صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وما له حرمة من المطعومات كالخبز والعظم لا يجوز الاستنجاء به . لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالعظم ، وقال : " هو زاد إخوانكم من الجن " فإن خالف واستنجى به لم يجزئه ، ولأن الاستنجاء بغير الماء رخصة ، والرخص لا تتعلق بالمعاصي ) .


( الشرح ) أما حديث النهي عن الاستنجاء بالعظم فصحيح ، رواه جماعة من الصحابة ، منهم سلمان وجابر وأبو هريرة ورويفع ، وأحاديثهم صحيحة تقدمت قريبا في الفرع . وأما قوله : وقال : " هو زاد إخوانكم من الجن " فقد رواه مسلم في صحيحه بإسناده عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل ، قال في آخره وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " { لا تستنجوا بالعظم والبعرة فإنهما طعام إخوانكم } " يعني الجن ، ورواه مسلم من طريق آخر ولم يذكر هذه الزيادة فيه ، ورواه من طريق ثالث عن داود بن أبي هند عن الشعبي ولم يذكر هذه الزيادة ، ثم قال : قال الشعبي : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " { لا تستنجوا بالعظم والبعر } " قال الترمذي : كأن هذه الرواية أصح . يعني فيكون مرسلا ( قلت ) لا يوافق الترمذي ، بل المختار أن هذه الزيادة متصلة .

( وأما حكم المسألة ) فلا يجوز الاستنجاء بعظم ولا خبز ولا غيرهما من المطعوم لما سبق ، فإن خالف واستنجى به عصى ولا يجزئه . هكذا نص عليه الشافعي وقطع به الجمهور ، وفيه وجه أنه يجزئه إن كان العظم طاهرا لا زهومة عليه ، حكاه الخراسانيون لحصول المقصود ، والصحيح الأول ; لأنه رخصة فلا تحصل بحرام ، وقد اتفقوا على تحريمه ، وإذا لم يجزئه [ ص: 136 ] المطعوم كفاه بعده الحجر بلا خلاف ، إن لم ينشر النجاسة ولم يكن على العظم زهومة . قال الماوردي : ولو أحرق عظم طاهر بالنار وخرج عن حال العظم فوجهان أحدهما : يجوز الاستنجاء به لأن النار أحالته ، والثاني : لا يجوز لعموم الحديث في النهي عن الرمة وهي العظم البالي ، ولا فرق بين البالي بنار أو مرور الزمان ، وهذا الثاني أصح والله أعلم .

( فرع ) اتفق أصحابنا على تحريم الاستنجاء بجميع المطعومات كالخبز واللحم والعظم وغيرها ، وأما الثمار والفواكه فقسمها الماوردي تقسيما حسنا فقال : منها ما يؤكل رطبا لا يابسا ، كاليقطين فلا يجوز الاستنجاء به رطبا ويجوز يابسا إذا كان مزيلا ، ومنها ما يؤكل رطبا ويابسا وهو أقسام .

( أحدها ) مأكول الظاهر والباطن كالتين والتفاح والسفرجل وغيرها ، فلا يجوز الاستنجاء بشيء منه رطبا ولا يابسا .

( والثاني ) ما يؤكل ظاهره دون باطنه كالخوخ والمشمش وكل ذي نوى فلا يجوز بظاهره ، ويجوز بنواه المنفصل .

( والثالث ) ما له قشر ومأكوله في جوفه كالرمان ، فلا يجوز الاستنجاء بلبه ، وأما قشره فله أحوال : ( أحدها ) لا يؤكل رطبا ولا يابسا كالرمان فيجوز الاستنجاء بالقشر ، وكذا لو استنجى برمانة فيها حبها جاز إذا كانت مزيلة .

( والثاني ) يؤكل قشره رطبا ويابسا كالبطيخ فلا يجوز رطبا ولا يابسا .

( والثالث ) يؤكل رطبا لا يابسا كاللوز والباقلاء ، فيجوز بقشره يابسا لا رطبا ، وأما ما يأكله الآدميون والبهائم ، فإن كان أكل البهائم له أكثر جاز ، وإن كان أكل الآدميين له أكثر لم يجز ، وإن استويا فوجهان ، من اختلاف أصحابنا في ثبوت الربا فيه ، هذا كلام الماوردي ، وذكر الروياني نحوه ، قال [ ص: 137 ] البغوي : إن استنجى بما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز اليابس كره وأجزأه ، فإن انفصل القشر جاز الاستنجاء به بلا كراهة ، والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : ومن الأشياء المحتمة التي يحرم الاستنجاء بها الكتب التي فيها شيء من علوم الشرع ، فإن استنجى بشيء عالما أثم . وفي سقوط الفرض الوجهان : الصحيح لا يجزئه ، فعلى هذا تجزئه الأحجار بعده ، ولو استنجى بشيء من أوراق المصحف والعياذ بالله عالما صار كافرا مرتدا ، نقله القاضي حسين والروياني وغيرهما ، والله أعلم .

( فرع ) لو استنجى بقطعة ذهب أو فضة ، ففي سقوط الفرض به وجهان ، حكاهما الماوردي وآخرون ، قال الماوردي والرافعي : الصحيح سقوطه ولو استنجى بقطعة ديباج سقط الفرض على المشهور ، وطرد الماوردي فيه الوجهين ، وطردهما أيضا في الاستنجاء بحجارة الحرم ، قال : وظاهر المذهب سقوط الفرض بكل ذلك ; لأن لماء زمزم حرمة تمنع الاستنجاء به ، ثم لو استنجى به أجزأه بالإجماع .

( فرع ) قال الشافعي في البويطي : ولا يستنجي بعظم ذكي ولا ميت للنهي عن العظم مطلقا ، وقال في الأم : ولا يستنجي بعظم للخبر ، فإنه - وإن كان غير نجس - فليس هو بنظيف ، وإنما الطهارة بنظيف طاهر ، ولا أعلم شيئا في معنى عظم إلا جلد ذكي غير مدبوغ ، فإنه ليس بنظيف ، وإن كان طاهرا ، وأما الجلد المدبوغ ، فنظيف طاهر . هذا نصه في الأم وقال في مختصر المزني : والفرق بين أن يستطيب بيمينه فيجزئه ، وبالعظم فلا يجزئ أن اليمين أداة ، والنهي عنها أدب ، والاستطابة طهارة ، والعظم ليس بطاهر . هذا نصه في المختصر ، واعترض على قوله : والعظم ليس بطاهر ، فإن العظم لا يصح الاستنجاء به طاهرا كان أو نجسا ، واختلف أصحابنا في هذا الكلام على ثلاثة أوجه : ( أحدها ) أن هذا غلط من المزني ، وإنما قال الشافعي : والعظم ليس بنظيف ، كما سبق عن الأم ، وأراد بقوله : ليس بنظيف أن عليه سهوكة ، قال الماوردي : وهذا قول أبي إسحاق المروزي ، وبه قطع القاضي أبو الطيب . [ ص: 138 ] والثاني ) أن نقل المزني صحيح ، وقوله : ليس بطاهر ، أي ليس بمطهر ، قال الماوردي : وهذا تأويل أبي علي بن أبي هريرة .

( والثالث ) أنه ذكر إحدى العلتين في العظم النجس ; لأن العظم النجس يمتنع الاستنجاء به لعلتين : إحداهما : كونه نجسا ، والأخرى كونه مطعوما والعظم الطاهر يمتنع لكونه مطعوما فقط ، قال الماوردي هذا تأويل أبي حامد الإسفراييني ، واختار الأزهري الوجه الأول ، وهو تغليط المزني وبسط الكلام فيه ، وفي الفرق بين النظيف والطاهر ، قال : فما فيه زهومة أو رائحة كريهة فهو طاهر ليس بنظيف ، وذلك كالعظم وجلد المذكى قبل الدباغ ، هذا تفصيل مذهبنا وقال أبو حنيفة ومالك : يصح الاستنجاء بالعظم ، وممن قال : لا يجوز ، أحمد وداود .

التالي السابق


الخدمات العلمية