صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن أحدث وأجنب ففيه ثلاثة أوجه : ( أحدها ) أنه يجب الغسل ويدخل فيه الوضوء وهو المنصوص في الأم لأنهما طهارتان فتداخلتا كغسل الجنابة وغسل الحيض .

( والثاني ) أنه يجب عليه الوضوء والغسل لأنهما حقان مختلفان ، يجبان بسببين مختلفين ، فلم يدخل أحدهما في الآخر كحد الزنا والسرقة . ( والثالث ) أنه يجب أن يتوضأ مرتبا ويغسل سائر البدن لأنهما متفقان في الغسل ، ومختلفان في الترتيب ، فما اتفقا فيه تداخلا ، وما اختلفا فيه لم يتداخلا ، قال الشيخ الإمام رحمه الله وأحسن توفيقه : وسمعت شيخنا أبا حاتم القزويني يحكي فيه وجها رابعا : أنه يقتصر على الغسل إلا أنه يحتاج أن ينويهما ، ووجهه لأنهما عبادتان متجانستان صغرى وكبرى فدخلت الصغرى في الكبرى في الأفعال دون النية كالحج والعمرة ) .


( الشرح ) للجنب ثلاثة أحوال : حال يكون جنبا لم يحدث الحدث الأصغر وحال يحدث ثم يجنب ، وحال يجنب ثم يحدث . فالحال الأول يجنب بلا حدث فيكفيه غسل البدن ولا يلزمه الوضوء بلا خلاف عندنا - كما سبق بيانه ودليله - وله أن يصلي بذلك الغسل من غير وضوء ، ويكون الوضوء سنة في الغسل كما سبق . [ ص: 224 ] قال أصحابنا : ويتصور أن يكون جنبا غير محدث في صور ، أشهرها أن ينزل المتطهر المني من غير مباشرة تنقض الوضوء بنظر أو استمناء أو مباشرة فوق حائل أو في النوم قاعدا ، فهذا جنب بلا خلاف وليس محدثا على المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور ، وأطبقوا على تصوير انفراد الجنابة عن الحدث به ، وفيه وجه للقاضي أبي الطيب أنه جنب محدث ، وقد سبقت المسألة في باب ما ينقض الوضوء . ( الصورة الثانية ) : أن يلف على ذكره خرقة ويولجه في امرأة فلا وضوء عليه ، ويجب الغسل على المذهب ، وفيه خلاف سبق في الباب قبله .

( الصورة الثالثة ) : أن يولج في فرج بهيمة أو دبر رجل فيكون جنبا ولا يكون محدثا لأنه لم يمس فرج آدمي بباطن كفه ، وهذه الصورة ذكرها أبو الفرج الدارمي وإمام الحرمين والرافعي وغيرهم وهي أوضح من غيرها ، هذه الصور الثلاث هي المشهورة قال الرافعي : وألحق بها المسعودي الجماع مطلقا ، وقال : إنه يوجب الجنابة لا غير قال : واللمس الذي يتقدمه يصير مغمورا به كما أن خروج الخارج بالإنزال ينغمر ، ولأنه لو جامع المحرم بالحج لزمه بدنة ، وإن كان يتضمن اللمس ، ومجرد اللمس يوجب شاة قال الرافعي : وعند الأكثرين يحصل بالجماع الحدثان ولا يندفع أثر اللمس بخلاف اندفاع أثر خروج الخارج لأن اللمس يسبق حقيقة الجماع ، فيجب ترتيب حكمه عليه ، فإذا تمت حقيقة الجماع وجب أيضا حكمها ، وفي الإنزال لا يسبق خروج الخارج الإنزال ، بل إذا أنزل حصل خروج الخارج وخروج المني معا ، وخروج المني أعظم الحدثين ، فيدفع حلوله حلول الأصغر مقترنا به .

وأما مسألة المحرم فممنوعة على وجه وإن سلمنا ففي الفدية معنى الزجر والمؤاخذة ، وسبيل الجنايات اندراج المقدمات في المقاصد ولهذا لو انفردت مقدمات الزنا أوجب تعزيرا فإذا انضمت إليه لم يجب التعزير مع الحد ، وأما هنا فالحكم منوط بصورة اللمس ; ولهذا استوى عمده وسهوه والله أعلم . الحال الثاني : أن يحدث ثم يجنب ، كما هو الغالب ، ففيه الأوجه الأربعة [ ص: 225 ] التي ذكرها المصنف ، الصحيح عند الأصحاب وهو المنصوص في الأم أنه يكفيه إفاضة الماء على البدن ويصلي به بلا وضوء ( والثاني ) : يجب الوضوء مرتبا ، وغسل جميع البدن ، فتكون أعضاء الوضوء مغسولة مرتين ، وعلى هذا له أن يقدم الوضوء وله أن يؤخره إلى ما بعد فراغه من الغسل وله أن يواسطه في أثناء الغسل ، والأفضل تقديمه ( والثالث ) : يجب الوضوء مرتبا وغسل باقي البدن ولا يجب إعادة غسل أعضاء الوضوء وله تقديم الوضوء وتأخيره كما ذكرناه ( والرابع ) : يكفيه غسل جميع البدن بلا وضوء بشرط أن ينوي الوضوء والغسل ، فإن اقتصر على نية الغسل لزمه الوضوء أيضا ، وقد ذكر المصنف أدلة الأوجه . الحال الثالث : أن يجنب من غير حدث ثم يحدث فهل يؤثر الحدث ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) : لا يؤثر فيكون جنبا غير محدث ، حكاه الدارمي عن ابن القطان ، وحكاه الماوردي عن جمهور الأصحاب ، فعلى هذا يجزيه الغسل بلا وضوء قطعا .

( والثاني ) : يؤثر فيكون جنبا محدثا وتجري فيه الأوجه الأربعة ، وبه قطع القاضي أبو الطيب والمحاملي وابن الصباغ والشيخ نصر في كتابيه الانتخاب والتهذيب والبغوي وآخرون ، وفيه وجه ثالث حكاه القاضي حسين أنه لا يدخل هنا الوضوء في الغسل قطعا ; بل لا بد منهما ، وفرق بينه وبين ما إذا تقدم الحدث فإن فيه الأوجه الأربعة بأن هناك وردت الجنابة على أضعف منها فرفعته ، وهنا عكسه فأشبه الحج والعمرة يدخل الأقوى على الأضعف ولا ينعكس على المذهب ، وهذا الوجه غلط وخيال عجيب الأصح أنه كتقدم الحدث فتجيء فيه الأوجه الأربعة ، وحيث أوجبنا الوضوء فقد ذكرنا أنه يجوز تقديمه وتأخيره ، والأفضل تقديمه وإذا قدمه فهل يقدم غسل الرجلين معه ؟ أم يؤخرهما ؟ فيه الخلاف السابق في أول الباب ، وكذا الكلام في نية هذا الوضوء تقدم في أول الباب . وعلى الأوجه كلها لا يشرع وضوءان في جميع الأحوال بلا خلاف . وقد نقل الرافعي وآخرون الاتفاق على أنه لا يشرع وضوءان ، ولعله مجمع عليه ويحتج له بحديث عائشة " { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة } " رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه قال الترمذي : حديث حسن صحيح . [ ص: 226 ]

وأما قول المصنف لأنهما حقا مختلفان فاحتراز من غسل الحيض والجنابة . وقوله " يجبان بسببين " احتراز من الحج والعمرة . وقوله " مختلفين " احتراز ممن زنى وهو بكر فلم يحد حتى زنى وهو محصن ، فإنه يقتصر على رجمه على أحد القولين ، وكذا المحرم إذا لبس ثم لبس في مجالس قبل أن يكفر عن الأول فإنه تجب كفارة واحدة في أحد القولين . وقوله في تعليل الوجه الرابع : عبادتان احتراز عن حقين لآدمي ، وقوله متجانسان احتراز من كفارة ظهار وكفارة يمين وقوله صغرى وكبرى احتراز ممن دخل في الجمعة فخرج الوقت في أثنائها ، فإنه يتم ظهرا على المذهب ولا يلزمه تجديد نية الظهر ، ويحتمل أنه احتراز عن الصبح والظهر ، فإن إحداهما لا تدخل في الأخرى ، لا في الأفعال ولا في النية . وقد يفرق بين مسألة الغسل ومسألة الحج والعمرة بأن الحج يشمل كل أفعال العمرة فدخلت فيه ، والغسل لا يشمل ترتيب الوضوء . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية