صفحة جزء
( 2851 ) فصل : إذا كان لرجل في ذمة رجل ذهب ، وللآخر عليه دراهم ، فاصطرفا بما في ذمتهما ، لم يصح ، وبهذا قال الليث ، والشافعي . وحكى ابن عبد البر عن مالك وأبي حنيفة ; جوازه ; لأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة ; ولذلك جاز أن يشتري الدراهم بدنانير من غير تعيين .

ولنا ، أنه بيع دين بدين ، ولا يجوز ذلك بالإجماع . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز . وقال أحمد : إنما هو إجماع . وقد روى أبو عبيد في الغريب ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ } . وفسره بالدين بالدين . إلا أن الأثرم روى عن أحمد ، أنه سئل : أيصح في هذا حديث ؟ قال : لا . وإنما صح الصرف بغير تعيين ، بشرط أن يتقابضا في المجلس ، فجرى القبض والتعيين في المجلس مجرى وجوده حالة العقد . ولو كان لرجل على رجل دنانير ، فقضاه دراهم شيئا بعد شيء نظرت ، فإن كان يعطيه كل درهم بحسابه من الدينار ، صح . نص عليه أحمد .

وإن لم يفعل ذلك ، ثم تحاسبا بعد ذلك فصارفه بها وقت المحاسبة ، لم يجز . نص عليه أيضا ; لأن الدنانير دين ، والدراهم صارت دينا ، فيصير بيع دين بدين . وإن قبض أحدهما من الآخر ماله عليه ، ثم صارفه بعين وذمة ، صح . وإذا أعطاه الدراهم شيئا بعد شيء ، ولم يقضه ذلك وقت دفعها إليه ، ثم أحضرها ، وقوماها ، فإنه يحتسب بقيمتها يوم القضاء ، لا يوم دفعها إليه ; لأنها قبل ذلك لم تصر في ملكه ، إنما هي وديعة في يده ، فإن تلفت ، أو نقصت ، فهي من ضمان مالكها ، ويحتمل أن تكون من ضمان القابض لها إذا قبضها بنية الاستيفاء ; لأنها مقبوضة على أنها عوض ووفاء ، والمقبوض في عقد فاسد كالمقبوض في العقد الصحيح ، فيما يرجع إلى الضمان وعدمه . ولو كان لرجل عند صيرفي دنانير ، فأخذ منه دراهم إدرارا ; لتكون هذه بهذه ، لم يكن كذلك ، بل كل واحد منهما في ذمة من قبضه ، فإذا أراد التصارف أحضرا أحدهما ، واصطرفا بعين وذمة .

( 2852 ) فصل : ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الأخر ، ويكون صرفا بعين وذمة ، في قول أكثر أهل العلم ، ومنع منه ابن عباس ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وابن شبرمة ، وروي ذلك عن ابن مسعود ; لأن القبض شرط وقد تخلف . ولنا ، ما روى أبو داود ، والأثرم ، في " سننهما " ، عن ابن عمر ، قال { : كنت أبيع الإبل بالبقيع ، فأبيع [ ص: 52 ] بالدنانير وآخذ الدراهم ، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير ، آخذ هذه من هذه ، وأعطي هذه من هذه ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة ، فقلت : يا رسول الله ، رويدك ، أسألك ، إني أبيع الإبل بالبقيع ، فأبيع بالدنانير ، وآخذ الدراهم ، وأبيع بالدراهم ، وآخذ الدنانير ، آخذ هذه من هذه ، وأعطي هذه من هذه ؟ فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ، ما لم تفترقا وبينكما شيء } .

قال أحمد : إنما يقضيه إياها بالسعر . لم يختلفوا أنه يقضيه إياها بالسعر ، إلا ما قال أصحاب الرأي ، إنه يقضيه مكانها ذهبا على التراضي ; لأنه بيع في الحال ، فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس ، كما لو كان العوض عرضا . ووجه الأول قول النبي : صلى الله عليه وسلم " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها " .

وروي عن ابن عمر : أن بكر بن عبد الله المزني ، ومسروقا العجلي ، سألاه عن كري لهما ، له عليهما دراهم ، وليس معهما إلا دنانير ؟ فقال ابن عمر : أعطوه بسعر السوق . ولأن هذا جرى مجرى القضاء ، فيقيد بالمثل ، كما لو قضاه من الجنس ، والتماثل هاهنا من حيث القيمة ; لتعذر التماثل من حيث الصورة . قيل لأبي عبد الله : فإن أهل السوق يتغابنون بينهم بالدانق في الدينار وما أشبهه ؟ فقال : إذا كان مما يتغابن الناس به فسهل فيه ، ما لم يكن حيلة ، ويزاد شيئا كثيرا .

( 2853 ) فصل : فإن كان المقضي الذي في الذمة مؤجلا ، فقد توقف أحمد فيه . وقال القاضي : يحتمل وجهين ; أحدهما المنع وهو قول مالك ، ومشهور قولي الشافعي ; لأن ما في الذمة لا يستحق قبضه ، فكان القبض ناجزا في أحدهما ، والناجز يأخذ قسطا من الثمن والآخر الجواز ، وهو قول أبي حنيفة ; لأنه ثابت في الذمة بمنزلة المقبوض ، فكأنه رضي بتعجيل المؤجل . والصحيح الجواز ، إذا قضاه بسعر يومها ، ولم يجعل للمقضي فضلا لأجل تأجيل ما في الذمة ; لأنه إذا لم ينقصه عن سعرها شيئا ، فقد رضي بتعجيل ما في الذمة بغير عوض ، فأشبه ما لو قضاه من جنس الدين ، ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر حين سأله ، ولو افترق الحال لسأل واستفصل . ( 2854 )

فصل : قال أحمد : ولو كان لرجل على رجل عشرة دراهم ، فدفع إليه دينارا ، فقال : استوف حقك منه . فاستوفاه بعد يومين ، جاز . ولو كان عليه دنانير ، فوكل غريمه في بيع داره ، واستيفاء حقه من ثمنها ، فباعها بدراهم ، لم يجز أن يأخذ منها قدر حقه ; لأنه لم يأذن له في مصارفة نفسه ، ولأنه متهم . ولو باع جارية بدنانير ، فأخذ بها دراهم ، فردت الجارية بعيب أو إقالة ، لم يكن للمشتري إلا الدنانير ; لأنه الثمن الذي وقع عليه العقد ، وإنما أخذ الدراهم بعقد صرف مستأنف . نص أحمد على هذه المسائل .

التالي السابق


الخدمات العلمية