صفحة جزء
[ ص: 277 ] مسألة : قال : ( ولا لغني ، وهو الذي يملك خمسين درهما ، أو قيمتها من الذهب ) . يعني لا يعطى من سهم الفقراء والمساكين غني ، ولا خلاف في هذا بين أهل العلم ; وذلك لأن الله تعالى جعلها للفقراء والمساكين ، والغني غير داخل فيهم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ { : أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد في فقرائهم . وقال : لا حظ فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب . وقال : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي } . أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن

ولأن أخذ الغني منها يمنع وصولها إلى أهلها ، ويخل بحكمة وجوبها ، وهو إغناء الفقراء بها . واختلف العلماء في الغنى المانع من أخذها . ونقل عن أحمد فيه روايتان : أظهرهما ، أنه ملك خمسين درهما ، أو قيمتها من الذهب ، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام ; من كسب ، أو تجارة ، أو عقار ، أو نحو ذلك .

ولو ملك من العروض ، أو الحبوب أو السائمة ، أو العقار ، ما لا تحصل به الكفاية ، لم يكن غنيا ، وإن ملك نصابا ، هذا الظاهر من مذهبه ، وهو قول الثوري والنخعي وابن المبارك وإسحاق . وروي عن علي وعبد الله ، أنهما قالا : لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما ، أو عدلها ، أو قيمتها من الذهب .

وذلك لما روى عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خموشا ، أو خدوشا ، أو كدوحا في وجهه . فقيل : يا رسول الله ، ما الغنى ؟ قال خمسون درهما ، أو قيمتها من الذهب . } رواه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن . فإن قيل : هذا يرويه حكيم بن جبير ، وكان شعبة لا يروي عنه ، وليس بقوي في الحديث . قلنا : قد قال عبد الله بن عثمان لسفيان : حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير .

فقال سفيان : حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن . وقد قال علي وعبد الله مثل ذلك . والرواية الثانية ، أن الغنى ما تحصل به الكفاية ، فإذا لم يكن محتاجا حرمت عليه الصدقة ، وإن لم يملك شيئا ، وإن كان محتاجا حلت له الصدقة ، وإن ملك نصابا ، والأثمان وغيرها في هذا سواء .

وهذا اختيار أبي الخطاب وابن شهاب العكبري وقول مالك والشافعي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيصة بن المخارق { لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة : رجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : قد أصابت فلانا فاقة ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو سدادا من عيش } رواه مسلم .

فمد إباحة المسألة إلى وجود إصابة القوام أو السداد ، ولأن الحاجة هي الفقر ، والغنى ضدها ، فمن كان محتاجا فهو فقير يدخل في عموم النص ، ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة ، والحديث الأول فيه ضعف ، ثم يجوز أن تحرم المسألة ولا يحرم أخذ الصدقة إذا جاءته من غير المسألة ، فإن المذكور فيه تحريم المسألة ، فنقتصر عليه . وقال الحسن وأبو عبيد : الغنى ملك أوقية ، وهي أربعون درهما ; لما روى أبو سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف } . وكانت الأوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين درهما . رواه أبو داود .

وقال أصحاب الرأي : الغنى الموجب للزكاة هو المانع من أخذها ، وهو ملك نصاب تجب فيه الزكاة ، من الأثمان ، أو العروض المعدة للتجارة ، أو السائمة ، أو غيرها { ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : أعلمهم أن عليهم صدقة [ ص: 278 ] تؤخذ من أغنيائهم ، فترد في فقرائهم } ، فجعل الأغنياء من تجب عليهم الزكاة ، فيدل ذلك على أن من تجب عليه غني ، ومن لا تجب عليه ليس بغني ، فيكون فقيرا ، فتدفع الزكاة إليه ; لقوله : " فترد في فقرائهم " .

ولأن الموجب للزكاة غنى ، والأصل عدم الاشتراك ، ولأن من لا نصاب له لا تجب عليه الزكاة فلا يمنع منها ، كمن يملك دون الخمسين ، ولا له ما يكفيه . فيحصل الخلاف بيننا وبينهم في أمور ثلاثة : أحدها ، أن الغنى المانع من الزكاة غير الموجب لها عندنا . ودليل ذلك حديث ابن مسعود ، وهو أخص من حديثهم .

فيجب تقديمه ، ولأن حديثهم دل على الغنى الموجب ، وحديثنا دل على الغنى المانع ، ولا تعارض بينهما . فيجب الجمع بينهما . وقولهم : الأصل عدم الاشتراك . قلنا : قد قام دليله بما ذكرناه ، فيجب الأخذ به . الثاني ، أن من له ما يكفيه من مال غير زكائي ، أو من مكسبه ، أو أجرة عقارات أو غيره ، ليس له الأخذ من الزكاة .

وبهذا قال الشافعي وإسحاق وأبو عبيدة وابن المنذر وقال أبو يوسف : إن دفع الزكاة إليه فهو قبيح ، وأرجو أن يجزئه . وقال أبو حنيفة وسائر أصحابه : يجوز دفع الزكاة إليه ; لأنه ليس بغني ، لما ذكروه في حجتهم . ولنا ، ما روى الإمام أحمد ، حدثنا يحيي بن سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار ، { عن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه الصدقة ، فصعد فيهما البصر ، فرآهما جلدين ، فقال : إن شئتما أعطيتكما ، ولا حظ فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب } . قال أحمد : ما أجوده من حديث . وقال : هو أحسنها إسنادا وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي } . رواه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن . إلا أن أحمد قال : لا أعلم فيه شيئا يصح . قيل : فحديث سالم بن أبي الجعد ، عن أبي هريرة ؟ قال : سالم لم يسمع من أبي هريرة .

ولأن له ما يغنيه عن الزكاة . فلم يجز الدفع إليه ، كمالك النصاب . الثالث ، أن من ملك نصابا زكائيا ، لا تتم به الكفاية من غير الأثمان ، فله الأخذ من الزكاة . قال الميموني : ذاكرت أبا عبد الله فقلت : قد يكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة ، وهو فقير ويكون له أربعون شاة ، وتكون لهم الضيعة لا تكفيه ، فيعطى من الصدقة ؟ قال : نعم . وذكر قول عمر أعطوهم ، وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا .

قلت : فهذا قدر من العدد أو الوقت ؟ قال : لم أسمعه . وقال في رواية محمد بن الحكم : إذا كان له عقار يشغله أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه ، يأخذ من الزكاة . وهذا قول الشافعي . وقال أصحاب الرأي : ليس له أن يأخذ منها إذا ملك نصابا زكائيا ; لأنه تجب عليه الزكاة ، فلم تجب له للخبر . ولنا ، أنه لا يملك ما يغنيه ، ولا يقدر على كسب ما يكفيه ، فجاز له الأخذ من الزكاة كما لو كان ما يملك لا تجب فيه الزكاة ، ولأن الفقر عبارة عن الحاجة ، قال الله تعالى { : يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله } .

أي : [ ص: 279 ] المحتاجون إليه . وقال الشاعر

: فيا رب إني مؤمن بك عابد


مقر بزلاتي إليك فقير

وقال آخر :

وإني إلى معروفها لفقير

وهذا محتاج ، فيكون فقيرا غير غني ، ولأنه لو كان ما يملكه لا زكاة فيه لكان فقيرا ، ولا فرق في دفع الحاجة بين المالين ، وقد سمى الله تعالى الذين لهم سفينة في البحر مساكين ، فقال تعالى { : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر . }

وقد بينا بما ذكرناه من قبل أن الغنى يختلف مسماه ، فيقع على ما يوجب الزكاة ، وعلى ما يمنع منها ، فلا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ، ولا من عدمه عدمه ، فمن قال : إن الغنى هو الكفاية . سوى بين الأثمان وغيرها ، وجوز الأخذ لكل من لا كفاية له ، وإن ملك نصبا من جميع الأموال .

ومن قال بالرواية الأخرى ، فرق بين الأثمان وغيرها ; لخبر ابن مسعود ، ولأن الأثمان آلة الإنفاق المعدة له دون غيرها ، فجوز الأخذ لمن لا يملك خمسين درهما ، أو قيمتها من الذهب ، ولا ما تحصل به الكفاية ، من مكسب ، أو أجرة أو عقار ، أو غيره ، أو نماء سائمة أو غيرها .

وإن كان له مال معد للإنفاق من غير الأثمان ، فينبغي أن تعتبر الكفاية به في حول كامل ; لأن الحول يتكرر وجوب الزكاة بتكرره ، فيأخذ منها كل حول ما يكفيه إلى مثله ، ويعتبر وجود الكفاية له ولعائلته ومن يمونه ; لأن كل واحد منهم مقصود دفع حاجته ، فيعتبر له ما يعتبر للمنفرد .

وإن كان له خمسون درهما ، جاز أن يأخذ لعائلته حتى يصير لكل واحد منهم خمسون . قال أحمد ، في رواية أبي داود ، في من يعطي الزكاة وله عيال : يعطى كل واحد من عياله خمسين خمسين . وهذا لأن الدفع إنما هو إلى العيال ; وهذا نائب عنهم في الأخذ .

التالي السابق


الخدمات العلمية