صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن استنجى بجلد مدبوغ ففيه قولان ، قال في حرملة : لا يجوز لأنه كالرمة ، وقال في الأم : يجوز لأنه إن كان لينا فهو كالخرق ، وإن كان خشنا فهو كالخزف وإن استنجى بجلد حيوان مأكول اللحم مذكى غير مدبوغ ففيه قولان ، قال في الأم وحرملة : لا يجوز ; لأنه لا يقلع النجو للزوجته ، وقال في البويطي : والأول هو الصحيح المشهور ) .


( الشرح ) حاصل ما ذكره ثلاثة أقوال .

( أصحها ) عند الأصحاب يجوز بالمدبوغ دون غيره ، وهو نصه في الأم .

( والثاني ) يجوز بهما قاله في البويطي .

( والثالث ) لا يجوز بواحد منهما ، قاله في حرملة ، وحكى إمام الحرمين طريقا آخر وهو القطع بنصه في الأم ، وتأويل الآخرين ، ودليل الجمع ذكره المصنف ، ثم لا فرق في المدبوغ بين المذكى والميتة ، لأنهما طاهران قالعان ، هذا هو الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور ، وفيه وجه أنه لا يجوز بجلد الميتة المدبوغ وإن جاز بالمدبوغ المذكى تفريعا على قولنا : لا يجوز بيعه ، حكاه جماعة منهم الماوردي عن أبي علي بن أبي هريرة وليس بشيء . هذه طريقة الأصحاب كلهم إلا المتولي فإنه انفرد بطريقة غريبة فقال : إن كان جلد مذكى واستنجى بالجانب الذي يلي اللحم فهو كما لو استنجى بمطعوم ; لأنه مما يؤكل في الجملة ، وإن استنجى بالجانب الذي عليه الشعر - وشعره كثير - جاز ، وإن كان الجلد مدبوغا ، وهو جلد مذكى جاز ، وإن كان جلد ميتة فقولان بناء على أن الدباغ هل يطهر باطن الجلد أم لا ، والله أعلم . فإن قيل : الجلد مأكول ، فكيف جوزتم الاستنجاء به ؟ فالجواب ما أجاب به الأصحاب أنه غير مأكول عادة ولا مقصود بالأكل ، ولهذا جاز بيع جلدين بجلد ، والله أعلم . [ ص: 140 ] وقول المصنف : كالرمة هي - بكسر الراء وتشديد الميم - وهو العظم البالي ، كذا قاله الشافعي في الأم وأصحابنا وغيرهم ، قال الخطابي : سميت العظام رمة ; لأن الإبل ترمها أي تأكلها ، وإنما قاس المصنف عليها لأن النص ثبت فيها ، كما سبق في الأحاديث ، والله أعلم .

( فرع ) في مسائل تتعلق بالفصل ( إحداها ) قال الشافعي رحمه الله في الأم والمختصر : " ولا يستنجي بحجر قد استنجى به مرة إلا أن يكون طهر بالماء " واتفق الأصحاب على أنه إذا استنجى بحجر ثم غسل ويبس جاز الاستنجاء به ثانية ، فإن غسل ويبس جاز ثالثة ، وهكذا أبدا ، ولا يكره ذلك كما لا يكره أن يصلي في الثوب مرات ، بخلاف رمي الجمار في الحج ، فإنه يكره أن يرمي بحصاة قد رمى بها هو أو غيره ; لأنه جاء أن ما تقبل منها رفع ، وما لم يتقبل ترك ، ولأن المطلوب تعدد المرمي به ، ولو غسله ثم استنجى به - والماء باق عليه - لم يصح ، فإن انبسطت النجاسة تعين الاستنجاء بالماء وإلا فقد قال إمام الحرمين : كان شيخي يقول : يتعين الماء أيضا لأن ذلك البلل ينجس بملاقاة النجاسة فيصير في حكم نجاسة أجنبية فيتعين الماء . قال إمام الحرمين : ولي في هذا نظر ; لأن عين الماء لا تنقلب نجسا ، وإنما تجاور النجاسة أو تخالطها ، هذا كلام الإمام ، والمختار قول شيخه ، وهو مقتضى كلام غيره ، وإن غسله ولم يبق عليه ماء وبقيت رطوبة فوجهان حكاهما ابن كج والدارمي وصاحبا الحاوي والبحر وغيرهم . أصحهما : لا يصح الاستنجاء به ، وبه قطع القاضي أبو الطيب والشيخ أبو محمد والقاضي حسين وصاحبا التتمة والتهذيب وآخرون . وحكى صاحب البيان عن الصيمري وجها ثالثا : إن كانت الرطوبة يسيرة صح وإلا فلا .

( فرع ) إذا استنجى بحجر فحصل به الإنقاء ثم استعمل حجرا ثانيا وثالثا ولم يتلوثا ففي جواز استعمالهما مرة أخرى من غير غسلهما وجهان ، حكاهما القاضي حسين وصاحبا التتمة والبحر ، أصحهما : يجوز لأنهما طاهران ، صححه الشاشي والرافعي ، وقطع به البغوي ، والثاني : لا يجوز لأنه تبعد سلامته من نجاسة خفيفة ، وقياسا على الماء المستعمل .

[ ص: 141 ] فرع ) لو رأى حجرا شك في استعماله جاز استعماله ; لأن الأصل طهارته ، والمستحب تركه أو غسله ، ولو علم أنه مستعمل ، وشك في غسله لم يجز استعماله لأن الأصل بقاء النجاسة عليه .

( فرع ) قال الماوردي : إذا جف ورق الشجر ظاهره وباطنه أو ظاهره ، جاز الاستنجاء به إن كان مزيلا ، وإن كان ندي الظاهر ففيه الوجهان في الحجر الندي .

( المسألة الثانية ) ورق الشجر الذي يكتب عليه والحشيش اليابسات . قال الماوردي وغيره : إن كان خشنا مزيلا جاز الاستنجاء به وإلا فلا .

( الثالثة ) نص الشافعي رحمه الله في البويطي ومختصر الربيع جواز الاستنجاء بالتراب . قال أصحابنا : أراد إذا كان مستحجرا تمكن الإزالة به ، فإن كان دقيقا لا تمكن الإزالة به لم يجزئ ; لأنه تعلق بالمحل . هكذا ذكره الجمهور منهم الماوردي والفوراني وإمام الحرمين ، ونقله الروياني عن أصحابنا ، وذكر المتولي والروياني وجها أنه يجوز بالتراب وإن كان رخوا ، للحديث السابق في الاستنجاء بثلاث حثيات من تراب ، وهذا الوجه غلط والحديث باطل ، فقد قدمنا أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر بالحجر فلا يجزئ إلا الحجر وما في معناه ، وليس التراب الرخو في معناه ، قال القاضي حسين : فعلى هذا الوجه الضعيف يجب أربع مسحات ويستحب خامسة للإيتار ، وهذا كله ليس بشيء .

( الرابعة ) قال المحاملي وصاحبا البحر والبيان وغيرهم : قال الشافعي رحمه الله في حرملة : إذا نتف الصوف من الغنم واستنجى به كرهته وأجزأه . قالوا : وإنما كرهه لأن فيه تعذيب الحيوان ، فأما الاستنجاء بالصوف فليس بمكروه ، فإن أخذه من شاة بعد ذكاتها أو جزه في حياتها فلا كراهة .

( الخامسة ) نص الشافعي رحمه الله على جواز الاستنجاء بالآجر . قال أصحابنا : قاله على عادة أهل عصره بالحجاز ومصر ، أنهم لا يخلطون بترابه السرجين ، فأما ما خلط به فلا يجوز ، وقيل : بل علم بخلطه بالسرجين [ ص: 142 ] وجوزه ; لأن النار تحرق السرجين ، فإذا غسل طهر ظاهره ، وهذا الوجه ضعيف ، وسنذكر المسألة مبسوطة في آخر باب إزالة النجاسة حيث ذكرها المصنف إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية