صفحة جزء
فصل صح عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال : إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي ، وروي عنه : إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث واتركوا قولي ، أو قال : فهو مذهبي ، وروي هذا المعنى بألفاظ مختلفة . وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض وغيرهما ، مما هو معروف في كتب المذهب . وقد حكى المصنف ذلك عن الأصحاب فيهما . وممن حكى عنه أنه أفتى بالحديث من أصحابنا أبو يعقوب البويطي [ ص: 105 ] وأبو القاسم الداركي ، وممن نص عليه أبو الحسن إلكيا الطبري في كتابه في أصول الفقه ، وممن استعمله من أصحابنا المحدثين الإمام أبو بكر البيهقي وآخرون ، وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ، ومذهب الشافعي خلافه عملوا بالحديث ، وأفتوا به قائلين : مذهب الشافعي ما وافق الحديث ، ولم يتفق ذلك إلا نادرا ، ومنه ما نقل عن الشافعي فيه قول على وفق الحديث . وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أن كل واحد رأى حديثا صحيحا قال : هذا مذهب الشافعي وعمل بظاهره ، وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه ، وشرطه : أن يغلب على ظنه أن الشافعي - رحمه الله - لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته ، وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها .

وهذا شرط صعب قل من يتصف به ، وإنما اشترطوا ما ذكرنا ; لأن الشافعي - رحمه الله - ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها ، لكن قام الدليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك .

قال الشيخ أبو عمرو - رحمه الله - : ليس العمل بظاهر ما قاله الشافعي بالهين ، فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من الحديث ، وفيمن سلك هذا المسلك من الشافعيين من عمل بحديث تركه الشافعي - رحمه الله - عمدا ، مع علمه بصحته لمانع اطلع عليه وخفي على [ ص: 106 ] غيره ، كأبي الوليد ( 1 ) موسى بن أبي الجارود ممن صحب الشافعي ، قال : صح حديث { أفطر الحاجم والمحجوم } ، فأقول : قال الشافعي : أفطر الحاجم والمحجوم ، فردا ذلك على أبي الوليد ; لأن الشافعي تركه مع علمه بصحته ، لكونه منسوخا عنده ، وبين الشافعي نسخه واستدل عليه ، وستراه في ( كتاب الصيام ) إن شاء الله تعالى ، وقد قدمنا عن ابن خزيمة أنه قال : لا أعلم سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتبه . وجلالة ابن خزيمة وإمامته في الحديث والفقه ، ومعرفته بنصوص الشافعي بالمحل المعروف .

قال الشيخ أبو عمرو : فمن وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه نظر إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقا ، أو في ذلك الباب أو المسألة كان له الاستقلال بالعمل به . وإن لم يكمل وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث . فلم يجد لمخالفته عنه جوابا شافيا ، فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي ، ويكون هذا عذرا له في ترك مذهب إمامه هنا ، وهذا الذي قاله حسن متعين والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية