تعليقيهما : عبادة تتعلق بالأحجار ، يستوي فيها الثيب والأبكار ، فكان للعدد فيها اعتبار ، قياسا على رمي الجمار . قال أبو الطيب : قولنا يستوي فيها الثيب والأبكار احتراز من الرجم ، ولا حاجة إلى الأقيسة مع هذه الأحاديث الصحيحة ، قال الخطابي في حديث سلمان : " { أمرنا أن نستنجي بثلاثة أحجار } " . [ ص: 122 ] في هذا البيان الواضح أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز ; وإن حصل الإنقاء بدونها . ولو كفى الإنقاء لم يكن لاشتراط العدد معنى ، فإنا نعلم أن الإنقاء قد يحصل بواحد ، وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى ، لأنه يزيل العين والأثر ، فدلالته قطعية ، فلم يحتج إلى الاستظهار بالعدد . وأما الحجر فلا يزيل الأثر ، وإنما يفيد الطهارة ظاهرا لا قطعا ، فاشترط فيه العدد كالعدة بالأقراء ، لما كانت دلالتها ظنا اشترط فيها العدد ، وإن كان قد تحصل براءة الرحم بقرء . ولهذا اكتفي بقرء في استبراء الأمة ، ولو كانت العدة بالولادة لم يشترط العدد ، لأن دلالتها قطعية . هذا مختصر كلام الخطابي . فإن قيل : التقييد بثلاثة أحجار ، إنما كان لأن الإنقاء لا يحصل بدونها غالبا ، فخرج مخرج الغالب ، قلنا : لا يجوز حمل الحديث على هذا ; لأن الإنقاء شرط بالاتفاق ، فكيف يحل به ويذكر ما ليس بشرط مع كونه موهما للاشتراط . فإن قيل : فقد ترك ذكر الإنقاء ، قلنا ذلك من المعلوم الذي يستغنى بظهوره عن ذكره بخلاف العدد ، فإنه لا يعرف إلا بتوقيف . فنص على ما يخفى وترك ما لا يخفى ، ولو حمل على ما قالوه لكان إخلالا بالشرطين معا ، وتعرضا لما لا فائدة فيه ، بل فيه إبهام . والجواب عن الحديث الذي احتجوا به أن الوتر الذي لا حرج في تركه هو الزائد على ثلاثة جمعا بين الأحاديث . والجواب عن الدليلين الآخرين سبق في كلام الخطابي ، والله أعلم

( فرع ) قال أصحابنا : لو مسح ذكره مرتين أو ثلاثة ثم خرجت منه قطرة ، وجب استئناف الثلاث .

التالي السابق


الخدمات العلمية