صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز لعادم الماء أن يتيمم إلا بعد الطلب ، لقوله تعالى : " { فلم تجدوا ماء فتيمموا } " ولا يقال لم يجد إلا بعد الطلب ، ولأنه بدل أجيز عند عدم المبدل فلا يجوز فعله إلا بعد ثبوت العدم كالصوم في الكفارة لا يفعله حتى يطلب الرقبة ، ولا يصح الطلب إلا بعد دخول الوقت ، لأنه إنما يطلب ليثبت شرط التيمم وهو عدم الماء ، فلم يجز في وقت لا يجوز فيه فعل التيمم ، والطلب أن ينظر عن يمينه وشماله ، وأمامه ووراءه ، فإن كان بين يديه حائل من جبل أو غيره صعده ونظر حواليه ، وإن كان معه رفيق سأله عن الماء ) .


[ ص: 287 ] الشرح ) في الفصل مسائل ( إحداها ) لا يجوز لعادم الماء التيمم إلا بعد طلبه ، هذا مذهبنا وبه قال مالك وداود وهو رواية عن أحمد . قال أبو حنيفة : إن ظن بقربه ماء لزمه طلبه وإلا فلا . واحتج له بأنه عادم للأصل فانتقل إلى بدله ، كما لو عدم الرقبة في الكفارة ، ينتقل إلى الصوم ، واحتج أصحابنا بقوله تعالى : { فلم تجدوا } قال الشافعي والأصحاب : لا يقال لم يجد إلا لمن طلب فلم يصب .

فأما من لم يطلب فلا يقال : لم يجد . ونقلوا هذا عن أهل اللغة قالوا : ولهذا لو قال لوكيله : اشتر لي رطبا فإن لم تجد فعنبا لا يجوز أن يشتري العنب قبل طلب الرطب ، وبالقياس على الرقبة في الكفارة والهدي في التمتع فإنه لا ينتقل إلى بدلهما إلا بعد طلبهما في مظانهما . وبالقياس على الحاكم فإنه لا ينتقل إلى القياس إلا بعد طلب النص في مظانه ، ولأنه شرط من شروط الصلاة قد يصادف بالطلب ، فوجب طلبه كالقبلة . وأما قياسهم على الرقبة فرده أصحابنا وقالوا : لا ينتقل إلى الصوم إلا بعد طلب الرقبة في مظانها ، والله أعلم . المسألة الثانية : هذا الذي أطلقه المصنف من القطع بوجوب الطلب بكل حال هو الذي أطلقه العراقيون وبعض الخراسانيين ، وقال جماعات من الخراسانيين : إن تحقق عدم الماء حواليه لم يلزمه الطلب ، وبهذا قطع إمام الحرمين والغزالي وغيرهما واختاره الروياني . ومنهم من ذكر فيه وجهين ، قال الرافعي : أصح الوجهين في هذه الصورة أنه لا يجب الطلب .

قال إمام الحرمين : إنما يجب الطلب إذا توقع وجود الماء توقعا قريبا أو مستبعدا ، فإن ` قطع بأن لا ماء هناك بأن يكون في بعض رمال البوادي فيعلم بالضرورة استحالة وجود ماء لم نكلفه التردد لطلبه لأن طلب ما يعلم استحالة وجوده محال ، ثم هذا الذي ذكره هؤلاء هو فيما إذا تيقن أن لا ماء هناك ، فأما إذا ظن العدم ولم يتيقنه فيجب الطلب بلا خلاف عند جميعهم ، وصرحوا كلهم به إلا صاحب الإبانة فإنه حكى فيه وجهين وأنكرهما إمام الحرمين عليه وقال : لست أثق بهذا النقل وإنما الوجهان في التيمم الثاني ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى . الثالثة : قال أصحابنا : لا يصح الطلب إلا بعد دخول الوقت ودليله [ ص: 288 ] ما ذكره المصنف ، فإن طلب وهو شاك في دخول الوقت ثم بان أنه وافق الوقت لم يصح طلبه . صرح به الماوردي وآخرون كما قلنا في التيمم نفسه ، وكما لو صلى شاكا في الوقت أو إلى جهة بغير اجتهاد فوافق ، فإنه لا يصح . وقد سبقت هذه القاعدة في فرع - في باب مسح الخف - فإن قيل : إذا طلب قبل الوقت فدخل الوقت ولم يفارق موضعه ، ولا تجدد ما يحتمل وجود ماء ، كان طلبه ثانيا عبثا . فالجواب ما أجاب به صاحب الشامل وغيره أنه إنما يتحقق عدم وجود ماء إذا كان ناظرا إلى مواضع الطلب ولم يتجدد فيها شيء ، وهذا يكفيه في الطلب بعد دخول الوقت والله أعلم .

( فرع ) لو طلب في أول الوقت وأخر التيمم فتيمم في آخر الوقت جاز ما لم يحدث ما يوجب تجديد الطلب ، صرح به البغوي والروياني والشاشي وصاحب البيان وآخرون . الرابعة : في صفة الطلب ، قال أصحابنا أول الطلب أن يفتش رحله ثم ينظر حواليه يمينا وشمالا وقداما وخلفا ، ولا يلزمه المشي أصلا بل يكفيه نظره في هذه الجهات وهو في مكانه هذا إن كان الذي حواليه لا يستتر عنه ، فإن كان بقربه جبل صغير ونحوه صعده ونظر حواليه ، إن لم يخف ضررا على نفسه أو ماله الذي معه أو المخلف في رحله فإن خاف لم يلزمه المشي إليه قال الشافعي في البويطي : " وليس عليه أن يدور في الطلب ، لأن ذلك أكثر ضررا عليه من إتيان الماء في الموضع البعيد وليس ذلك عليه عند أحد " هذا نصه بحروفه وهكذا ذكر الطلب الأصحاب في الطريقتين ، كما ذكرته . وحكى إمام الحرمين هذا عن صاحب التقريب ، ثم حكى عن شيخه أنه يتردد قليلا ، قال الإمام : وليس بينهما اختلاف عندي . بل ذلك يختلف باختلاف الأرض فنضبطه ونقول : لا يلزمه أن يبعد عن منزل الرفقة نصف فرسخ ، ولا نقول : لا يفارق الخيام بل يطلب من موضع لو انتهى إليه واستغاث بالرفقة لم يبعد عنه غوثهم مع ما هم عليه من تشاغلهم بأقوالهم وأفعالهم . ويختلف باختلاف الأرض واستوائها فإن وصله نظره كفى وإلا تردد قليلا ، وتابع الغزالي وغيره الإمام في هذا الضبط . قال الرافعي بعد حكايته كلام الإمام : هذا الضبط لا يوجد لغير الإمام لكن الأئمة بعده تابعوه عليه وليس في الطريق [ ص: 289 ] ما يخالفه ( قلت ) بل قد خالفه الأصحاب فإن ضبطهم الذي حكيته أولا يخالف ضبطه والله أعلم .

هذا كله إذا لم يكن معه رفقة . فإن كان وجب سؤالهم إلى أن يستوعبهم أو يضيق الوقت فلا يبقى إلا ما يسع تلك الصلاة ، هذا هو المذهب الصحيح المشهور وبه قطع البغوي وغيره ، وفي وجه إلى أن يبقى من الوقت ما يسع ركعة ، حكاه صاحبا التتمة والبحر ، وفي وجه ثالث : يستوعبهم وإن خرج الوقت ، حكاه الرافعي وهو والذي قبله ضعيفان . قال أصحابنا : وله أن يطلب بنفسه ، وله أن يوكل ثقة عنده يطلب له ، سواء فيه الطلب بالنظر في الأرض والطلب من الرفقة . قال أصحابنا : ولا يجب أن يطلب من كل واحد بعينه بل ينادي فيهم : من معه ماء ؟ من يجود بالماء ؟ أو نحو هذه العبارة . قال البغوي وغيره : لو قلت الرفقة لم يلزم الطلب من كل واحد بعينه ، قال أصحابنا : ولو بعث النازلون واحدا يطلب لهم أجزأ عنهم كلهم ولا فرق في جواز التوكيل في الطلب بين المعذور وغيره ، هذا هو المذهب الصحيح المشهور . وحكى الخراسانيون وجها ، أنه لا يجوز التوكيل في الطلب إلا لمعذور ، قال المتولي : هذا الوجه مبني على الوجه السابق أنه إذا يممه غيره بلا عذر لم يصح ، وهذا الوجه شاذ ضعيف ، وكذا المبني عليه . ولو طلب له غيره بغير إذنه لم يجزه بلا خلاف . قال صاحب الحاوي : والطلب من الرفقة معتبر لمنزل الذي فيه رفقته ، وليس عليه طلبه في غير المنزل المنسوب إلى منزله ، فيسأله من فيه من أهله وغير أهله بنفسه أو بمن يصدقه عن الماء معهم أو في منزلهم ، فمن أخبره عن الماء بالمنزل لم يعتمده إلا أن يكون ثقة ، ومن أخبره أن لا ماء بيده عمل بقوله وإن كان فاسقا ; لأنه إن لم يكن صادقا فهو مانع .

قال أصحابنا : فإذا علم أن مع أحد الرفقة ماء وجب استيهابه ، فإن وهب له وجب قبوله ، هذا هو الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور ، ونقله المحاملي والبغوي وغيرهما ، عن نص الشافعي ، وفيه وجه أنه لا يلزمه قبول الهبة حكاه المتولي وآخرون من الخراسانيين وصاحب البيان وهو شاذ [ ص: 290 ] مردود إذ لا منة فيه . ووجه ثالث : أنه يجب قبول الهبة لكن لا يجب الاستيهاب . حكاه الشيخ أبو حامد والمحاملي وإمام الحرمين والغزالي والمتولي والبغوي وغيرهم لصعوبة السؤال على أهل المروءة ، كما لا يجب استيهاب ثمن الرقبة في الكفارة ، والمذهب الأول لأنه لا منة بالماء في العادة بخلاف الرقبة ، ولهذا لو وهبت الرقبة ابتداء لم يجب قبولها بخلاف الماء ، هذا كله فيمن أراد التيمم ولم يسبق له طلب ، فإن كان سبق له طلب وتيمم ، وأراد تيمما آخر لبطلان الأول بحدث أو غيره أو لفريضة أخرى أو لغير ذلك ، فهل يحتاج إلى إعادة الطلب ؟ ينظر فإن احتمل ولو على ندور حصول الماء بأن انتقل من موضع التيمم أو طلع ركب أو سحابة أو نحو ذلك وجب الطلب بلا خلاف حسب ما تقدم ، فكل موضع تيقن بالطلب الأول أن لا ماء فيه ولم يحتمل حدوث ماء فيه لهذا السبب لا يجب الطلب منه على أصح الوجهين عند الخراسانيين ، والذي ظن أن لا ماء فيه يجب الطلب منه بلا خلاف على الوجه الشاذ الذي قدمناه عن صاحب الإبانة . وأما إذا لم يحتمل حدوث ماء ولم يفارق موضعه فإن كان تيقن بالطلب الأول أن لا ماء فحكمه ما سبق أنه لا يلزمه الطلب على الأصح عند الخراسانيين ، وإن لم يتيقنه ، بل ظن العدم فإنه يكفي ذلك في الأول ، فهل يحتاج في الثاني إلى إعادة الطلب ؟ فيه وجهان مشهوران للخراسانيين . أصحهما عند إمام الحرمين وغيره : يحتاج ، وبه قطع البغوي ، وهو مقتضى إطلاق العراقيين ، بل صرح به جماعة منهم كالشيخ أبي حامد والماوردي لأنه قد يحصل ماء من بئر خفيت أو بدلالة شخص . فعلى هذا قال إمام الحرمين والبغوي وغيرهما : يكون الطلب الثاني أخف من الأول ولا يجب أن يطلب ثانيا من رحله لأنه علم أن لا ماء فيه علم إحاطة ، قال الشيخ أبو حامد : وإذا طلب ثانيا وصلى ثم حضرت صلاة أخرى وجب الطلب لها ثالثا وهكذا كلما حضرت صلاة ، قال : ولو كان عليه فوائت تيمم للأولى ، ولا يجوز التيمم للثانية إلا بعد طلب ثان ، وكذا يجب أن يطلب للثالثة وما بعدها قال : وكذا إذا أراد الجمع بين الصلاتين طلب للثانية وهذا الذي قاله فيه نظر .

( فرع ) يجوز الجمع بين الصلاتين للمتيمم ، وإذا أوجبنا الطلب [ ص: 291 ] ثانيا لا يضر التفريق به بين الصلاتين لأنه خفيف وفيه وجه مشهور عن أبي إسحاق المروزي : أنه لا يجوز الجمع للمتيمم لحصول الفصل بالطلب وهو ضعيف في المذهب والدليل ، قال القاضي أبو الطيب وغيره : لأنه إذا جاز الفصل بينهما بالإقامة - وليست بشرط - فالتيمم الذي هو شرط أولى ، قالوا : ولأنا لا نكلفه في الطلب إلا أن يقف موضعه ويلتفت عن جوانبه ، وهذا لا يؤثر في الجمع والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في طلب الماء ، قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الطلب إذا عدم الماء سواء رجاه أو توهمه ، وبه قال مالك وداود وهو رواية عن أحمد وقال أبو حنيفة : إن ظن وجوده بقربه لزمه وإلا فلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية