صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( قال في الأم : فإن أمر غيره حتى يممه ونوى هو جاز كما يجوز في الوضوء وقال ابن القاص : " لا يجوز قلته تخريجا " . وقال في الأم : وإن سفت عليه الريح ترابا عمه فأمر يديه على وجهه لم يجزه لأنه لم يقصد الصعيد ، وقال القاضي أبو حامد : هذا محمول عليه إذا لم يقصد ، فأما إذا صمد للريح فسفت عليه التراب أجزأه وهذا خلاف المنصوص ) .


( الشرح ) في الفصل مسألتان : ( إحداهما ) إذا يممه غيره بإذنه ، ونوى الآمر إن كان معذورا ، كأقطع ومريض وغيرهما جاز بلا خلاف ، وإن كان قادرا فوجهان الصحيح والمنصوص جوازه كالوضوء وبهذا قال جمهور الأصحاب . والثاني : لا يجوز وهو قول ابن القاص ، وقوله قلته تخريجا هو من كلام ابن القاص ، وإنما قال هذا لأن عادته في كتابه التلخيص أن يذكر المسائل التي نص عليها الشافعي ، ويقول عقبه قاله نصا ، وإذا قال شيئا غير منصوص وقد خرجه هو قال : قلته تخريجا ، وهذه المسألة خرجها من التي بعدها وهي مسألة الريح . وابن القاص - بتشديد الصاد المهملة - هو أبو العباس وقد ذكرت في أبواب المياه ، أما إذا يممه غيره بغير أمره وهو مختار ونوى ، فهو كما لو صمد في الريح . قاله إمام الحرمين والغزالي وغيرهما وهو واضح .

( المسألة الثانية ) إذا ألقت عليه الريح ترابا استوعب وجهه ثم يديه ، فإن [ ص: 271 ] لم يقصدها لم يجزه بلا خلاف ، وإن قصدها وصمد لها ففيه خلاف مشهور حكاه الأصحاب وجهين وحقيقته قولان .

( أحدهما ) : لا يصح وهو الصحيح نص عليه في الأم وهو قول أكثر أصحابنا المتقدمين ، وقطع به جماعات من المتأخرين وصححه جمهور الباقين ونقله إمام الحرمين عن الأئمة مطلقا ، قال : والوجه الآخر ليس معدودا من المذهب .

( والثاني ) : يصح ، وهو قول القاضي أبي حامد ، واختيار الشيخ أبي حامد الإسفراييني ، قال الروياني في كتابيه البحر والحلية : واختاره الحليمي والقاضي أبو الطيب وجماعة قال : وهو الاختيار والأصح ، وحكاه صاحب التتمة قولا قديما ، والمذهب الأول ، وصورة المسألة إذا قصد ثم وقع عليه التراب فلو وقع عليه ثم قصد لم يجزه بلا خلاف ، وهذا - وإن كان ظاهرا يفهم من كلام المصنف - فلا يضر إيضاحه . وقوله : " ترابا عمه " هو بالعين المهملة ، أي استوعبه هذا هو المشهور المعروف ، وذكره أبو القاسم بن البزري وغيره - بالغين المعجمة - أي غطاه وهو صحيح أيضا وبمعنى الأول لكن الأول أجود ، وقوله : " صمد " هو بالصاد والميم على وزن قصد وبمعناه والله أعلم .

( فرع ) إذا كان على بعض أعضائه تراب فتيمم به نظر إن أخذه من غير أعضاء التيمم ومسحها به جاز بلا خلاف ، نص عليه الشافعي والأصحاب ، كما لو أخذه من الأرض ، وإن كان على وجهه فرده عليه ومسحه به لم يجزه بلا خلاف لعدم النقل ، وإن أخذه من الوجه ومسح به أو أخذه من اليد ومسح به الوجه فوجهان ، أصحهما هو نصه في الأم جوازه لوجود النقل ، ولو أخذه من الوجه ففصله ثم رده إليه ، أو أخذه من اليد ففصله ثم رده إليها فطريقان حكاهما صاحب التهذيب وغيره ، أصحهما على الوجهين ، والثاني : لا يجوز وجها واحدا ، لأنه ليس بنقل حقيقي ، ولو تمعك في التراب فوصل وجهه ويديه ، إن كان لعذر كالأقطع وغيره جاز بلا خلاف وإلا فوجهان الصحيح جوازه ، صححه الأصحاب ونقله الروياني عن نصه في الأم . قال إمام الحرمين : الوجه القطع بالجواز . قال : ولا أرى للخلاف وجها لأن الأصل قصد التراب وقد حصل ، ولو مد يده فصب غيره فيها [ ص: 272 ] ترابا ، أو ألقت الريح ترابا على كمه فمسح به وجهه أو أخذه من الهواء فمسح به فوجهان الأصح جوازه ، صححه الروياني والرافعي وغيرهما .

فرع في مسائل تتعلق بما سبق ( إحداها ) ينبغي أن يمسح وجهه بالتراب ولا يقتصر على وضعه عليه ، فإن ضرب يده على التراب ثم وضعها على وجهه ولم يمرها ، فقد قال البغوي والرافعي : يجوز على أصح الوجهين كما قلنا في مسح الرأس ، وقطع الشيخ أبو محمد في الفروق والمتولي بأنه لا يجزيه ، قال المتولي : بخلاف الوضوء فإن الماء إذا وضع على العضو يحس به ويسيل والتراب لا يتعدى ، فيتحقق وصول الماء إلى جميع العضو ، ولا يتحقق في التراب إلا بإمرار اليد . قال : حتى لو لم يتحقق وصول الماء وجب الإمرار ، ولو تحقق وصول التراب بأن كان كثيرا صح تيممه .

( الثانية ) قال القاضي حسين البغوي : إذا أحدث المتيمم بعد أخذه التراب وقبل المسح بطل ذلك الأخذ وعليه الأخذ ثانيا ، بخلاف ما لو أحدث بعد أخذ الماء بل غسل الوجه فإنه لا يضره لأن المطلوب في الوضوء الغسل لا نقل الماء وهنا المطلوب نقل التراب ، وأما إذا يممه غيره ، فقال القاضي : يجب أن ينوي الآمر عند ضرب المأمور يده على الأرض ، فلو أحدث أحدهما بعد النية والضرب لم يضر ، بل يجوز أن يمسح بعد ذلك ، بخلاف ما لو أخذ التراب بنفسه ثم أحدث فإنه يبطل الأخذ لأن هناك وجد هيئة القصد الحقيقي فصار كما لو استأجر رجلا ليحج عنه ، ثم جامع المستأجر في مدة إحرام الأجير فإنه لا يفسد الحج . قال الرافعي : هذا الذي قاله القاضي مشكل وينبغي أن يبطل بحدث الآمر .

( الثالثة ) إذا ضرب يده على تراب على بشرة امرأة أجنبية - فإن كان التراب كثيرا يمنع التقاء البشرتين - صح تيممه وإلا فلا . كذا قاله القاضي حسين ، ونحوه في التهذيب وغيره ، لأن الملامسة حدث قارن النقل وهو ركن فصار كمقارنته مسح الوجه . وقال المتولي : أخذه لوجهه صحيح ولا يضر اللمس معه ، لأن العبادة هي المسح لا الأخذ . فإن أخذ بعد ذلك ليديه بطل مسح وجهه لأنه أحدث قال الرافعي : قول القاضي هو الوجه

[ ص: 273 ] الرابعة ) إذا كانت يده نجسة فضربها على تراب طاهر ومسح بها وجهه جاز على أصح الوجهين ، وبه قطع البغوي والروياني ، وقد تقدمت المسألة في باب الاستطابة . ولا يصح مسح اليد النجسة بلا خلاف ، كما لا يصح غسلها في الوضوء مع بقائها نجسة . ولو تيمم ثم وقعت عليه نجاسة فقال إمام الحرمين : لا يبطل تيممه قطعا وقال المتولي : فيه وجهان كما لو تيمم ثم ارتد لأنها تمنع إباحة الصلاة . والصواب قول الإمام . ولو تيمم قبل الاجتهاد في القبلة ففي صحته وجهان ، كما لو تيمم وعليه نجاسة ، ذكره في البحر ، ولو تيمم مكشوف العورة صح بالاتفاق ، وقد ذكرناه في باب الاستطابة .

( الخامسة ) قال أصحابنا : إذا قطعت يده من بعض الساعد ، وجب مسح ما بقي من محل الفرض ، فإن قطع من فوق المرفق فلا فرض عليه ، ويستحب أن يمس الموضع ترابا كما سبق في الوضوء . حتى قال البندنيجي والمحاملي : لو قطع من المنكب استحب أن يمسح المنكب كما قلنا في الوضوء وبهذا اللفظ نص عليه الشافعي في الأم ، قال العبدري : هذا الذي ذكرناه من استحباب غسل موضع القطع فوق المرفق في الوضوء ومسحه بالتراب في التيمم هو مذهبنا ومذهب مالك وزفر وأحمد وداود ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : يجب غسله في الوضوء ، ومسحه في التيمم . دليلنا أنه فات محل الوجوب ، قال أصحابنا : وكل ما ذكرناه في الوضوء من الفروع في قطع اليد وزيادة الكف والأصبع وتدلي الجلدة يجيء مثله في التيمم ، قال الدارمي : لو انقطعت أصابعه وبقيت متعلقة باليد فهل ييممها ؟ فيه وجهان ( قلت ) قياس المذهب القطع بوجوب التيمم ، ولو لم يخلق له مرفق استظهر حتى يعلم . قال أصحابنا : ولو كان في أصبعه خاتم فلينزعه في ضربة اليدين ليدخل التراب تحته ، قال صاحب العدة وغيره : ولا يكفيه تحريكه بخلاف الوضوء لأن الماء يدخل تحته بخلاف التراب .

( السادسة ) يتصور تجديد التيمم في حق المريض والجريح ونحوهما ممن يتيمم مع وجود الماء إذا تيمم وصلى فرضا ثم أراد نافلة ، ويتصور في حق من لا يتيمم إلا مع عدم الماء إذا تيمم وصلى فرضا ولم يفارق موضعه وقلنا لا يجب الطلب ثانيا ، وهل يستحب التجديد في هذين الموضعين ؟ فيه [ ص: 274 ] وجهان حكاهما الشاشي المشهور : لا يستحب ، وبه قطع القفال والقاضي حسين وإمام الحرمين والغزالي والمتولي والبغوي والروياني وآخرون لأنه لم ينقل فيه سنة ولا فيه تنظيف ، واختار الشاشي استحبابه كالوضوء .

( السابعة ) اتفق أصحابنا أنه يشترط إيصال الغبار إلى جميع بشرة اليد من أولها إلى المرفق ، فإن بقي شيء من هذا لم يمسه غبار لم يصح تيممه . وزاد الشافعي هذا بيانا فقال في الأم : لو ترك من وجهه أو يديه قدرا يدركه الطرف أو لا يدركه لم يمر عليه التراب ، لم يصح تيممه وعليه إعادة كل صلاة صلاها كذلك . ونقل إمام الحرمين هذا عن الأصحاب ثم قال : وهذا مشكل فإن الضربة الثانية التي لليدين إذا ألصقت ترابا بالكفين فالظاهر أنه يصل ما لصق بالكف إلى مثل سعتها من الساعدين ، ولست أظن ذلك الغبار ينبسط على الساعدين ظهرا وبطنا ثم على ظهور الكفين ، وقد ورد الشرع بالاقتصار على ضربتين ، وهذا مشكل جدا فلا يتجه إلا مسلكان ( أحدهما ) المصير إلى القول القديم وهو الاكتفاء بمسح الكفين ( والثاني ) أن نوجب إثارة الغبار ، ثم نكتفي بإيصال جرم اليد مسحا إلى الساعدين من غير تكليف بسط التراب في عينه ، والذي ذكره الأصحاب أنه يجب إيصال التراب إلى جميع محل التيمم يقينا . فإن شك وجب إيصال التراب إلى موضع الشك حتى يتيقن انبساط التراب على جميع المحل ونحن نقطع بأن هذا ينافي الاقتصار على ضربة واحدة لليدين ، فالذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب المحل بالمسح باليد المغبرة من غير ربط الفكر بانبساط الغبار ، وهذا شيء أظهرته ولم أر بدا منه وما عندي أن أحدا من الأصحاب يسمح بأنه لا يجب بسط التراب على الساعدين .

هذا كلام إمام الحرمين ، وهذا الذي اختاره ظاهر والله أعلم .

( فرع ) مذهبنا أنه يجب إيصال التراب إلى جميع البشرة الظاهرة من الوجه والشعر الظاهر عليه قال العبدري : وبه قال أكثر العلماء . وعن أبي حنيفة روايات ( إحداها ) كمذهبنا وهي التي ذكرها الكرخي في مختصره ( والثانية ) إن ترك قدر درهم منه لم يجزه ودونه يجزيه ( والثالثة ) : إن ترك دون ربع الوجه أجزأه وإلا فلا . [ ص: 275 ] والرابعة ) إن مسح أكثره وترك الأقل منه أو من الذراع أجزأه وإلا فلا . حكاه الطحاوي عنه وعن أبي يوسف وزفر . وحكى ابن المنذر عن سليمان بن داود أنه جعله كمسح الرأس دليلنا بيان النبي صلى الله عليه وسلم وقد استوعب الوجه ، والقياس على الوضوء والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية