صفحة جزء
( 3175 ) فصل : واختلفت الرواية في بيع رباع مكة وإجارة دورها ، فروي أن ذلك غير جائز . وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأبي عبيد . وكره إسحاق ; لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { في مكة : لا تباع رباعها ، ولا تكرى بيوتها } . رواه الأثرم بإسناده . وعن مجاهد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : مكة حرام بيع رباعها ، حرام إجارتها . } وهذا نص رواه سعيد بن منصور ، في " سننه " . وروي أنها كانت تدعى السوائب ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره مسدد في " مسنده " ، ولأنها فتحت عنوة ، ولم تقسم ، فكانت موقوفة ، فلم يجز بيعها ، كسائر الأرض التي فتحها المسلمون عنوة ، ولم يقسموها ، والدليل على أنها فتحت عنوة ، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { : إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وأنها لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار . } متفق عليه وروت أم هانئ قالت { : أجرت حموين لي ، فأراد علي أخي قتلهما ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إني أجرت حموين لي ، فزعم ابن أمي علي أنه قاتلهما . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت ، أو أمنا من أمنت يا أم هانئ . } متفق عليه ، ولذلك { أمر النبي صلى الله عليه وسلم : بقتل أربعة فقتل منهم ابن خطل ، ومقيس بن صبابة } ، وهذا يدل على أنها فتحت عنوة . والرواية الثانية ، أنه يجوز بيع رباعها ، وإجارة بيوتها .

وروي ذلك عن طاوس وعمرو بن دينار . وهذا قول الشافعي وابن المنذر . وهو أظهر في الحجة ; لأن { النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له : أين ننزل غدا ؟ قال : وهل ترك لنا عقيل من رباع ؟ } متفق عليه . يعني أن عقيلا باع رباع أبي طالب ; لأنه ورثه دون إخوته ; لكونه كان على دينه دونهما ، فلو كانت غير مملوكة ، لما أثر بيع عقيل ، شيئا ، ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت لهم دور بمكة لأبي بكر والزبير وحكيم بن حزام وأبي سفيان ، وسائر أهل مكة ، فمنهم من باع ، ومنهم من ترك داره ، فهي في يد أعقابهم .

وقد باع حكيم بن حزام دار الندوة ، فقال ابن الزبير : بعت مكرمة قريش . فقال : يا ابن أخي ، ذهبت المكارم إلا التقوى . أو كما قال . واشترى معاوية دارين . واشترى عمر دار السجن من صفوان بن أمية ، بأربعة آلاف .

ولم يزل أهل مكة يتصرفون في دورهم تصرف الملاك ، بالبيع وغيره ، ولم ينكره منكر ، فكان إجماعا ، وقد قرره النبي صلى الله عليه وسلم بنسبة [ ص: 178 ] دورهم إليهم ، فقال { : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن } . وأقرهم في دورهم ورباعهم ، ولم ينقل أحدا عن داره ، ولا وجد منه ما يدل على زوال أملاكهم ، وكذلك من بعده من الخلفاء ، حتى إن عمر رضي الله عنه مع شدته في الحق ، لما احتاج إلى دار السجن ، لم يأخذها إلا بالبيع . ولأنها أرض حية لم يرد عليها صدقة محرمة ; فجاز بيعها كسائر الأرض ، وما روي من الأحاديث في خلاف هذا ، فهو ضعيف .

وأما كونها فتحت عنوة ، فهو الصحيح ، الذي لا يمكن دفعه ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهلها فيها على أملاكهم ورباعهم ، فيدل ذلك على أنه تركها لهم ، كما ترك لهوازن نساءهم وأبناءهم . وعلى القول الأول ، من كان ساكن دار أو منزل فهو أحق به ، يسكنه ويسكنه ، وليس له بيعه ، ولا أخذ أجرته ، ومن احتاج إلى مسكن ، فله بذل الأجرة فيه ، وإن احتاج إلى الشراء فله ذلك ، كما فعل عمر رضي الله عنه . وكان أبو عبد الله إذا سكن أعطاهم أجرتها . فإن سكن بأجرة فأمكنه أن لا يدفع إليهم الأجرة ، جاز له ذلك ; لأنهم لا يستحقونها ، وقد روي أن سفيان سكن في بعض رباع مكة ، وهرب ، ولم يعطهم أجرة ، فأدركوه ، فأخذوها منه . وذكر لأحمد فعل سفيان ، فتبسم ، فظاهر هذا ، أنه أعجبه .

قال ابن عقيل : والخلاف في غير مواضع المناسك ، أما بقاع المناسك كموضع السعي والرمي ، فحكمه حكم المساجد ، بغير خلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية