صفحة جزء
( 2513 ) مسألة : قال : ( فيكبر ، ويهلل ، ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس ) يستحب الإكثار من ذكر الله تعالى والدعاء يوم عرفة ; فإنه يوم ترجى فيه الإجابة ، ولذلك أحببنا له الفطر يومئذ ، ليتقوى على الدعاء ، مع أن صومه بغير عرفة يعدل سنتين . وروى ابن ماجه ، في ( سننه ) ، قال : قالت عائشة رضي الله عنها : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ، فإنه ليدنو عز وجل ، ثم يباهي بكم الملائكة ، فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ } . رواه مسلم .

ويستحب أن يدعو بالمأثور من الأدعية ، مثل ما روي عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { أكثر دعاء الأنبياء قبلي ، ودعائي عشية عرفة ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير } . وكان ابن عمر يقول : الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، اللهم اهدني بالهدى ، وقني بالتقوى ، واغفر لي في الآخرة والأولى . ويرد يديه ، ويسكت بقدر ما كان إنسان قارئا فاتحة الكتاب ، ثم يعود فيرفع يديه ، ويقول مثل ذلك . ولم يزل يفعل مثل ذلك حتى أفاض .

وسئل سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة ؟ فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . فقيل له : هذا ثناء ، وليس بدعاء . فقال : أما سمعت قول الشاعر :

أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء     إذا أثنى عليك المرء يوما
كفاه من تعرضه الثناء

وروي أن من دعاء النبي عليه السلام { بعرفة : اللهم إنك ترى مكاني ، وتسمع كلامي ، وتعلم سري وعلانيتي ، ولا [ ص: 209 ] يخفى عليك شيء من أمري ، أنا البائس الفقير ، المستغيث المستجير ، الوجل المشفق ، المقر المعترف بذنبه ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، من خشعت لك رقبته ، وذل لك جسده ، وفاضت لك عينه ، ورغم لك أنفه } .

وروينا عن سفيان الثوري ، أنه قال : سمعت أعرابيا ، وهو مستلق بعرفة ، يقول : إلهي من أولى بالزلل والتقصير مني وقد خلقتني ضعيفا ، ومن أولى بالعفو عني منك ، وعلمك في سابق ، وأمرك بي محيط ، أطعتك بإذنك والمنة لك ، وعصيتك بعلمك والحجة لك ، فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي ، وبفقري إليك وغناك عني ، أن تغفر لي وترحمني ، إلهي لم أحسن حتى أعطيتني ، ولم أسئ ، حتى قضيت علي ، اللهم أطعتك بنعمتك في أحب الأشياء إليك ، شهادة أن لا إله إلا الله ، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك ، الشرك بك ، فاغفر لي ما بينهما ، اللهم أنت أنس المؤنسين لأوليائك ، وأقربهم بالكفاية من المتوكلين عليك ، تشاهدهم في ضمائرهم ، وتطلع على سرائرهم ، وسري اللهم لك مكشوف ، وأنا إليك ملهوف ، إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك ، وإذا أصمت علي الهموم لجأت إليك ، استجارة بك ، علما بأن أزمة الأمور بيدك ، ومصدرها عن قضائك .

وكان إبراهيم بن إسحاق الحربي ، يقول : اللهم قد آويتني من ضناي ، وبصرتني من عماي ، وأنقذتني من جهلي وجفاي ، أسألك ما يتم به فوزي ، وما أؤمل في عاجل دنياي وديني ، ومأمول أجلي ومعادي ، ثم ما لا أبلغ أداء شكره ، ولا أنال إحصاءه وذكره ، إلا بتوفيقك وإلهامك ، أن هيجت قلبي القاسي ، على الشخوص إلى حرمك ، وقويت أركاني الضعيفة لزيارة عتيق بيتك ، ونقلت بدني ، لإشهادي مواقف حرمك ، اقتداء بسنة خليلك ، واحتذاء على مثال رسولك ، واتباعا لآثار خيرتك وأنبيائك وأصفيائك ، صلى الله عليهم ، وأدعوك في مواقف الأنبياء ، عليهم السلام ، ومناسك السعداء ، ومساجد الشهداء ، دعاء من أتاك لرحمتك راجيا ، وعن وطنه نائيا ، ولقضاء نسكه مؤديا ، ولفرائضك قاضيا ، ولكتابك تاليا ، ولربه عز وجل داعيا ملبيا ، ولقلبه شاكيا ، ولذنبه خاشيا ، ولحظه مخطئا ، ولرهنه مغلقا ، ولنفسه ظالما ، وبجرمه عالما ، دعاء من جمت عيوبه ، وكثرت ذنوبه ، وتصرمت أيامه ، واشتدت فاقته ، وانقطعت مدته ، دعاء من ليس لذنبه سواك غافرا ، ولا لعيبه غيرك مصلحا ، ولا لضعفه غيرك مقويا ، ولا لكسره غيرك جابرا ، ولا لمأمول خير غيرك معطيا ، ولا لما يتخوف من حر ناره غيرك معتقا ، اللهم وقد أصبحت في بلد حرام ، في يوم حرام في شهر حرام ، في قيام من خير الأنام ، أسألك أن لا تجعلني أشقى خلقك المذنبين عندك ، ولا أخيب الراجين لديك ، ولا أحرم الآملين لرحمتك ، الزائرين لبيتك ، ولا أخسر المنقلبين من بلادك ، اللهم وقد كان من تقصيري ما قد عرفت ، ومن توبيقي نفسي ما قد علمت ، ومن مظالمي ما قد أحصيت ، فكم من كرب منه قد نجيت ، ومن غم قد جليت ، وهم قد فرجت ، ودعاء قد استجبت ، وشدة قد أزلت ، ورخاء قد أنلت ، منك النعماء ، وحسن القضاء ، ومني الجفاء ، وطول الاستقصاء ، والتقصير عن أداء شكرك ، لك النعماء يا محمود ، فلا يمنعنك يا محمود من إعطائي مسألتي من [ ص: 210 ] حاجتي إلى حيث انتهى لها سؤلي ، ما تعرف من تقصيري ، وما تعلم من ذنوبي وعيوبي ، اللهم فأدعوك راغبا ، وأنصب لك وجهي طالبا ، وأضع خدي مذنبا راهبا ، فتقبل دعائي ، وارحم ضعفي ، وأصلح الفساد من أمري ، واقطع من الدنيا همي وحاجتي ، واجعل فيما عندك رغبتي ، اللهم واقلبني منقلب المدركين لرجائهم ، المقبول دعاؤهم ، المفلوج حجتهم ، المبرور حجتهم ، المغفور ذنبهم ، المحطوط خطاياهم ، الممحو سيئاتهم ، المرشود أمرهم ، منقلب من لا يعصي لك بعده أمرا ، ولا يأتي من بعده مأثما ، ولا يركب بعده جهلا ، ولا يحمل بعده وزرا ، منقلب من عمرت قلبه ، بذكرك ، ولسانه بشكرك ، وطهرت الأدناس من بدنه ، واستودعت الهدى قلبه ، وشرحت بالإسلام صدره ، وأقررت بعفوك قبل الممات عينه ، وأغضضت عن المآثم بصره ، واستشهدت في سبيلك نفسه ، يا أرحم الراحمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا ، كما تحب ربنا وترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

وقول الخرقي : ( إلى غروب الشمس ) . معناه ويجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ( بعرفة ) ; ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غابت الشمس في حديث جابر ، وفي حديث علي ، وأسامة ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع حين غابت الشمس } . فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح ، في قول جماعة الفقهاء ، إلا مالكا ، فإنه قال : لا حج له . قال ابن عبد البر : لا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك ، وحجته ما روى ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج ، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج ، فليحلل بعمرة ، وعليه الحج من قابل } .

ولنا ، ما روى عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي ، قال { : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ، حين خرج إلى الصلاة . فقلت : يا رسول الله ، إني جئت من جبل طي ، أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى يدفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه } . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

ولأنه وقف في زمن الوقوف ، فأجزأه ، كالليل . فأما خبره ، فإنما خص الليل ; لأن الفوات يتعلق به إذا كان يوجد بعد النهار ، فهو آخر وقت الوقوف ، كما قال عليه السلام { : من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدركها ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدركها ، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ، فقد أدركها } .

وعلى من دفع قبل الغروب دم ، في قول أكثر أهل العلم ، منهم عطاء ، والثوري ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، ومن تبعهم . وقال ابن جريج : عليه بدنة . وقال الحسن البصري : عليه هدي من الإبل . ولنا ، أنه واجب ، لا يفسد الحج بفواته ، فلم يوجب البدنة ، كالإحرام من الميقات .

( 2514 ) فصل : فإن دفع قبل الغروب ، ثم عاد نهارا فوقف حتى غربت الشمس ، فلا دم عليه . وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وقال الكوفيون ، وأبو ثور : عليه دم ; لأنه بالدفع لزمه الدم ، فلم يسقط برجوعه ، كما لو عاد [ ص: 211 ] بعد غروب الشمس .

ولنا ، أنه أتى بالواجب ، وهو الجمع بين الوقوف في الليل والنهار ( بعرفة ) ، فلم يجب عليه دم ، كمن تجاوز الميقات غير محرم ، ثم رجع فأحرم منه . فإن لم يعد حتى غربت الشمس ، فعليه دم ; لأن عليه الوقوف حال الغروب ، وقد فاته بخروجه ، فأشبه من تجاوز الميقات غير محرم ، فأحرم دونه ، ثم عاد إليه . ومن لم يدرك جزءا من النهار ، ولا جاء عرفة ، حتى غابت الشمس ، فوقف ليلا ، فلا شيء عليه ، وحجه تام . لا نعلم فيه مخالفا ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج . } ولأنه لم يدرك جزءا من النهار ، فأشبه من منزله دون الميقات إذا أحرم منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية