صفحة جزء
( 1458 ) مسألة ; قال : ( وإذا كان الخوف شديدا ، وهم في حال المسايفة ، صلوا رجالا وركبانا ، إلى القبلة وإلى غيرها ، يومئون إيماء ، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا ، أو إلى غيرها ) .

أما إذا اشتد الخوف ، والتحم القتال ، فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم ; رجالا وركبانا ، إلى القبلة إن أمكنهم ، وإلى غيرها إن لم يمكنهم ، يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة ، ويجعلون السجود أخفض من الركوع ، ويتقدمون ويتأخرون ، ويضربون ويطعنون ، ويكرون ويفرون ، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها .

وهذا قول أكثر أهل العلم . وقال أبو حنيفة ، وابن أبي ليلى : لا يصلي مع المسايفة ، ولا مع المشي ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل يوم الخندق ، وأخر الصلاة ، ولأن ما منع الصلاة في غير شدة الخوف منعها معه ، كالحدث والصياح . وقال الشافعي : يصلي ، ولكن إن تابع الطعن ، أو الضرب ، أو المشي ، أو فعل ما يطول ، بطلت صلاته ; لأن ذلك من مبطلات الصلاة ، أشبه الحدث . [ ص: 140 ] ولنا ، قول الله تعالى : { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } ، قال ابن عمر : فإن كان خوف أشد من ذلك ، صلوا رجالا قياما على أقدامهم ، وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها . متفق عليه .

وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في غير شدة الخوف ، فأمرهم بالمشي إلى وجاه العدو ، ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم ، وهذا مشي كثير ، وعمل طويل ، واستدبار للقبلة ، وأجاز ذلك من أجل الخوف الذي ليس بشديد ، فمع الخوف الشديد أولى .

ومن العجب أن أبا حنيفة اختار هذا الوجه دون سائر الوجوه التي لا تشتمل على العمل في أثناء الصلاة ، وسوغه مع الغنى عنه ، وإمكان الصلاة بدونه ، ثم منعه في حال لا يقدر إلا عليه ، وكان العكس أولى ، سيما مع نص الله تعالى على الرخصة في هذه الحال ، ولأنه مكلف تصح طهارته ، فلم يجز له إخلاء وقت الصلاة عن فعلها ، كالمريض ، ويخص الشافعي بأنه عمل أبيح من أجل الخوف ، فلم تبطل الصلاة به ، كاستدبار القبلة ، والركوب ، والإيماء .

ولأنه لا يخلو عند الحاجة إلى العمل الكثير من أجل ثلاثة أمور : إما تأخير الصلاة عن وقتها ، ولا خلاف بيننا في تحريمه ، أو ترك القتال وفيه هلاكه ، وقد قال الله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } . وأجمع المسلمون على أنه لا يلزمه هذا ، أو متابعة العمل للمتنازع فيه ، وهو جائز بالإجماع ، فتعين فعله وصحة الصلاة معه . ثم ما ذكره يبطل بالمشي الكثير ، والعدو في الهرب وغيره .

وأما تأخير الصلاة يوم الخندق ، فروى أبو سعيد ، أنه كان قبل نزول صلاة الخوف . ويحتمل أنه شغله المشركون فنسي الصلاة ، فقد نقل ما يدل على ذلك ، وقد ذكرناه فيما مضى ، وأكده أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا في مسايفة توجب قطع الصلاة . وأما الصياح ، والحدث ، فلا حاجة بهم إليه ، ويمكنهم التيمم ، ولا يلزم من كون الشيء مبطلا مع عدم العذر أن يبطل معه ، كخروج النجاسة من المستحاضة ، ومن به سلس البول .

وإن هرب من العدو هربا مباحا ، أو من سيل ، أو سبع ، أو حريق لا يمكنه التخلص منه بدون الهرب . فله أن يصلي صلاة شدة الخوف ، سواء خاف على نفسه ، أو ماله ، أو أهله . والأسير إذا خافهم على نفسه إن صلى ، والمختفي في موضع ، يصليان كيفما أمكنهما . نص عليه أحمد في الأسير . ولو كان المختفي قاعدا لا يمكنه القيام ، أو مضجعا لا يمكنه القعود ، ولا الحركة ، صلى على حسب حاله .

وهذا قول محمد بن الحسن . وقال الشافعي : يصلي ويعيد . وليس بصحيح ; لأنه خائف صلى على حسب ما يمكنه ، فلم تلزمه الإعادة كالهارب . ولا فرق بين الحضر والسفر في هذا ; لأن المبيح خوف الهلاك ، وقد تساويا فيه ، ومتى أمكن التخلص بدون ذلك ، كالهارب من السيل يصعد إلى ربوة ، والخائف من العدو يمكنه دخول حصن يأمن فيه صولة العدو ، ولحوق الضرر ، فيصلي فيه ، ثم يخرج ، لم يكن له أن يصلي صلاة شدة الخوف ; لأنها إنما أبيحت للضرورة ، فاختصت بوجود الضرورة .

( 1459 ) فصل : والعاصي بهربه كالذي يهرب من حق توجه عليه ، وقاطع الطريق ، واللص ، والسارق ، [ ص: 141 ] ليس له أن يصلي صلاة الخوف ; لأنها رخصة ثبتت للدفع عن نفسه في محل مباح ، فلا تثبت بالمعصية ، كرخص السفر . ( 1460 ) فصل : قال أصحابنا : يجوز أن يصلوا في حال شدة الخوف جماعة ، رجالا ، وركبانا . ويحتمل أن لا يجوز ذلك . وهو قول أبي حنيفة ; لأنهم يحتاجون إلى التقدم والتأخر ، وربما تقدموا الإمام ، وتعذر عليهم الائتمام .

واحتج أصحابنا بأنها حالة يجوز فيها الصلاة على الانفراد ، فجاز فيها صلاة الجماعة ، كركوب السفينة ، ويعفى عن تقدم الإمام للحاجة إليه ، كالعفو عن العمل الكثير . ولمن نصر الأول أن يقول : العفو عن ذلك لا يثبت إلا بنص أو معنى نص ، ولم يوجد واحد منهما ، وليس هذا في معنى العمل الكثير ; لأن العمل الكثير لا يختص الإمامة ، بل هو في حال الانفراد ، كحال الائتمام ، فلا يؤثر الانفراد في نفسه بخلاف تقدم الإمام .

التالي السابق


الخدمات العلمية