صفحة جزء
( 2868 ) فصل : ولا يجوز أن يشتري أكثر من خمسة أوسق ، فيما زاد على صفقة ، سواء اشتراها من واحد أو من جماعة . وقال الشافعي : يجوز للإنسان بيع جميع ثمر حائطه عرايا ، من رجل واحد ، ومن رجال ، في عقود متكررة ; لعموم حديث زيد وسهل ، ولأن كل عقد جاز مرة ، جاز أن يتكرر ، كسائر البيوع .

ولنا ، عموم النهي عن المزابنة ، استثنى منه العرية فيما دون خمسة أوسق ، فما زاد يبقى على العموم في التحريم . ولأن ما لا يجوز عليه العقد مرة إذا كان نوعا واحدا ، لا يجوز في عقدين ، كالذي على وجه الأرض ، وكالجمع بين الأختين ، فأما حديث سهل فإنه مقيد بالنخلة والنخلتين ; بدليل ما روينا ، فيدل على تحريم الزيادة عليهما ، ثم إن المطلق يحمل على المقيد كما في العقد الواحد . فأما إن باع رجل عريتين من رجلين فيهما أكثر من خمسة أوسق جاز .

وقال أبو بكر والقاضي : لا يجوز ; لما ذكرنا في المشتري . [ ص: 59 ] ولنا أن المغلب في التجويز حاجة المشتري ; بدليل ما روى محمود بن لبيد قال : { قلت لزيد بن ثابت : ما عراياكم هذه ؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار ، شكوا إلى رسول الله أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه ، وعندهم فضول من التمر ، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونه رطبا . } وإذا كان سبب الرخصة حاجة المشتري ، لم تعتبر حاجة البائع إلى البيع ، فلا يتقيد في حقه بخمسة أوسق .

ولأننا لو اعتبرنا الحاجة من المشتري وحاجة البائع إلى البيع ، أفضى إلى أن لا يحصل الإرفاق ، إذ لا يكاد يتفق وجود الحاجتين ، فتسقط الرخصة . فإن قلنا : لا يجوز ذلك ، بطل العقد الثاني . فإن اشترى عريتين أو باعهما ، وفيهما أقل من خمسة أوسق ، جاز ، وجها واحدا . ( 2869 ) الفصل الثالث ، أنه لا يشترط في بيع العرية أن تكون موهوبة لبائعها . هذا ظاهر كلام أصحابنا . وبه قال الشافعي . وظاهر قول الخرقي ، أنه شرط .

وقد روى الأثرم ، قال : سمعت أحمد سئل عن تفسير العرايا . فقال : العرايا أن يعري الرجل الجار أو القرابة للحاجة أو المسكنة ، فللمعري أن يبيعها ممن شاء . وقال مالك : بيع العرايا الجائز هو أن يعري الرجل الرجل نخلات من حائطه ، ثم يكره صاحب الحائط دخول الرجل المعري ; لأنه ربما كان مع أهله في الحائط ، فيؤذيه دخول صاحبه عليه ، فيجوز أن يشتريها منه . واحتجوا بأن العرية في اللغة هبة ثمرة النخيل عاما . قال أبو عبيد : الإعراء ، أن يجعل الرجل للرجل ثمرة نخله عامها ذلك . قال الشاعر الأنصاري يصف النخل :

ليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح

يقول : إنا نعريها الناس . فتعين صرف اللفظ إلى موضوعه لغة ومقتضاه في العربية ، ما لم يوجد ما يصرفه عن ذلك .

ولنا ، حديث زيد بن ثابت ، وهو حجة على مالك ، في تصريحه بجواز بيعها من غير الواهب ، ولأنه لو كان لحاجة الواهب لما اختص بخمسة أوسق ، لعدم اختصاص الحاجة بها . ولم يجز بيعها بالتمر ; لأن الظاهر من حال صاحب الحائط الذي له النخيل الكثير يعريه الناس ، أنه لا يعجز عن أداء ثمن العرية ، وفيه حجة على من اشترط كونها موهوبة لبائعها ; لأن علة الرخصة حاجة المشتري إلى أكل الرطب ، ولا ثمن معه سوى التمر ، فمتى وجد ذلك ، جاز البيع .

ولأن اشتراط كونها موهوبة مع اشتراط حاجة المشتري إلى أكلها رطبا ، ولا ثمن معه ، يفضي إلى سقوط الرخصة ، إذ لا يكاد يتفق ذلك . ولأن ما جاز بيعه إذا كان موهوبا ، جاز وإن لم يكن موهوبا ، كسائر الأموال ، وما جاز بيعه لواهبه ، جاز لغيره ، كسائر الأموال ، وإنما سمي عرية لتعريه عن غيره ، وإفراده بالبيع .

( 2870 ) الفصل الرابع : أنه إنما يجوز بيعها بخرصها من التمر ، لا أقل منه ولا أكثر ويجب أن يكون التمر الذي يشتري به معلوما بالكيل ، ولا يجوز جزافا . لا نعلم في هذا عند من أباح بيع العرايا اختلافا ; لما روى زيد بن ثابت ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا . } متفق عليه ولمسلم ، أن تؤخذ بمثل خرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا . ولأن الأصل اعتبار الكيل من الطرفين ، سقط في أحدهما للتعذر ، فيجب في الآخر بقضية الأصل . ولأن ترك الكيل من الطرفين يكثر الغرر ، وفي تركه من أحدهما يقلل الغرر ، ولا يلزم [ ص: 60 ] من صحته مع قلة الغرر ، صحته مع كثرته .

ومعنى خرصها بمثلها من التمر ، أن يطيف الخارص بالعرية ، فينظر كم يجيء منها تمرا ، فيشتريها المشتري بمثلها تمرا . وبهذا قال الشافعي . ونقل حنبل عن أحمد ، أنه قال : يخرصها رطبا ، ويعطي تمرا رخصة . وهذا يحتمل الأول ، ويحتمل أنه يشتريها بتمر مثل الرطب الذي عليها ; لأنه بيع اشترطت المماثلة فيه ، فاعتبرت حال البيع كسائر البيوع . ولأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال ، وأن لا يباع الرطب بالتمر . خولف الأصل في بيع الرطب بالتمر ، فيبقى فيما عداه على قضية الدليل .

وقال القاضي : الأول أصح ; لأنه يبنى على خرص الثمار في العشر والصحيح ، ثم خرصه تمرا . ولأن المماثلة في بيع التمر بالتمر معتبرة حالة الادخار ، وبيع الرطب بمثله تمرا يفضي إلى فوات ذلك . فأما إن اشتراها بخرصها رطبا ، لم يجز . وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي . والثاني يجوز . والثالث ، لا يجوز مع اتفاق النوع ، ويجوز مع اختلافه .

ووجه جوازه ، ما روى الجوزجاني ، عن أبي صالح ، عن الليث ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن زيد بن ثابت ، { عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب ، أو التمر ، ولم يرخص في غير ذلك . } ولأنه إذا جاز بيع الرطب بالتمر مع اختصاص أحدهما بالنقص في ثاني الحال ، فلأن يجوز مع عدم ذلك أولى . ولنا ، ما روى مسلم بإسناده عن زيد بن ثابت ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص في العرايا أن تؤخذ بمثل خرصها تمرا . } وعن سهل بن أبي حثمة ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر ، وقال : ذلك الربا ، تلك المزابنة . إلا أنه رخص في العرية ، النخلة والنخلتين ، يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا ، يأكلونها رطبا . }

ولأنه مبيع يجب فيه مثله تمرا ، فلم يجز بيعه بمثله رطبا ، كالتمر الجاف . ولأن من له رطب فهو مستغن عن شراء الرطب بأكل ما عنده ، وبيع العرايا يشترط فيه حاجة المشتري ، على ما أسلفناه .

وحديث ابن عمر شك في الرطب والتمر ، فلا يجوز العمل به مع الشك ، سيما وهذه الأحاديث تبينه ، وتزيل الشك .

التالي السابق


الخدمات العلمية