صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن أحرق الطين وتيمم بمدقوقه ففيه وجهان .

( أحدهما ) لا يجوز التيمم به ، كما لا يجوز بالخزف المدقوق .

( والثاني ) يجوز لأن إحراقه لم يزل اسم الطين والتراب عن مدقوقه ، بخلاف الخزف . ولا يجوز إلا بتراب له غبار يعلق بالعضو ، فإن تيمم بطين رطب أو تراب ند لا يعلق غباره لم يجز ، لقوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } وهذا يقتضي أنه يمسح بجزء من الصعيد ، ولأنه طهارة فوجب إيصال الطهور فيها إلى محل الطهارة كمسح الرأس ، ولا يجوز بتراب نجس لأنه طهارة فلا تجوز بالنجس كالوضوء ، ولا يجوز بما خالطه جص أو دقيق لأنه ربما حصل على العضو فمنع وصول التراب إليه ، ولا يجوز بما استعمل في العضو ، فأما ما تناثر من أعضاء المتيمم ففيه وجهان . [ ص: 249 ] أحدهما ) لا يجوز التيمم به كما لا يجوز الوضوء بما تساقط من أعضاء المتوضئ .

( والثاني ) يجوز لأن المستعمل منه ما بقي على العضو ، وما تناثر غير مستعمل فجاز التيمم به ، ويخالف الماء لأنه لا يدفع بعضه بعضا والتراب يدفع بعضه بعضا فدفع - ما أدى به الغرض في العضو - ما تناثر منه ) .


( الشرح ) في هذه القطعة مسائل : ( إحداها ) إذا أحرق الطين وتيمم بمدقوقه فوجهان مشهوران أصحهما عند الجمهور : لا يجوز ، وبه قطع الشيخ أبو حامد البغوي ، والأصح عند إمام الحرمين وصاحب البحر والمحققين : الجواز . وهذا أظهر ، قال إمام الحرمين : القول بأنه لا يجوز غلط غير معدود من المذهب ، وقد ذكر المصنف دليل الوجهين . وقال القاضي أبو الطيب : إن احترق ظاهره وباطنه لم يجز ، وإن احترق ظاهره دون باطنه ففيه وفي الطين الخراساني إذا دق وجهان ، والأظهر الجواز مطلقا أما إذا أصابته نار فاسود ولم يحترق ، فالمذهب القطع بجواز التيمم به ، وبه قطعالبغوي وغيره .

وحكى الرافعي فيه وجها وهو ضعيف لأنه تراب ولا يشبه الخزف بحال ، ولو احترق فصار رمادا لم يجز التيمم به بلا خلاف كالخزف ، نقله الرافعي وغيره وهو ظاهر والله أعلم .

( الثانية ) يشترط كون التراب له غبار يعلق بالعضو ، وقد ذكر المصنف دليله وبه قال أبو يوسف ; وقال مالك وأبو حنيفة : لا يشترط الغبار ، وقد سبقت المسألة بدلائلها ، وقوله : تراب ند هو بتنوين الدال مثل شج .

( الثالثة ) لا يجوز التيمم بتراب نجس بلا خلاف عندنا ، ونقله الشيخ أبو حامد عن العلماء كافة ، قال الأوزاعي : فإنه جوزه بتراب المقابر قال : ولعله أراد إذا لم تكن منبوشة فيوافقنا . واحتج المحاملي وغيره بقوله تعالى : { صعيدا طيبا } قالوا : والمراد طاهرا وهذا هو الراجح في معنى الطيب في الآية كما قدمناه ، واحتجوا أيضا بما ذكره المصنف وكان ينبغي للمصنف أن يقول : لأنه طهارة عن حدث ليحترز عن الدباغ ، فإنه يجوز بالنجس على [ ص: 250 ] أصح الوجهين كما سبق . قال أصحابنا : وسواء كان التراب الذي خالطته النجاسة كثيرا أو قليلا لا يجوز التيمم به بلا خلاف ، بخلاف الماء الكثير لأن للماء قوة تدفع النجاسة ، وذكر أصحابنا هنا تراب المقابر وحكمه أنه إذا تيقن نبشها فترابها نجس ; وإن تيقن عدم نبشها فترابها طاهر ، وإن شك فطاهر أيضا على الأصح ، فحيث قلنا : طاهر جاز التيمم به وإلا فلا . إلا أنها إذا لم تنبش تجوز الصلاة عليها مع الكراهة ، لكونها مدفن النجاسة ولا يكره التيمم بترابها لأنه طاهر فهو كغيره صرح به الشيخ نصر في الانتخاب وهو واضح حسن . قال الشافعي رحمه الله في الأم : ولو وقع المطر على المقبرة لم يصح التيمم بها لأن صديد الميت قائم فيها لا يذهبه المطر كما لا يذهب التراب ، قال : وهكذا كل ما اختلط من الأنجاس بالتراب مما يصير كالتراب . وذكر الأصحاب هنا التيمم بالأرض التي أصابتها نجاسة ذائبة ، فزال أثرها بالشمس والريح وفيها القولان المشهوران : الجديد أنها لا تطهر فلا يجوز التيمم بها ، والقديم أنها تطهر فيجوز التيمم بها عند الجمهور . وقال القفال في شرح التلخيص : إذا قلنا بالقديم ، فهي طاهرة تجوز الصلاة عليها ، وفي جواز التيمم بترابها قولان قال : وهكذا قال الشافعي في القديم : إن جلد الميتة يطهر بالدباغ وتجوز الصلاة عليه وفيه ، ولا يجوز بيعه فجعله طاهرا في حكم دون حكم ، هذا كلام القفال وهو شاذ ، ومنع بيع المدبوغ ليس للنجاسة كما سبق في بابه والله أعلم .

( الرابعة ) لا يصح التيمم بتراب خالطه جص أو دقيق أو زعفران أو غيره من الطاهرات التي تعلق بالعضو ، وسواء كان الخليط قليلا أو كثيرا مستهلكا ، هذا هو الصحيح المشهور . قال البندنيجي . وهو المنصوص ، وحكى الأصحاب عن أبي إسحاق المروزي وجها أنه يجوز إذا كان الخليط مستهلكا ، كما يجوز الوضوء بالماء الذي استهلك فيه مائع ، قال الشيخ أبو حامد والأصحاب هذا الوجه غلط . والفرق أن الماء يجري بطبعه فإذا أصاب المائع موضعا جرى الماء بعده ، وأما الخليط فربما علق بالعضو فمنع [ ص: 251 ] التراب من العلوق ولأن للماء قوة التطهير ، ولأنه لا تضره النجاسة إذا كان كثيرا بخلاف التراب ، وأما إذا اختلط بالتراب فتات الأوراق ، فقال إمام الحرمين والغزالي في البسيط : الظاهر أنه كالزعفران ، يعني فيكون فيه التفصيل والخلاف ، وقيل يعفى عنه كما في الماء ، فإن قيل ما الفرق بين مخالطة الدقيق ونحوه ومخالطة الرمل حيث جاز في الرمل دون الدقيق ؟ قلنا : الدقيق يعلق باليد كما يعلق التراب فيمنع التراب ، والرمل لا يعلق ، أما إذا خالط التراب مائع طاهر من طيب أو خل أو لبن أو غيره ، فقال الماوردي : إن تغير به لم يجز التيمم به وإلا جاز . وقال القاضي أبو الطيب وصاحب البحر : إن تغيرت رائحته بماء الورد ثم جف جاز التيمم به ; لأن بالجفاف ذهب ماء الورد وبقيت رائحته المجاورة .

( فرع ) هذا الذي ذكره المصنف من أن الجص لا يجوز التيمم به ، هو المذهب الصحيح المقطوع به في طرق الأصحاب ، وشذ وأغرب القاضي أبو بكر البيضاوي فحكى في كتابه شرح التبصرة له في جواز التيمم بالجص ثلاثة أوجه .

( أحدها ) : يجوز ، ( والثاني ) : لا يجوز ، ( والثالث ) : إن كان محرقا لم يجز وإلا جاز . وبهذا الثالث قطع صاحب الحاوي والبحر ، وهو ضعيف جدا ، نبهت عليه لئلا يغتر به .

( الخامسة ) التراب المستعمل فيه صور : ( إحداها ) أن يلصق بالعضو ثم يؤخذ منه فالمشهور في المذهب أنه لا يجوز التيمم به ، وهو الصحيح الذي قطع به الجمهور كالماء المستعمل ، وذكر الشيخ أبو حامد والماوردي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم فيه وجهين ( أحدهما ) هذا ( والثاني ) يجوز ، لأن التيمم لا يرفع الحدث فلا يصير مستعملا بخلاف الماء ، واختاره الماوردي ، وذكر الغزالي في تدريسه أن هذا الخلاف يلتفت على أن سبب الاستعمال في الماء هو انتقال المنع أم تأدي العبادة . [ ص: 252 ] الثانية ) أن يصيب العضو ثم يتناثر منه فوجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما ، أصحهما لا يجوز التيمم به ، صححه الشيخ أبو حامد والمحاملي في المجموع والفوراني وإمام الحرمين وابن الصباغ البغوي وصاحب العدة وآخرون ، وقطع به المتولي وغيره ، ونقله البندنيجي وابن الصباغ عن نص الشافعي ، قال الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما : الوجه الآخر غلط .

( الثالثة ) أن يتساقط عن العضو ولم يكن لصق به ولا مسه ، بل لاقى ما لصق بالعضو ، فالمشهور أنه ليس بمستعمل كالباقي على الأرض ، قال الروياني : وقيل فيه وجهان ، قال : ولا معنى لهذا والله أعلم .

( فرع ) في مسائل تتعلق بالفصل ( إحداها ) قال أصحابنا : يجوز التيمم بجميع أنواع التراب من الأحمر والأبيض والأسود والأعفر وغير ذلك ، قال أصحابنا : وسواء في ذلك التراب المأكول وغيره ، هذا هو المذهب الصحيح المشهور ، وفي البيان وجه أنه لا يجوز بالتراب الأرمني ولا بالمأكول وليس بشيء . قال الشافعي رحمه الله في المختصر : والصعيد التراب من كل أرض سبخها ومدرها وبطحائها وغيرها . وقال في الأم : ولا يتيمم ببطحاء رقيقة كانت أو غليظة . قال أصحابنا : السبخة التراب الذي فيه ملوحة ولا ينبت فالتيمم به جاز ، وبه قال جمهور العلماء . وحكى الماوردي عن ابن عباس وإسحاق بن راهويه أنهما منعاه لقوله تعالى : { صعيدا طيبا } ودليلنا { أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم بتراب المدينة وهي سبخة } " ولأنه جنس يتطهر به ، فاستوى ملحه وعذبه كالماء . وأما الطيب في الآية فمعناه الطاهر ، وقيل : الحلال كما سبق ، وأما المدر فهو التراب الذي يصيبه الماء فيجف ويصلب ، ويصح التيمم به إذا دق أو كان عليه غبار ، وأما البطحاء فهو بفتح الباء وبالمد ، يقال فيه الأبطح ، ذكره الأزهري وغيره واختلفوا في تفسيره ، فالصحيح الأوضح ما ذكره الأزهري وإمام الحرمين والغزالي وآخرون أنه التراب اللين في مسيل الماء . وقال القاضي أبو الطيب : هو مجرى السيل إذا جف واستحجر ، وقال الشيخ أبو حامد والماوردي وآخرون : فيه تأويلان [ ص: 253 ] أحدهما ) : القاع ، ( والثاني ) : الأرض الصلبة . وأما قول الشافعي في الأم : لا يجوز بالبطحاء ، وقوله في المختصر : يجوز ، فقال الأصحاب : ليست على قولين بل على حالين ، فقوله : لا يجوز أراد إذا لم يكن فيها تراب يعلق باليد . وقال صاحبا الحاوي والبحر وغيرهما : وأما الحمأة المتغيرة إذا جفت وسحقت فيجوز التيمم بها لأنها طين خلق منتنا ، فهي كالماء الذي خلق منتنا . قال أصحابنا : ولا يجوز التيمم بمدقوق الكذان ، وهو حجر رخو يصير بالدق كالتراب ، والله أعلم .

( المسألة الثانية ) قال أصحابنا يجوز أن يتيمم الجماعة من موضع واحد كما يتوضئون من إناء ، ويجوز أن يتيمم الواحد من تراب يسير يستصحبه معه في خرقة ونحوها مرات ، كما يتوضأ من إناء مرات .

( الثالثة ) قال أصحابنا : يجوز أن يتيمم من غبار تراب على مخدة أو ثوب أو حصير أو جدار أو أداة ونحوها ، نص عليه في الأم وقطع به الجمهور . قال العبدري وغيره : " وكذا لو ضرب بيده على حنطة أو شعير فيه غبار " وحكى صاحب البحر وجها شاذا أنه لا يجوز ، وهو مذهب أبي يوسف لأنه لم يقصد الصعيد ، وهذا الوجه ليس بشيء ، للحديث الصحيح الذي سبق { أن النبي صلى الله عليه وسلم : تيمم بالجدار } " ولأنه قصد الصعيد ، فلا فرق بين أن يكون على الأرض أو على غيرها .

( الرابعة ) الأرضة بفتح الهمزة والراء ، وهي دويبة تأكل الخشب والكتب ونحوها إذا استخرجت ترابا . قال القاضي حسين : إن استخرجته من مدر جاز التيمم به ولا يضر اختلاطه بلعابها ، فإنه طاهر فصار كتراب عجن بخل أو ماء ورد ، وإن استخرجت شيئا من الخشب لم يجز لعدم التراب .

( الخامسة ) لو تيمم بتراب على ظهر حيوان إن كان كلبا أو خنزيرا نظر إن علم نجاسته بأن وقع عليه التراب في حال رطوبته أو أصابه عرقه [ ص: 254 ] لم يجز التيمم به ، وإن علم أنه طاهر لعلمه بانتفاء ذلك جاز التيمم به ، وإن لم يعلم الحال فقال القاضي حسين وصاحبا التتمة والبحر والرافعي ، " فيه القولان في تقابل الأصل والظاهر " قال صاحب البحر : " والأصح الجواز " وهذا الذي ذكروه مشكل ، وينبغي أن يجوز التيمم به بلا خلاف للأصل ، وليس هنا ظاهر يعارضه ، وإن كان حيوانا آخر جاز بلا خلاف إلا أن يكون امرأة ففيها تفصيل وخلاف يأتي قريبا إن شاء الله تعالى والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية