صفحة جزء
( 2156 ) مسألة : قال : ( ولا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان ، أو صلاة الجمعة ) وجملة ذلك أن المعتكف ليس له الخروج من معتكفه ، إلا لما لا بد له منه ، قالت عائشة ، رضي الله عنها : السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لا بد له منه . رواه أبو داود . وقالت أيضا : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان } . متفق عليه .

ولا خلاف في أن له الخروج لما لا بد له منه . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول . ولأن هذا مما لا بد منه ، ولا يمكن فعله في المسجد ، فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه ، لم يصح لأحد الاعتكاف ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف ، وقد علمنا أنه كان يخرج لقضاء حاجته ، والمراد بحاجة الإنسان البول والغائط ، كنى بذلك عنهما ; لأن كل إنسان يحتاج إلى فعلهما ، وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب ، إذا لم يكن له من يأتيه به ، فله الخروج إليه إذا احتاج إليه ، وإن بغته القيء ، فله أن يخرج ليتقيأ خارج المسجد ، وكل ما لا بد له منه ، ولا يمكن فعله في المسجد ، فله الخروج إليه ، ولا يفسد اعتكافه وهو عليه ، ما لم يطل . وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه ، مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه ، فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة ، ويلزمه السعي إليها ، فله الخروج إليها ، ولا يبطل اعتكافه . وبهذا قال أبو حنيفة .

وقال الشافعي : لا يعتكف في غير الجامع ، إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة . فإن نذر اعتكافا متتابعا ، فخرج منه لصلاة الجمعة ، بطل اعتكافه ، وعليه الاستئناف ; لأنه أمكنه فرضه بحيث لا يخرج منه ، فبطل بالخروج ، كالمكفر إذا ابتدأ صوم الشهرين المتتابعين في شعبان أو ذي الحجة .

ولنا ، أنه خرج لواجب ، فلم يبطل اعتكافه ، كالمعتدة تخرج لقضاء العدة ، وكالخارج لإنقاذ غريق ، أو إطفاء حريق ، أو أداء شهادة تعينت عليه ، ولأنه إذا نذر أياما فيها جمعة ، فكأنه استثنى الجمعة بلفظه . ثم تبطل بما إذا نذرت المرأة أياما فيها عادة حيضها ، فإنه يصح مع إمكان فرضها في غيرها ، والأصل غير مسلم . إذا ثبت هذا ، فإنه إذا خرج لواجب ، فهو على اعتكافه ، ما لم يطل ; لأنه خروج لما لا بد له منه ، أشبه الخروج لحاجة الإنسان . فإن كان خروجه لصلاة الجمعة ، فله أن يتعجل .

قال أحمد : أرجو أن له ذلك ، لأنه خروج جائز ، فجاز تعجيله ، كالخروج لحاجة الإنسان . فإذا صلى الجمعة ، فإن أحب أن يعتكف في الجامع ، فله ذلك ; لأنه محل للاعتكاف ، والمكان لا يتعين للاعتكاف بنذره وتعيينه ، فمع عدم ذلك أولى . وكذلك إن دخل في طريقه مسجدا ، فأتم اعتكافه فيه ، جاز لذلك .

وإن أحب الرجوع إلى معتكفه ، فله ذلك ; لأنه خرج من معتكفه ، فكان له الرجوع إليه ، كما لو خرج إلى غير جمعة . قال بعض أصحابنا : يستحب له الإسراع إلى [ ص: 69 ] معتكفه . وقال أبو داود : قلت لأحمد يركع - أعني المعتكف - يوم الجمعة بعد الصلاة في المسجد ؟ قال : نعم ، بقدر ما كان يركع .

ويحتمل أن يكون الخيرة إليه في تعجيل الركوع وتأخيره ; لأنه في مكان يصلح للاعتكاف ، فأشبه ما لو نوى الاعتكاف فيه . فأما إن خرج ابتداء إلى مسجد آخر ، أو إلى الجامع من غير حاجة ، أو كان المسجد أبعد من موضع حاجته فمضى إليه ، لم يجز له ذلك ; لأنه خروج لغير حاجة ، أشبه ما لو خرج إلى غير المسجد . فإن كان المسجدان متلاصقين ، يخرج من أحدهما فيصير في الآخر ، فله الانتقال من أحدهما إلى الآخر ; لأنهما كمسجد واحد ، ينتقل من إحدى زاويتيه إلى الأخرى . وإن كان يمشي بينهما في غيرهما ، لم يجز له الخروج وإن قرب ; لأنه خروج من المسجد لغير حاجة واجبة . ( 2157 )

فصل : وإذا خرج لما لا بد منه ، فليس عليه أن يستعجل في مشيه ، بل يمشي على عادته ، لأن عليه مشقة في إلزامه غير ذلك ، وليس له الإقامة بعد قضاء حاجته لأكل ولا لغيره . وقال أبو عبد الله بن حامد : يجوز أن يأكل اليسير في بيته ، كاللقمة واللقمتين ، فأما جميع أكله فلا . وقال القاضي : يتوجه أن له الأكل في بيته ، والخروج إليه ابتداء ; لأن الأكل في المسجد دناءة وترك للمروءة ، وقد يخفي جنس قوته على الناس ، وقد يكون في المسجد غيره فيستحي أن يأكل دونه ، وإن أطعمه معه لم يكفهما .

ولنا ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ، وهذا كناية عن الحدث ، ولأنه خروج لما له منه بد ، أو لبث في غير معتكفه لما له منه بد ، فأبطل الاعتكاف ، كمحادثة أهله ، وما ذكره القاضي ليس بعذر يبيح الإقامة ولا الخروج ، ولو ساغ ذلك لساغ الخروج للنوم وأشباهه . ( 2158 )

فصل : وإن خرج لحاجة الإنسان ، وبقرب المسجد سقاية أقرب من منزله لا يحتشم من دخولها ، ويمكنه التنظف فيها ، لم يكن له المضي إلى منزله ، لأن له من ذلك بد . وإن كان يحتشم من دخولها ، أو فيه نقيصة عليه ، أو مخالفة لعادته ، أو لا يمكنه التنظف فيها ، فله أن يمضي إلى منزله ; لما عليه من المشقة في ترك المروءة . وكذلك إن كان له منزلان أحدهما أقرب من الآخر ، يمكنه الوضوء في الأقرب بلا ضرر ، فليس له المضي إلى الأبعد .

وإن بذل له صديقه أو غيره الوضوء في منزله القريب ، لم يلزمه ; لما عليه من المشقة بترك المروءة والاحتشام من صاحبه . قال المروذي : سألت أبا عبد الله ، عن الاعتكاف في المسجد الكبير أعجب إليك أو مسجد الحي ؟ قال : المسجد الكبير . وأرخص لي أن أعتكف في غيره . قلت : فأين ترى أن أعتكف في هذا الجانب ، أو في ذاك الجانب ؟ قال : في ذاك الجانب هو أصلح من أجل السقاية . قلت : فمن اعتكف في هذا الجانب ترى أن يخرج إلى الشط يتهيأ ؟ قال : إذا كان له حاجة لا بد له من ذلك . قلت : يتوضأ الرجل في المسجد ؟ قال : لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد . ( 2159 )

فصل : إذا خرج لما له منه بد ، بطل اعتكافه وإن قل . وبه قال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي . وقال أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن : لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم ; لأن اليسير معفو عنه ، بدليل أن [ ص: 70 ] { صفية أتت النبي صلى الله عليه وسلم تزوره في معتكفه ، فلما قامت لتنقلب خرج معها ليقلبها } . ولأن اليسير معفو عنه ، بدليل ما لو تأنى في مشيه .

ولنا ، أنه خروج من معتكفه لغير حاجة ، فأبطله ، كما لو أقام أكثر من نصف يوم ، وأما خروج النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنه لم يكن له بد ; لأنه كان ليلا ، فلم يأمن عليها ، ويحتمل أنه فعل ذلك لكون اعتكافه تطوعا ، له ترك جميعه ، فكان له ترك بعضه ، ولذلك تركه لما أراد نساؤه الاعتكاف معه . وأما المشي فتختلف فيه طباع الناس ، وعليه في تغيير مشيه مشقة ، ولا كذلك هاهنا ، فإنه لا حاجة به إلى الخروج .

التالي السابق


الخدمات العلمية