صفحة جزء
( 2166 ) مسألة : قال : ( ومن وطئ فقد أفسد اعتكافه ، ولا قضاء عليه ، إلا أن يكون واجبا ) [ ص: 72 ] وجملة ذلك أن الوطء في الاعتكاف محرم بالإجماع ، والأصل فيه قول الله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها } .

فإن وطئ في الفرج متعمدا أفسد اعتكافه ، بإجماع أهل العلم . حكاه ابن المنذر عنهم . ولأن الوطء إذا حرم في العبادة أفسدها ، كالحج والصوم . وإن كان ناسيا ، فكذلك عند إمامنا وأبي حنيفة ، ومالك . وقال الشافعي : لا يفسد اعتكافه ; لأنها مباشرة لا تفسد الصوم ، فلم تفسد الاعتكاف ، كالمباشرة فيما دون الفرج .

ولنا ، أن ما حرم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده ، كالخروج من المسجد ، ولا نسلم أنها لا تفسد الصوم . ولأن المباشرة دون الفرج لا تفسد الاعتكاف ، إلا إذا اقترن بها الإنزال . إذا ثبت هذا ، فلا كفارة بالوطء في ظاهر المذهب . وهو ظاهر كلام الخرقي . وقول عطاء ، والنخعي ، وأهل المدينة ، ومالك ، وأهل العراق ، والثوري ، وأهل الشام ، والأوزاعي .

ونقل حنبل عن أحمد أن عليه كفارة . وهو قول الحسن ، والزهري ، واختيار القاضي ; لأنه عبادة يفسدها الوطء لعينه ، فوجبت الكفارة بالوطء فيها ، كالحج وصوم رمضان .

ولنا ، أنها عبادة لا تجب بأصل الشرع ، فلم تجب بإفسادها كفارة ، كالنوافل ، ولأنها عبادة لا يدخل المال في جبرانها ، فلم تجب الكفارة بإفسادها ، كالصلاة ، ولأن وجوب الكفارة إنما يثبت بالشرع ، ولم يرد الشرع بإيجابها ، فتبقى على الأصل .

وما ذكروه ينتقض بالصلاة وصوم غير رمضان . والقياس على الحج لا يصح ; لأنه مباين لسائر العبادات ، ولهذا يمضي في فاسده ، ويلزم بالشروع فيه ، ويجب بالوطء فيه بدنة ، بخلاف غيره . ولأنه لو وجبت الكفارة هاهنا بالقياس عليه ، للزم أن يكون بدنة ; لأن الحكم في الفرع يثبت على صفة الحكم في الأصل ، إذ كان القياس إنما هو توسعة مجرى الحكم فيصير النص الوارد في الأصل واردا في الفرع ، فيثبت فيه الحكم الثابت في الأصل بعينه . وأما القياس على الصوم ، فهو دال على نفي الكفارة ; لأن الصوم كله لا يجب بالوطء فيه كفارة سوى رمضان ، والاعتكاف أشبه بغير رمضان ; لأنه نافلة لا يجب إلا بالنذر ، ثم لا يصح قياسه على رمضان أيضا ; لأن الوطء فيه إنما أوجب الكفارة لحرمة الزمان ، ولذلك يجب على كل من لزمه الإمساك ، وإن لم يفسد به صوما .

واختلف موجبو الكفارة فيها ، فقال القاضي : يجب كفارة الظهار . وهو قول الحسن ، والزهري ، وظاهر كلام أحمد ، في رواية حنبل ; فإنه روي عن الزهري أنه قال : من أصاب في اعتكافه ، فهو كهيئة المظاهر . ثم قال أبو عبد الله : إذا كان نهارا وجبت عليه الكفارة . ويحتمل أن أبا عبد الله إنما أوجب عليه الكفارة إذا فعل ذلك في رمضان ; لأنه اعتبر ذلك في النهار لأجل الصوم ، ولو كان لمجرد الاعتكاف لما اختص الوجوب بالنهار ، كما لم يختص الفساد به .

وحكي عن أبي بكر أن عليه كفارة يمين . ولم أر هذا عن أبي بكر في كتاب ( الشافي ) ، ولعل أبا بكر إنما أوجب عليه كفارة في موضع تضمن الإفساد الإخلال بالنذر ، فوجبت لمخالفته نذره ، وهي كفارة يمين [ ص: 73 ] فأما في غير ذلك فلا ; لأن الكفارة إنما تجب بنص أو إجماع أو قياس ، وليس هاهنا نص ولا إجماع ولا قياس ، فإن نظير الاعتكاف الصوم ، ولا يجب بإفساده كفارة إذا كان تطوعا ولا منذورا ، ما لم يتضمن الإخلال بنذره ; فيجب به كفارة يمين ، كذلك هذا . ( 2167 )

فصل : فأما المباشرة دون الفرج ، فإن كانت لغير شهوة ، فلا بأس بها ، مثل أن تغسل رأسه ، أو تفليه ، أو تناوله شيئا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله . وإن كانت عن شهوة ، فهي محرمة ; لقول الله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } .

ولقول عائشة : السنة للمعتكف أن لا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ، ولا يباشرها . رواه أبو داود . ولأنه لا يأمن إفضاءها إلى إفساد الاعتكاف ، وما أفضى إلى الحرام كان حراما . فإن فعل ، فأنزل ، فسد اعتكافه ، وإن لم ينزل ، لم يفسد . وبهذا قال أبو حنيفة ، والشافعي ، في أحد قوليه .

وقال في الآخر : يفسد في الحالين . وهو قول مالك ; لأنها مباشرة محرمة ، فأفسدت الاعتكاف ، كما لو أنزل .

ولنا ، أنها مباشرة لا تفسد صوما ولا حجا ، فلم تفسد الاعتكاف ، كالمباشرة لغير شهوة . وفارق التي أنزل بها ; لأنها تفسد الصوم ، ولا كفارة عليه ، إلا على رواية حنبل . ( 2168 )

فصل : وإن ارتد ، فسد اعتكافه ، لقوله تعالى : { لئن أشركت ليحبطن عملك } . ولأنه خرج بالردة عن كونه من أهل الاعتكاف ، وإن شرب ما أسكره فسد اعتكافه ، لخروجه عن كونه من أهل المسجد . ( 2169 )

فصل : وكل موضع فسد اعتكافه ، فإن كان تطوعا ، فلا قضاء عليه ; لأن التطوع لا يلزم بالشروع فيه في غير الحج والعمرة . وإن كان نذرا نظرنا ، فإن كان نذر أياما متتابعة ، فسد ما مضى من اعتكافه ، واستأنف ; لأن التتابع وصف في الاعتكاف ، وقد أمكنه الوفاء به ، فلزمه ، وإن كان نذر أياما معينة ، كالعشرة الأواخر من شهر رمضان ، ففيه وجهان : أحدهما ، يبطل ما مضى ، ويستأنفه ; لأنه نذر اعتكافا متتابعا ، فبطل بالخروج منه ، كما لو قيده بالتتابع بلفظه .

والثاني ، لا يبطل ; لأن ما مضى منه قد أدى العبادة فيه أداء صحيحا ، فلم يبطل بتركها في غيره ، كما لو أفطر في أثناء شهر رمضان ، والتتابع هاهنا حصل ضرورة التعيين ، والتعيين مصرح به ، وإذا لم يكن بد من الإخلال بأحدهما ففيما حصل ضرورة أولى ، ولأن وجوب التتابع من حيث الوقت ، لا من حيث النذر ، فالخروج في بعضه لا يبطل ما مضى منه ، كصوم رمضان إذا أفطر فيه ، فعلى هذا يقضي ما أفسد فيه حسب . وعليه الكفارة على الوجهين جميعا ; لأنه تارك لبعض ما نذره .

وأصل الوجهين في من نذر صوما معينا ، فأفطر في بعضه ، فإن فيه روايتين ، كالوجهين اللذين ذكرناهما . [ ص: 74 ]

فصل : إذا نذر اعتكاف أيام متتابعة بصوم ، فأفطر يوما ، أفسد تتابعه ، ووجب استئناف الاعتكاف ، لإخلاله بالإتيان بما نذره على صفته .

التالي السابق


الخدمات العلمية