صفحة جزء
فصل الحديث المرسل لا يحتج به عندنا وعند جمهور المحدثين ، وجماعة . من الفقهاء ، وجماهير أصحاب الأصول والنظر ، وحكاه الحاكم أبو عبد الله بن البيع عن سعيد بن المسيب ومالك وجماعة أهل الحديث وفقهاء الحجاز . وقال أبو حنيفة ومالك في المشهور عنه ، وأحمد وكثيرون من الفقهاء أو أكثرهم : يحتج به ، ونقله الغزالي عن الجماهير . قال أبو عمرو بن عبد البر وغيره : ولا خلاف أنه لا يجوز العمل به إذا كان مرسله غير متحرز ، يرسل عن غير الثقات . ودليلنا في رد المرسل مطلقا أنه إذا كانت رواية المجهول المسمى لا تقبل لجهالة حاله ، فرواية المرسل أولى ; لأن المروي عنه محذوف مجهول العين والحال . ثم إن مرادنا بالمرسل هنا ما انقطع إسناده فسقط من رواته واحد فأكثر ، وخالفنا في حده أكثر المحدثين فقالوا : هو رواية التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشافعي - رحمه الله - : " وأحتج بمرسل كبار التابعين إذا أسند من جهة أخرى ، أو أرسله من أخذ عن غير رجال الأول ممن يقبل عنه العلم ، أو وافق قول بعض أصحابه ، أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه . قال : ولا أقبل مرسل غير كبار التابعين ، ولا مرسلهم إلا بالشرط الذي وصفته " هذا نص الشافعي في الرسالة وغيرها ، وكذا نقله عنه الأئمة المحققون من أصحابنا الفقهاء والمحدثين ، كالبيهقي والخطيب البغدادي وآخرين ، ولا فرق في هذا عنده بين مرسل سعيد بن المسيب وغيره ، هذا هو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون . وقد قال الشافعي في مختصر المزني في آخر باب الربا : أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع اللحم بالحيوان } وعن ابن عباس أن جزورا نحرت على [ ص: 101 ] عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فجاء رجل بعناق فقال : أعطوني بهذه العناق ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : لا يصلح هذا . قال الشافعي : وكان القاسم بن محمد وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان ، قال الشافعي : وبهذا نأخذ .

قال : ولا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خالف أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال الشافعي : " وإرسال ابن المسيب عندنا . حسن " هذا نص الشافعي في المختصر نقلته بحروفه ، لما يترتب عليه من الفوائد . فإذا عرف هذا فقد اختلف أصحابنا المتقدمون في معنى قول الشافعي : " إرسال ابن المسيب عندنا حسن " على وجهين حكاهما المصنف الشيخ أبو إسحاق في كتابه اللمع ، وحكاهما أيضا الخطيب البغدادي في كتابيه كتاب " الفقيه والمتفقه " " والكفاية " وحكاهما جماعات آخرون ، أحدهما : معناه أنها حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل .

قالوا : لأنها فتشت فوجدت مسندة ، والوجه الثاني : أنها ليست بحجة عنده ، بل هي كغيرها على ما ذكرناه ، وقالوا : وإنما رجح الشافعي بمرسله ، والترجيح بالمرسل جائز .

وقال الخطيب البغدادي في كتاب ( الفقيه والمتفقه ) والصواب : الوجه الثاني ، وأما الأول فليس بشيء وكذا قال في الكفاية . الوجه الثاني : هو الصحيح عندنا من الوجهين ; لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندا بحال من وجه يصح .

قال : وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على غيرهم ، كما استحسن مرسل سعيد ، هذا كلام الخطيب . وذكر الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي نص الشافعي كما قدمته ثم قال : فالشافعي ، يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها ، فإن لم ينضم لم [ ص: 102 ] يقبلها ، سواء كان مرسل ابن المسيب أو غيره .

قال : وقد ذكرنا مراسيل لابن المسيب لم يقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها ، ومراسيل لغيره قال بها حيث انضم إليها ما يؤكدها ، قال : وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالا فيما زعم الحفاظ ، فهذا كلام البيهقي والخطيب ، وهما إمامان حافظان فقيهان شافعيان ، مضطلعان من الحديث والفقه والأصول ، والخبرة التامة بنصوص الشافعي . ومعاني كلامه ، ومحلهما من التحقيق والإتقان ، والنهاية في العرفان ، بالغاية القصوى ، والدرجة العليا ، وأما قول الإمام أبي بكر القفال المروزي في أول كتابه ( شرح التلخيص ) قال الشافعي في الرهن الصغير : مرسل ابن المسيب عندنا حجة ، فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والخطيب والمحققين والله أعلم .

قلت : ولا يصح تعلق من قال : إن مرسل سعيد حجة بقوله : إرساله حسن ; لأن الشافعي رحمه الله لم يعتمد عليه وحده ، بل اعتمده لما انضم إليه قول أبي بكر الصديق ومن حضره وانتهى إليه قوله من الصحابة رضي الله عنهم مع ما انضم إليه من قول أئمة التابعين الأربعة الذين ذكرهم ، وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة ، وقد نقل صاحب الشامل وغيره هذا الحكم عن تمام السبعة ، وهو مذهب مالك وغيره .

فهذا عاضد ثان للمرسل ، فلا يلزمه من هذا الاحتجاج بمرسل ابن المسيب إذا لم يعتضد ، فإن قيل : ذكرتم أن المرسل إذا أسند من جهة أخرى احتج به ، وهذا القول فيه تساهل ; لأنه إذا أسند عملنا بالمسند ، فلا فائدة حينئذ في المرسل ولا عمل به .

فالجواب : أن بالمسند يتبين صحة المرسل ، وأنه مما يحتج به ، فيكون في المسألة حديثان صحيحان حتى لو عارضهما حديث صحيح من طريق واحد ، وتعذر الجمع قدمناهما عليه والله أعلم ، هذا كله في غير مرسل الصحابي

التالي السابق


الخدمات العلمية