صفحة جزء
( 1442 ) مسألة ; قال : ( وصلاة الخوف إذا كان بإزاء العدو وهو في سفر ، صلى بطائفة ركعة ، وأتمت [ ص: 131 ] لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة ، ثم ذهبت تحرس ، وجاءت الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو ، فصلت معه ركعة وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة ، ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد ، ويسلم بهم ) .

وجملة ذلك أن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات في حق الإمام والمأموم جميعا ، فإذا كان في سفر يبيح القصر ، صلى بهم ركعتين ، بكل طائفة ركعة ، وتتم لأنفسها أخرى على الصفة المذكورة ، وإنما يجوز ذلك بشرائط : منها أن يكون العدو مباح القتال ، وأن لا يؤمن هجومه .

قال القاضي : ومن شرطها كون العدو في غير جهة القبلة . ونص أحمد على خلاف ذلك ، في رواية الأثرم ، فإنه قال : قلت له ، حديث سهل ، نستعمله مستقبلين القبلة كانوا أو مستدبرين ؟ قال : نعم ، هو أنكى . ولأن العدو قد يكون في جهة القبلة على وجه لا يمكن أن يصلي بهم صلاة عسفان لانتشارهم ، أو استتارهم ، أو الخوف من كمين ، فالمنع من هذه الصلاة يفضي إلى تفويتها .

قال أبو الخطاب : ومن شرطها أن يكون في المصلين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين ، كل طائفة ثلاثة فأكثر . وقال القاضي : إن كانت كل فرقة أقل من ثلاثة كرهناه ، لأن أحمد ذهب إلى ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم . ووجه . قولهما أن الله تعالى ذكر الطائفة بلفظ الجمع ، لقوله تعالى : { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } .

وأقل لفظ الجمع ثلاثة ، والأولى أن لا يشترط هذا ; لأن ما دون الثلاثة عدد تصح به الجماعة ، فجاز أن يكون طائفة كالثلاثة ، وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يشترط في صلاة الخوف أن يكون المصلون مثل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في العدد وجها واحدا ; ولذلك اكتفينا بثلاثة ، ولم يكن كذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

ويستحب أن يخفف بهم الصلاة ; لأن موضوع صلاة الخوف على التخفيف ، وكذلك الطائفة التي تفارقه تصلي لنفسها ، تقرأ بسورة خفيفة ، ولا تفارقه حتى يستقل قائما ; لأن النهوض يشتركون فيه جميعا ، فلا حاجة إلى مفارقتهم إياه قبله ، والمفارقة إنما جازت للعذر . ويقرأ ، ويتشهد ، ويطيل في حال الانتظار حتى يدركوه .

وقال الشافعي ، في أحد قوليه : لا يقرأ حال الانتظار ، بل يؤخر القراءة ليقرأ بالطائفة الثانية ، ليكون قد سوى بين الطائفتين . ولنا ، أن الصلاة ليس فيها حال سكوت ، والقيام محل للقراءة ، فينبغي أن يأتي بها فيه ، كما في التشهد إذا انتظرهم فإنه يتشهد ولا يسكت ، كذلك هاهنا ، والتسوية بينهم تحصل بانتظاره إياهم في موضعين ، والأولى في موضع واحد .

إذا ثبت هذا فقال القاضي : إن قرأ في انتظارهم قرأ بعد ما جاءوا بقدر فاتحة الكتاب وسورة خفيفة ، وإن لم يقرأ في انتظارهم قرأ إذا جاءوا بالفاتحة وسورة خفيفة ، وهذا على سبيل الاستحباب ، ولو قرأ قبل مجيئهم ثم ركع عند مجيئهم أو قبله فأدركوه راكعا ركعوا معه ، وصحت لهم الركعة مع تركه السنة ، وإذا جلس للتشهد قاموا فصلوا ركعة أخرى ، وأطال التشهد بالدعاء والتوسل حتى يدركوه ويتشهدوا ، ثم يسلم بهم .

وقال مالك : يتشهدون معه ، فإذا سلم الإمام قاموا فقضوا ما فاتهم كالمسبوق . وما [ ص: 132 ] ذكرناه أولى . لقول الله تعالى : { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك } . وهذا يدل على أن صلاتهم كلها معه . وفي حديث سهل { ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد حتى صلى الذين خلفه ركعة ، ثم سلم } . رواه أبو داود .

وروي أنه سلم بالطائفة الثانية . ولأن الأولى أدركت معه فضيلة الإحرام ، فينبغي أن يسلم بالثانية ، ليسوي بينهم . وبهذا قال مالك ، والشافعي ، إلا فيما ذكرنا من الاختلاف . وقال أبو حنيفة : يصلي كما روى ابن عمر ، قال { : صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين ، والطائفة الأخرى مواجهة للعدو ، ثم انصرفوا ، وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ، ثم صلى لهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ، ثم سلم ، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة . } متفق عليه .

وقال أبو حنيفة : يصلي بإحدى الطائفتين ركعة ، والأخرى مواجهة للعدو ، ثم تنصرف التي صلت معه إلى وجه العدو ، وهي في صلاتها ، ثم تجيء الطائفة الأخرى ، فتصلي مع الإمام الركعة الثانية ، ثم يسلم الإمام ، وترجع الطائفة إلى وجه العدو ، وهي في الصلاة ، ثم تأتى الطائفة الأولى إلى موضع صلاتها ، فتصلي ركعة منفردة ولا تقرأ فيها ; لأنها في حكم الائتمام ، ثم تنصرف إلى وجه العدو ، ثم تأتي الطائفة الأخرى إلى موضع الصلاة ، فتصلي الركعة الثانية منفردة ، وتقرأ فيها ; لأنها قد فارقت الإمام بعد فراغه من الصلاة ، فحكمها حكم المسبوق إذا فارق إمامه .

قال : وهذا أولى ; لأنكم جوزتم للمأموم فراق إمامه قبل فراغه من الصلاة ، وهي الطائفة الأولى ، وللثانية فراقه في الأفعال ، فيكون جالسا وهم قيام يأتون بركعة وهم في إمامته .

ولنا ، ما روى { صالح بن خوات ، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف ، أن طائفة صفت معه ، وطائفة وجاه العدو ، فصلى بالتي معه ركعة ، ثم ثبت قائما ، وأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى ، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالسا ، وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم . } رواه مسلم وروى سهل بن أبي حثمة مثل ذلك ، والعمل بهذا أولى ; لأنه أشبه بكتاب الله تعالى ، وأحوط للصلاة والحرب .

أما موافقة الكتاب ، فإن قول الله تعالى : { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك } . يقتضي أن جميع صلاتها معه ، وعنده تصلي معه ركعة فقط ، وعندنا جميع صلاتها معه ، إحدى الركعتين توافقه في أفعاله وقيامه ، والثانية تأتي بها قبل سلامه ، ثم تسلم معه ، ومن مفهوم قوله : لم يصلوا أن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها ، وعلى قولهم : لم تصل إلا بعضها .

وأما الاحتياط للصلاة ، فإن كل طائفة تأتي بصلاتها متوالية ، بعضها توافق الإمام فيها فعلا ، وبعضها تفارقه ، وتأتي به وحدها كالمسبوق .

وعنده تنصرف في الصلاة ، فإما أن تمشي ، وإما أن تركب ، وهذا عمل كثير ، وتستدبر القبلة ، وهذا ينافي الصلاة ، وتفرق بين الركعتين تفريقا كثيرا بما ينافيها . ثم جعلوا الطائفة الأولى مؤتمة بالإمام بعد سلامه ، ولا يجوز أن يكون المأموم مأموما في ركعة يأتي بها [ ص: 133 ] بعد سلام إمامه .

وأما الاحتياط للحرب ، فإنه يتمكن من الضرب والطعن والتحريض ، وإعلام غيره بما يراه مما خفي عليه من أمر العدو وتحذيره ، وإعلام الذين مع الإمام بما يحدث ، ولا يمكن هذا على قولهم ، ولأن مبنى صلاة الخوف على التخفيف ; لأنهم في موضع الحاجة إليه .

وعلى قولهم تطول الصلاة أضعاف ما كانت حال الأمن ; لأن كل طائفة تحتاج إلى مضي إلى مكان الصلاة ، ورجوع إلى وجاه العدو ، وانتظار لمضي الطائفة الأخرى ورجوعها ، فعلى تقدير أن يكون بين المكانين نصف ميل ، تحتاج كل طائفة إلى مشي ميل ، وانتظار للأخرى قدر مشي ميل وهي في الصلاة ، ثم تحتاج إلى تكليف الرجوع إلى موضع الصلاة لإتمام الصلاة من غير حاجة إليه .

ولا مصلحة تتعلق به ، فلو احتاج الآمن إلى مثل هذه الكلفة في الجماعة لسقطت عنه ، فكيف يكلف الخائف هذا وهو في مظنة التخفيف ، والحاجة إلى الرفق به . وأما مفارقة الإمام فجائزة للعذر ، ولا بد منها على القولين ، فإنهم جوزوا للطائفة الأولى مفارقة الإمام والذهاب إلى وجه العدو ، وهذا أعظم مما ذكرناه ، فإنه لا نظير له في الشرع ، ولا يوجد مثله في موضع آخر .

( 1443 ) فصل : وإن صلى بهم كمذهب أبي حنيفة ، جاز ، نص عليه أحمد . ولكن يكون تاركا للأولى والأحسن . وبهذا قال ابن جرير ، وبعض أصحاب الشافعي . ( 1444 ) فصل : ولا تجب التسوية بين الطائفتين ; لأنه لم يرد بذلك نص ولا قياس . ويجب أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو ممن تحصل الثقة بكفايتها وحراستها ، ومتى خشي اختلال حالهم واحتيج إلى معونتهم بالطائفة الأخرى ، فللإمام أن ينهد إليهم بمن معه ، ويبنوا على ما مضى من صلاتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية