صفحة جزء
( 240 ) مسألة : ( قال : وزوال العقل إلا أن يكون بنوم يسير جالسا أو قائما ) زوال العقل على ضربين : نوم ، وغيره فأما غير النوم ، وهو الجنون والإغماء والسكر وما أشبهه من الأدوية المزيلة للعقل ، فينقض الوضوء يسيره وكثيره إجماعا ، قال ابن المنذر : أجمع العلماء على وجوب الوضوء على المغمى عليه ; ولأن هؤلاء حسهم أبعد من حس النائم ، بدليل أنهم لا ينتبهون بالانتباه ، ففي إيجاب الوضوء على النائم تنبيه على وجوبه بما هو آكد منه .

الضرب الثاني : النوم ، وهو ناقض للوضوء في الجملة ، في قول عامة أهل العلم ، إلا ما حكي عن أبي موسى الأشعري وأبي مجلز وحميد الأعرج ، أنه لا ينقض . وعن سعيد بن المسيب ، أنه كان ينام مرارا مضطجعا ينتظر الصلاة ، ثم يصلي ولا يعيد الوضوء . ولعلهم ذهبوا إلى أن النوم ليس بحدث في نفسه ، والحدث مشكوك فيه ، فلا يزول عن اليقين بالشك . ولنا : قول صفوان بن عسال : " لكن من غائط وبول ونوم " وقد ذكرنا أنه صحيح وروى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { العين وكاء السه ، فمن نام فليتوضأ } رواه أبو داود ، وابن ماجه ; ولأن النوم مظنة الحدث ، فأقم مقامه ، كالتقاء الختانين في وجوب الغسل أقيم مقام الإنزال .

( 241 ) فصل : والنوم ينقسم ثلاثة أقسام نوم المضطجع ، فينقض الوضوء يسيره وكثيره ، في قول كل من يقول بنقضه بالنوم . الثاني نوم القاعد ، إن كان كثيرا نقض ، رواية واحدة وإن كان يسيرا لم ينقض . وهذا قول حماد والحكم ومالك والثوري ، وأصحاب الرأي ، وقال الشافعي : لا ينقض وإن كثر إذا كان القاعد متكئا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض ، لما روى أنس ، قال : { كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ينامون ثم يقومون فيصلون ، ولا [ ص: 114 ] يتوضئون } قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وفي لفظ قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رءوسهم ، ثم يصلون ولا يتوضئون وهذا إشارة إلى جميعهم وبه يتخصص عموم الحديثين الأولين .

ولأنه متحفظ عن خروج الحدث ، فلم ينقض وضوءه ، كما لو كان نومه يسيرا . ولنا : عموم الحديثين الأولين ، وإنما خصصناهما في اليسير لحديث أنس ، وليس فيه بيان كثرة ولا قلة فإن النائم يخفق رأسه من يسير النوم ، فهو يقين في اليسير ، فيعمل به وما زاد عليه فهو محتمل لا يترك له العموم المتيقن ; ولأن نقض الوضوء بالنوم يعلل بإفضائه إلى الحدث ومع الكثرة والغلبة يفضي إليه ، ولا يحس بخروجه منه ، بخلاف اليسير ، ولا يصح قياس الكثير على اليسير ، لاختلافهما في الإفضاء إلى الحدث .

الثالث ما عدا هاتين الحالتين وهو نوم القائم والراكع والساجد ، فروي عن أحمد في جميع ذلك روايتان : إحداهما ينقض . وهو قول الشافعي ; لأنه لم يرد في تخصيصه من عموم أحاديث النقض نص ، ولا هو في معنى المنصوص ، لكون القاعد متحفظا ، لاعتماده بمحل الحدث إلى الأرض ، والراكع والساجد ينفرج محل الحدث منهما . والثانية لا ينقض إلا إذا كثر . وذهب أبو حنيفة إلى أن النوم في حال من أحوال الصلاة لا ينقض وإن كثر ; لما روى ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد وينام وينفخ ، ثم يقوم فيصلي ، فقلت له : صليت ولم تتوضأ وقد نمت ، فقال : إنما الوضوء على من نام مضطجعا ; فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله } رواه أبو داود ; ولأنه حال من أحوال الصلاة .

فأشبهت حال الجلوس ، والظاهر عن أحمد التسوية بين القيام والجلوس ; لأنهما يشتبهان في الانخفاض واجتماع المخرج ، وربما كان القائم أبعد من الحدث لعدم التمكن من الاستثقال في النوم ، فإنه لو استثقل لسقط . والظاهر عنه في الساجد التسوية بينه وبين المضطجع ; لأنه ينفرج محل الحدث ، ويعتمد بأعضائه على الأرض ، ويتهيأ لخروج الخارج فأشبه المضطجع . والحديث الذي ذكروه منكر . قاله أبو داود .

وقال ابن المنذر : لا يثبت ، وهو مرسل يرويه قتادة عن أبي العالية . قال شعبة : لم يسمع منه إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها .

( 242 ) فصل : واختلفت الرواية عن أحمد في القاعد المستند والمحتبي . فعنه : لا ينقض يسيره . قال أبو داود : سمعت أحمد قيل له : الوضوء من النوم ؟ قال إذا طال . قيل : فالمحتبي ؟ قال : يتوضأ . قيل : فالمتكئ ؟ قال . الاتكاء شديد ، والمتساند كأنه أشد . يعني من الاحتباء . ورأى منها كلها الوضوء ، إلا أن يغفو . يعني قليلا . وعنه : ينقض . يعني بكل حال ; لأنه معتمد على شيء ، فهو كالمضطجع .

والأولى أنه متى كان معتمدا بمحل الحدث على الأرض أن لا ينقض منه إلا الكثير ; لأن دليل انتفاء النقض في القاعد لا تفريق فيه فيسوي بين أحواله .

( 243 ) فصل : واختلف أصحابنا في تحديد الكثير من النوم الذي ينقض الوضوء ، فقال القاضي : ليس للقليل حد يرجع إليه ، وهو على ما جرت به العادة . وقيل : حد الكثير ما يتغير به النائم عن هيئته ، مثل أن يسقط على الأرض ، ومنها أن يرى حلما . والصحيح : أنه لا حد له لأن التحديد إنما يعلم بتوقيف ، ولا توقيف في [ ص: 115 ] هذا ، فمتى وجدنا ما يدل على الكثرة ، مثل سقوط المتمكن وغيره ، انتقض وضوءه .

وإن شك في كثرته لم ينتقض وضوءه ; لأن الطهارة متيقنة ، فلا تزول بالشك .

( 244 ) فصل : ومن لم يغلب على عقله فلا وضوء عليه ; لأن النوم الغلبة على العقل ، قال بعض أهل اللغة في قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } السنة : ابتداء النعاس في الرأس ، فإذا وصل إلى القلب صار نوما قال الشاعر :

وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم

ولأن الناقض زوال العقل ، ومتى كان العقل ثابتا وحسه غير زائل مثل من يسمع ما يقال عنده ويفهمه ، فلم يوجد سبب النقض في حقه . وإن شك هل نام أم لا ، أو خطر بباله شيء لا يدري أرؤيا أو حديث نفس ، فلا وضوء عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية