صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن تيمم للنفل كان له أن يصلي على الجنازة ، نص عليه في البويطي ، لأن صلاة الجنازة كالنفل ، وإن تيمم لصلاة الفرض استباح به النفل لأن النفل تابع للفرض ، فإذا استباح المتبوع استباح التابع ، كما إذا أعتق الأم عتق الحمل ) .


( الشرح ) هنا مسألتان ( إحداهما ) نوى بتيممه استباحة نافلة معينة أو مطلقة فالصحيح الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي ، وأطبق عليه الأصحاب وسائر العلماء أن تيممه صحيح . وحكى جماعات من الخراسانيين وجها أنه لا يصح تيممه وحكاه صاحب التتمة قولا للشافعي ، فعلى هذا لا يصح التيمم للنفل مفردا ، وإنما يصح تبعا للفرض ، قالوا : لأن التيمم إنما جوز للضرورة ، ولا ضرورة للنفل . قال القاضي حسين وصاحبا التتمة والبحر : نظير هذه المسألة : المعضوب إذا استأجر من يحج عنه فرضا جاز ، وفي النفل قولان قال القاضي : وكذا المستحاضة لو توضأت للنفل ، ففي صحته وجهان ، ووجه المنع أنه لا ضرورة بها إلى النفل ، وهذا الوجه غلط لا شك فيه ومخالف لما تظاهرت عليه الأدلة . وقد جوزت النافلة إلى غير القبلة للحاجة والتخفيف فالتيمم أولى فإنه بدل ، ولا تفريع على هذا الوجه وإنما التفريع على المذهب ، فإذا نوى استباحة نافلة جاز أن يصلي من جنس النوافل ما شاء إلى أن يحدث ، وله سجود التلاوة والشكر ومس المصحف وحمله . وإن كان جنبا أو من انقطع حيضها استباحا القراءة واللبث في المسجد وحل وطؤها لأن النافلة آكد من هذه الأشياء فإنها تفتقر إلى الطهارة بالإجماع وهذه مختلف فيها ، وله أن يصلي على جنائز سواء تعينت عليه أم لا ، هذا [ ص: 258 ] هو المذهب وفيه وجه : أنه يستبيحها لأنها فرض ، ووجه ثالث : إن تعينت عليه لم يستبحها بتيمم النافلة . وإلا استباحها ، وسيأتي بيان هذه الأوجه بأدلتها حيث ذكرها المصنف في أواخر هذا الباب .

أما إذا نوى استباحة مس المصحف أو نوى الجنب أو المنقطع حيضها قراءة القرآن واللبث في المسجد ، أو نوت استباحة الوطء فإنهم يستبيحون ما نووا على المذهب الصحيح المشهور وبه قطع الأصحاب . وحكى الرافعي فيه الوجه السابق في التيمم النافلة المجردة ، والصواب ما سبق ، وهل يستبيحون صلاة النفل ؟ فيه وجهان مشهوران ، حكاهما الماوردي وابن الصباغ والمتولي والشاشي وآخرون . أحدهما : يجوز كعكسه . وأصحهما : لا ، لأن النافلة آكد ، ولنا وجه شاذ مذكور في التتمة والبحر وغيرهما : أنه لا يصح التيمم لمس المصحف إلا إذا احتاج إليه بأن كان مسافرا . وليس معه من يحمله ، ووجه في التهذيب وغيره : أنه لا يصح تيمم منقطعة الحيض بنية استباحة الوطء ، وقد سبق مثله في الغسل ، ووجه أنه يصح إن كان لها زوج ، وإلا فلا ، حكاه المتولي في باب نية الوضوء وهذه الأوجه ضعيفة . فإذا قلنا في هذه المسائل يستبيح النافلة ، ففي استباحته الفرض الطريقان السابقان ، المذهب أنه لا يستبيحه ولو نوى استباحة الصلاة مطلقا وقلنا - بالأصح - أنه لا يستبيح الفرض استباح النفل ، وهذه الأشياء على المذهب وفيه وجه في البحر تفريعا على أن النفل لا يصح استباحته منفردا ، قال الماوردي ولا يستبيح في هذه الصورة الطواف ، وفي هذا نظر ولو تيمم للجنازة استباحها وهل هو كالتيمم للنفل أم للفرض ؟ فيه وجهان في التهذيب وغيره أصحهما : كالنافلة . صححه الرافعي وغيره لأنها وإن تعينت فهي كالنفل فإنها تسقط بفعل غيره بخلاف المكتوبة ، والله أعلم .

( المسألة الثانية ) إذا نوى استباحة فريضة مكتوبة استباحها ويستبيح النفل قبلها وبعدها ، في الوقت وبعده ، هذا هو المذهب الصحيح المشهور . وحكى الخراسانيون وجها أنه لا يستبيح في هذه الصورة النفل مطلقا ، ووجها أنه يستبيحه ما دام وقت الفريضة باقيا ولا يستبيحه بعده . [ ص: 259 ] ووافقهم على هذا الوجه من العراقيين المحاملي والشيخ نصر وقطع به الدارمي . وحكاه إمام الحرمين عن نقل العراقيين . ولنا - قول - أنه لا يستبيح النفل قبل الفريضة ويستبيحه بعدها ، وقد ذكره المصنف في أواخر الباب والصحيح ما سبق . أما إذا نوى الفريضة والنافلة معا فيستبيحهما جميعا بلا خلاف . قال إمام الحرمين : اتفقت الطرق على هذا . وحينئذ له التنفل قبل الفرض وبعده ، ووافق عليه المخالفون في التي قبلها وطردالرافعي فيه الوجه بالمنع مع النفل بعد خروج الوقت ، وليس بشيء . قال الشيخ أبو محمد في الفروق : لو تيمم للظهر في وقتها وصلاها ، ثم دخل وقت العصر ، لم يجز له فعل سنة الظهر بذلك التيمم على أحد الوجهين . ولو لم يصل الظهر في وقتها ، فقضاها في وقت العصر ، وقضى سنة الظهر بذلك التيمم جاز بلا خلاف تبعا للفريضة . قال : على هذا الأصل ينبغي أن يقال : من نسي العشاء فذكرها وقت الظهر قضاها وقضى الوتر قولا واحدا . وإنما القولان في قضاء الوتر إذا فعل العشاء في وقتها . وهذا الذي ، قاله في الوتر فيه نظر ، ولا أعلم من وافقه عليه والله أعلم .

( فرع ) في مسائل تتعلق بنية التيمم ( إحداها ) في ضبط ما تقدم مختصرا ، فإذا نوى رفع الحدث لم يصح تيممه على المذهب وفيه وجه ، وإن نوى استباحة نافلة استباحها وما يتبعها من مس المصحف وسجود تلاوة وغيره مما سبق دون الفرض ، هذا هو المذهب ، وفي وجه لا يصح تيممه وفي قول : يباح الفرض أيضا .

ولو نوى الفرض بلا تعيين فالمذهب أنه يباح أي فرض أراد ، وفي وجه لا يصح تيممه حتى يعين الفرض ، ولو نوى الصلاة فله النفل وحده على الأصح وقيل : الفرض أيضا ، وقيل : تيممه باطل . ولو نوى الفرض وحده استباحه والنفل قبله وبعده ، في الوقت وبعده ، وفي وجه لا يباح النفل ، وفي وجه يباح في الوقت فقط ، وفي قول يباح بعد الفرض لا قبله ، ولو نواهما أبيحا كيف شاء ، وفي وجه لا يباح النفل بعد الوقت .

( الثانية ) نوى استباحة فريضتين فوجهان مشهوران عند الخراسانيين [ ص: 260 ] وذكرهما من العراقيين الدارمي ( أصحهما ) : يصح تيممه وبه قطع جمهور العراقيين . وهو نصه في البويطي كما سبق لأنه نواها وغيرها ، فلغا الزائد ( والثاني ) لا يصح لأنه نوى ما لا يباح فلغت نيته فعلى الأول قال الجمهور يصلي أيتهما شاء ، وهو نصه في البويطي وشذ الدارمي فقال : يصلي الأولى ، فخصه بالأولى وليس بشيء .

( الثالثة ) لو نوى فرض التيمم فوجهان مشهوران للخراسانيين ( أحدها ) يصح كما لو نوى المتوضئ فرض الوضوء . قال الروياني : فعلى هذا هو كالتيمم للنفل ( وأصحهما ) لا يصح . قال إمام الحرمين : والفرق أن الوضوء مقصود في نفسه ، ولهذا استحب تجديده بخلاف التيمم ، قال الرافعي : ولو نوى إقامة التيمم المفروض فهو كنية فرض التيمم ، فلا يصح في الأصح . قال البغوي : ولو نوى فرض الطهارة ففيه الوجهان الأصح لا يصح . وقال الماوردي : لو نوى التيمم وحده أو الطهارة وحدها لم يصح ، وقد سبق عن القاضي أبي الطيب أنه لو نوى الطهارة عن الحدث لم يصح والله أعلم .

( الرابعة ) لو تيمم عن الحدث الأصغر غالطا ظانا أن حدثه الأصغر فكان جنبا أو عكسه صح تيممه بلا خلاف عندنا . وحكى القاضي أبو الطيب وغيره عن مالك وأحمد أنه لا يصح ، واحتج المزني والأصحاب بأن مقتضاهما واحد فلا أثر للغلط ، وأنكر الشيخ أبو محمد هذا في كتابه الفروق وقال : هذه العلة منتقضة بمن عليه فائتة ظنها الظهر فقضاها ثم بان أنها العصر فلا تجزئه بالاتفاق وإن كان مقتضاهما واحدا ، قال : والعلة الصحيحة أن الجنب ينوي بتيممه ما ينويه المحدث وهو استباحة الصلاة فلا فرق . وأما الصلاة فيجب تعيينها فإذا نوى الظهر فقد نوى غير ما عليه ، والمتيمم نوى ما عليه ، وذكر القاضي حسين عن الأصحاب أنهم أنكروا على المزني هذه العلة وقالوا : الصواب التعليل بنحو ما ذكره الشيخ أبو محمد ، وهذا الإنكار على المزني فيه نظر . والأظهر أن كلامه صحيح ، والفرق بينه وبين [ ص: 261 ] الصلاة ظاهر . هذا كله إذا كان غالطا ، فإن تعمد فنوى الأكبر وعليه الأصغر أو عكسه مع علمه ففي صحته وجهان حكاهما المتولي سبق مثلهما في باب نية الوضوء ، والأصح البطلان لتلاعبه . ولو أجنب في سفره ونسي جنابته وكان يتوضأ عند وجود الماء ويتيمم عند عدمه ثم ذكر جنابته لزمه إعادة صلوات الوضوء دون صلوات التيمم . ذكره صاحب العدة ، وهو ظاهر على ما سبق .

( الخامسة ) تيمم لفائتة ظنها عليه فبان أن لا فائتة عليه لم يصح تيممه بخلاف ما لو توضأ لفائتة ظنها فبان أن لا فائتة . فإنه يصح وضوءه ، ولو تيمم لفائتة ظنها الظهر فبانت العصر لم يصح ، ولو توضأ لفائتة ظنها الظهر فبانت العصر صح ، والفرق ما فرق به البغوي وغيره بأن التيمم يبيح ولا يرفع الحدث ونيته صادفت استباحة ما لا يستباح ، والوضوء يرفع الحدث وإذا ارتفع استباح ما شاء . قال البغوي والمتولي والروياني : لو ظن أن عليه فائتة ، ولم يتحققها فتيمم لها ثم تذكرها لم يجز أن يصليها بذلك التيمم لأن وقت الفائتة بالتذكر . قال المتولي : ولأن المقصود من التيمم استباحة الصلاة وما لم يتحققها لا يباح له فعلها . وهذا التعليل فاسد ، فإن فعلها مباح ، بل مستحب ، وقد أنكر عليهم الشاشي هذا فحكاه ثم قال : وعندي في هذا نظر لأنه أمر بالتيمم لها لتوهم بقائها عليه فإذا تحقق بقاؤها عليه كان أولى بالإجزاء . هذا كلامه ، وينبغي أن يكون في صحته وجهان كما سبق فيمن شك هل أحدث ؟ فتوضأ محتاطا ، ثم بان أنه كان محدثا هل يصح وضوءه ؟ وقد يفرق بضعف التيمم والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية