صفحة جزء
( 1691 ) فصل : وإن منعها معتقدا وجوبها ، وقدر الإمام على أخذها منه ، أخذها وعزره ، ولم يأخذ زيادة عليها ، في قول أكثر أهل العلم ، منهم أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأصحابهم . وكذلك إن غل ماله فكتمه حتى لا يأخذ الإمام زكاته ، فظهر عليه .

وقال إسحاق بن راهويه وأبو بكر عبد العزيز : يأخذها وشطر ماله ; لما روى بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : { في كل سائمة الإبل ، في كل أربعين بنت لبون ، لا تفرق عن حسابها ، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ، ومن أباها فإني آخذها وشطر ماله ، عزمة من عزمات ربنا ، لا يحل لآل محمد منها شيء } وذكر هذا الحديث لأحمد فقال : ما أدري ما وجهه ؟ وسئل عن [ ص: 229 ] إسناده ، فقال : هو عندي صالح الإسناد . رواه أبو داود ، والنسائي ، في " سننهما " .

ووجه الأول ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : { ليس في المال حق سوى الزكاة } . ولأن منع الزكاة كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توفر الصحابة رضي الله عنهم ، فلم ينقل أحد عنهم زيادة ، ولا قولا بذلك . واختلف أهل العلم في العذر عن هذا الخبر . فقيل : كان في بدء الإسلام ، حيث كانت العقوبات في المال ، ثم نسخ بالحديث الذي رويناه .

وحكى الخطابي ، عن إبراهيم الحربي أنه يؤخذ منه السن الواجبة عليه من خيار ماله ، من غير زيادة في سن ولا عدد ، لكن ينتقي من خير ماله ما تزيد به صدقته في القيمة بقدر شطر قيمة الواجب عليه . فيكون المراد ب " ما له " هاهنا الواجب عليه من ماله ، فيزاد عليه في القيمة بقدر شطره ، والله أعلم .

فأما إن كان مانع الزكاة خارجا عن قبضة الإمام قاتله ; لأن الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مانعيها ، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه . فإن ظفر به وبماله ، أخذها من غير زيادة أيضا ، ولم تسب ذريته ; لأن الجناية من غيرهم ، ولأن المانع لا يسبى ، فذريته أولى . وإن ظفر به دون ماله ، دعاه إلى أدائها ، واستتابه ثلاثا ، فإن تاب وأدى ، وإلا قتل ، ولم يحكم بكفره .

وعن أحمد ما يدل على أنه يكفر بقتاله عليها ، فروى الميموني عنه : إذا منعوا الزكاة كما منعوا أبا بكر ، وقاتلوا عليها ، لم يورثوا ، ولم يصل عليهم . قال عبد الله بن مسعود : ما تارك الزكاة بمسلم . ووجه ذلك ، ما روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما قاتلهم ، وعضتهم الحرب ، قالوا : نؤديها . قال : لا أقبلها حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار . ولم ينقل إنكار ذلك عن أحد من الصحابة ، فدل على كفرهم .

ووجه الأول ، أن عمر وغيره من الصحابة امتنعوا من القتال في بدء الأمر ، ولو اعتقدوا كفرهم لما توقفوا عنه ، ثم اتفقوا على القتال ، وبقي الكفر على أصل النفي ، ولأن الزكاة فرع من فروع الدين ، فلم يكفر تاركه بمجرد تركه ; كالحج ، وإذا لم يكفر بتركه ، لم يكفر بالقتال عليه كأهل البغي . وأما الذين قال لهم أبو بكر هذا القول ، فيحتمل أنهم جحدوا وجوبها ، فإنه نقل عنهم أنهم قالوا : إنما كنا نؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن صلاته سكن لنا ، وليس صلاة أبي بكر سكنا لنا ، فلا نؤدي إليه .

وهذا يدل على أنهم جحدوا وجوب الأداء إلى أبي بكر رضي الله عنه ولأن هذه قضية في عين ، ولا يتحقق من الذين قال لهم أبو بكر هذا القول ، فيحتمل أنهم كانوا مرتدين ، ويحتمل أنهم جحدوا وجوب الزكاة ، ويحتمل غير ذلك ، فلا يجوز الحكم به في محل النزاع ، ويحتمل أن أبا بكر قال ذلك لأنهم ارتكبوا كبائر ، وماتوا من غير توبة ، فحكم لهم بالنار ظاهرا ، كما حكم لقتلى المجاهدين بالجنة ظاهرا ، والأمر إلى الله تعالى في الجميع ، ولم يحكم عليهم بالتخليد ، ولا يلزم من الحكم بالنار الحكم بالتخليد ، بعد أن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن قوما من أمته يدخلون النار ، ثم يخرجهم الله تعالى منها ويدخلهم الجنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية