صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز التيمم للمكتوبة إلا بعد دخول وقتها ، لأنه قبل دخول الوقت مستغن عن التيمم ، كما لو تيمم مع وجود الماء فإن تيمم قبل دخول الوقت لفائتة فلم يصلها حتى دخل الوقت ففيه وجهان قال أبو بكر بن الحداد : يجوز أن يصلي به الحاضرة لأنه تيمم وهو غير مستغن عن التيمم فأشبه إذا تيمم للحاضرة بعد دخول وقتها ، ومن أصحابنا من قال : لا يجوز لأنها فريضة تقدم التيمم على وقتها فأشبه إذا تيمم لها قبل دخول الوقت ) .


( الشرح ) شروط صحة التيمم أربعة : ( أحدها ) كون المتيمم أهلا للطهارة وقد سبق بيانه في باب نية الوضوء ( الثاني ) كون التراب مطلقا وقد سبق بيانه ( الثالث ) أن يكون المتيمم معذورا بفقد الماء أو العجز عن استعماله وسيأتي بيانه في الفصول بعده ( الرابع ) أن يكون التيمم بعد دخول الوقت واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن التيمم للمكتوبة لا يصح إلا بعد دخول وقتها . قال أصحابنا : سواء كان التيمم للعجز عن استعمال الماء بسبب عدمه أو لمرض أو جراحة وغير ذلك .

ولو أخذ التراب على يديه قبل الوقت ومسح بهما وجهه في الوقت لم يصح ، بل يشترط الأخذ في الوقت كما يشترط المسح فيه لأنه أحد أركان التيمم فأشبه المسح . صرح به البغوي وغيره . قال أصحابنا : فلو خالف وتيمم لفريضة قبل وقتها لم يصح لها بلا خلاف ولا يصح أيضا للنافلة على الصحيح المشهور المنصوص في البويطي ، وقال صاحب التتمة وغيره في صحة تيممه للنفل وجهان بناء على القولين فيمن أحرم بالظهر قبل الزوال هل تنعقد صلاته نفلا ؟ ونقل الشاشي هذا الخلاف عن بعض الأصحاب ، ثم قال : هذا [ ص: 276 ] خلاف نصه في البويطي ويخالف الصلاة فإنه أحرم بها معتقدا دخول وقتها فانعقدت نفلا ، وهنا تيمم عالما بعدم دخول الوقت فلم يصح .

واعلم أن قولهم : لا يصح التيمم قبل الوقت معناه قبل الوقت الذي تصح فيه تلك الصلاة ، فلو جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر وتيمم للعصر بعد سلامه من الظهر صح . لأن هذا وقت فعلها . هذا إذا قلنا بالمذهب الصحيح المشهور أنه يجوز الجمع بين الصلاتين للمتيمم ، ولا يضر الفصل بالتيمم . وفيه وجه لأبي إسحاق المروزي أنه لا يصح الجمع بسبب الفصل ، وليس بشيء . ولو تيمم وصلى الظهر ثم تيمم ليضم إليها العصر فدخل وقت العصر قبل أن يشرع فيها فقد حكى صاحب البحر عن والده أنه قال اجتهادا لنفسه : بطل الجمع ولا يصح هذا التيمم للعصر ، لوقوعه قبل وقتها مع بطلان الجمع ، وقطع الرافعي بهذا وفيه احتمال ظاهر ، ويجوز أن يخرج جواز فعلها بهذا التيمم على الوجهين في التيمم لفائتة قبل وقت الحاضرة هل تباح به الحاضرة ؟ ويمكن الفرق بأنه في مسألة الفائتة صح تيممه لما نوى واستباحه فاستباح غيره بدلا ، وهنا لم يستبح ما نوى على الصفة التي نوى فلم يستبح غيره ، أما إذا أراد الجمع في وقت العصر ، فتيمم للظهر في وقت الظهر ، فإنه يصح لأنه وقتها .

ولو تيمم فيه للعصر لم يصح لأنه لم يدخل وقتها . ذكره الروياني ، وهو ظاهر ، قال أصحابنا : والفائتة وقتها بتذكرها فلا يصح التيمم لها ، إلا إذا تذكرها ، فلو شك هل عليه فائتة ؟ فتيمم لها ، ثم بان أن عليه فائتة فقد سبق في آخر فصل نية التيمم أن المشهور أنه لا يصح تيممه ، والله أعلم . أما إذا تيمم لمكتوبة في أول وقتها ، وأخر الصلاة إلى أواخر الوقت فصلاها بذلك التيمم ، فإنه يصح على المذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي ، وقطع به جمهور الأصحاب في الطرق كلها ، قالوا : وكذا يجوز أن يصليها بذلك التيمم بعد خروج الوقت ، وهذا بشرط ألا يفارق موضعه ، ولا يتجدد ما يتوهم بسببه حصول ماء . وحكى الماوردي والروياني والشاشي فيه وجهين ، الأصح المنصوص هذا . والثاني : قول ابن سريج والإصطخري أنه يلزمه تعجيل الصلاة عقب التيمم ، ولا يؤخر إلا قدر الأذان والإقامة والتنفل بما هو من مسنونات فرضه . فإن أخر عن هذا بطل تيممه [ ص: 277 ] لأنها طهارة ضرورة فلزم تعجيلها كطهارة المستحاضة ، والمذهب الأول ، لأن حدث المستحاضة يتجدد بعد الطهارة ، بخلاف المتيمم . أما إذا تيمم شاكا في دخول الوقت فبان أنه كان قد دخل فلا يصح تيممه لعدم شرطه وهو العلم بالوقت حال التيمم ، صرح به الماوردي وآخرون وقد سبقت هذه القاعدة وأمثلتها في باب مسح الخف .

أما إذا تيمم لفائتة فلم يصلها حتى دخل وقت فريضة حاضرة ، فهل له أن يصلي بذلك التيمم تلك الحاضرة ؟ فيه وجهان مشهوران في الطريقتين ، وقد ذكر المصنف دليلهما ، قال ابن الحداد : يجوز وهو الصحيح عند الأصحاب . والثاني : لا يجوز قاله الشيخ أبو زيد المروزي ، وأبو عبد الله الخضري - بكسر الخاء وإسكان الضاد المعجمتين - ولو تيمم للظهر في وقتها ، ثم تذكر فائتة ، فهل له أن يصلي به الفائتة ؟ فيه طريقان مشهوران .

( أحدهما ) أنه على الوجهين ( والثاني ) القطع بالجواز ، والفرق أن الفائتة واجبة في نفس الأمر حال التيمم ، بخلاف الحاضرة في المسألة الأولى . ووافق أبو زيد والخضري على الجواز هنا ، ونقل القاضي أبو الطيب في شرح الفروع اتفاق الأصحاب على الجواز هنا ، ولو تيمم لفائتة ثم تذكر قبل قضائها فائتة أخرى فقال القفال في شرح التلخيص : اتفق الأصحاب على أن له أن يصلي بهذا التيمم الفائتة التي تذكرها ، ونقل البغوي فيه الخلاف فقال : يجوز على ظاهر المذهب ، وعلى الوجه الآخر لا يجوز . وهذا الذي نقله البغوي متعين . ولو تيمم لفريضة في وقتها ثم نذر صلاة فهل له أن يصلي بهذا التيمم المنذورة بدل المكتوبة ؟ فيه الوجهان حكاهما الروياني وغيره . هذا كله تفريع على المذهب ، وهو أن تعيين الفريضة لا يشترط في صحة التيمم ، فإن شرطناه لم يصح التيمم لغير ما عينه . هذا كله في التيمم للمكتوبة .

أما النافلة فضربان ، مؤقتة وغيرها ، فغيرها يتيمم لها متى شاء إلا في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ، فإنه لا يتيمم فيها لنافلة لا سبب لها ، فإن خالف وتيمم لها فقد نص الشافعي رحمه الله في البويطي أنه لا يصح تيممه ولا يستبيح به النافلة بعد خروج وقت النهي . وبهذا قطع أكثر [ ص: 278 ] الأصحاب لأنه تيمم قبل الوقت . وقال القاضي حسين والمتولي : في صحة تيممه وجهان بناء على انعقاد هذه الصلاة في وقت النهي . وحكى هذا الخلاف الروياني والشاشي وضعفاه ، ولو تيمم قبل وقت الكراهة ثم دخل لم يبطل تيممه بلا خلاف ، فإذا زال وقت الكراهة صلى به . وأما النافلة المؤقتة فعبارة المصنف هنا وفي التنبيه تشعر بأنه لا يشترط في التيمم لها دخول الوقت ، وصرح جمهور الخراسانيين بأنه لا يصح التيمم لها إلا بعد دخول وقتها . قال الرافعي : وهذا هو المشهور في المذهب . وحكى إمام الحرمين والغزالي وجهين ، ( أحدهما ) هذا ، ( والثاني ) : يجوز قبل وقتها لأن أمرها أوسع من الفرائض ; ولهذا أجيز نوافل بتيمم واحد ، فإذا قلنا بالمشهور احتجنا إلى بيان أوقات النوافل ، فوقت سنن المكتوبات والوتر والضحى والعيد معروف في مواضعها ووقت الكسوف بحصول الكسوف ، والاستسقاء باجتماع الناس لها في الصحراء ، وتحية المسجد بدخوله ، والخلاف جار في جميع النوافل المؤقتة من الرواتب وغيرها ، وفي عبارة الغزالي إيهام اختصاصه بالرواتب فلا يغتر به ، والله أعلم .

وفي وقت التيمم لصلاة الجنازة وجهان مشهوران أصحهما وأشهرهما أنه يدخل بغسل الميت لأنها في ذلك الوقت تباح وتجزئ ، وبهذا قطعإمام الحرمين والغزالي في كتبه والبغوي وصاحب العدة . والثاني بالموت لأنه السبب ، وبهذا قطع الغزالي في الفتاوى وصححه الشاشي قال القاضي حسين : والمستحب أن يتيمم بعد التكفين لأن الصلاة قبل التكفين تكره وإن كانت جائزة ، ولو لم يجد ماء يغسل به الميت وقلنا بالأصح أنه لا يصح التيمم لها إلا بعد غسله وجب أن ييمم الميت أولا ثم يتيمم هو للصلاة عليه ، وهذا مما يسأل عنه فيقال شخص لا يصح تيممه حتى ييمم غيره ، والله أعلم .

( فرع ) إذا تيمم لنافلة في وقتها استباحها وما شاء من النوافل ولا يستبيح به الفرض على المذهب ، والمنصوص في الأم ، وفيه القول الضعيف الذي سبق أن الفرض يباح بنية النفل ، فعلى هذا الضعيف يصلي به الفريضة إن تيمم في وقتها ، وإن كان قبله فعلى الوجهين فيمن تيمم لفائتة ثم دخل وقت حاضرة فأرادها به . هكذا نقله إمام الحرمين عن حكاية الشيخ أبي علي السنجي .

قال الإمام : وهذا بعيد جدا فإن تيممه للفائتة استعقب جواز فعل [ ص: 279 ] الفائتة به ثم دام إمكان أداء فرض به حتى دخل وقت الفريضة ، وهنا لم يستعقب تيممه إمكان أداء فرض ، أما إذا تيمم لنفل قبل الزوال وهو ذاكر فائتة فتيممه يصلح للفائتة على القول الضعيف ، فلو زالت الشمس فأراد الظهر به بدلا عن الفائتة ففيه الوجهان .

( فرع ) هذا الذي ذكرناه من أن التيمم لمكتوبة لا يصح إلا بعد دخول وقتها هو مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وداود وجمهور العلماء . وقال أبو حنيفة : يجوز قبل الوقت ، واحتجوا بالقياس على الوضوء ومسح الخف وإزالة النجاسة ، ولأنه وقت يصلح للمبدل فصلح للبدل ، كما بعد دخول الوقت ، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } إلى قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } فاقتضت الآية أنه يتوضأ ويتيمم عند القيام ، خرج جواز تقديم الوضوء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع ، بقي التيمم على مقتضاه لأنه تيمم وهو مستغن عن التيمم ، فلم يصح ، كما لو تيمم ومعه ماء . فإن قالوا ينتقض بالتيمم في أول الوقت فإنه مستغن ، وإنما يحتاج في أواخر الوقت قلنا : بل هو محتاج إلى براءة ذمته من الصلاة وإحراز فضيلة أول الوقت ، ولأنها طهارة ضرورة فلم تصح قبل الوقت كطهارة المستحاضة فقد وافقوا عليها . قال إمام الحرمين في الأساليب : ثبت جواز التيمم بعد الوقت ، فمن جوزه قبله فقد حاول إثبات التيمم المستثنى عن القاعدة بالقياس ، وليس ما قبل الوقت في معنى ما بعده .

والجواب عن قياسهم على الوضوء أنه قربة مقصودة في نفسها ترفع الحدث بخلاف التيمم فإنه ضرورة فاختص بحال الضرورة كأكل الميتة ، ولأن التيمم لإباحة الصلاة ولا تباح الصلاة قبل الوقت . والجواب عن مسح الخف أنه رخصة وتخفيف فلا يضيق باشتراط الوقت ، يدل على أنه رخصة للتخفيف ، جوازه مع القدرة على غسل الرجل ، والتيمم ضرورة ولهذا لا يجوز مع القدرة على استعمال الماء . والجواب عن إزالة النجاسة أنها طهارة رفاهية فالتحقت بالوضوء بخلاف التيمم . [ ص: 280 ] وقولهم : ( يصلح للمبدل فصلح للبدل ) ينتقض بالليل فإنه يصلح لعتق الكفارة دون بدلها وهو الصوم ، وينتقض بيوم العيد ، فإنه يصلح لنحر هدي التمتع دون بدله وهو الصوم ، قال الدارمي : قال أبو سعيد الإصطخري : لا نناظر الحنفية في هذه المسألة لأنهم خرقوا الإجماع فيها ، والله أعلم .

( فرع ) ذكر المصنف أبا بكر بن الحداد ، وهذا أول موضع ذكره ، وهو محمد بن أحمد القاضي صاحب الفروع من نظار أصحابنا ومتقدميهم في العصر والمرتبة والتدقيق ، تفقه على أبي إسحاق المروزي وكان عارفا بالعربية والمذهب وانتهت إليه إمامة أهل مصر في زمنه ، توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة رحمه الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية